أجلُّ رحلة وأجمل ذكرى!
فن الكتابة عن الرحلات ماتع بعيد عن الملل؛ لأنه يجمع بين العلم والأدب، ويشتمل على المعلومة والوصف، ويضم الخبر والتحليل، ويحوي أشياء عن الإنسان والمكان والزمان والأحوال، إضافة إلى تشابك علوم كثيرة فيه يزينها جمال السرد، وحلاوة الأسلوب، والقدرة على الجذب والتشويق. وقد جمعت رحلة الحج هذه المزايا كلها إضافة لكونها رحلة فيها تعبد وتفقه ولقيا وتغيير، وإشراقة روح الإنسان بين يدي مولاها.
وربما أتجرأ على القول بأن رحلة حج النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم هي أول رحلة حج موثقة بالكامل، ومنقولة بالسند، عبر الأحاديث المروية في دواوين السنة المطهرة من صحاح ومسانيد وزوائد وغيرها، وأطولها هو حديث جابر رضي الله عنه. ثم حدث بعد تراخ في الكتابة داخل هذا الحقل المعرفي، إلى أن زادت وتيرة التدوين عنه في القرن الهجري السادس، فألَّف المصنفون عن رحلة الحج في كتاب خاص، أو ضمن كتاب رحلة عامَّة سطر مؤلفها داخلها أخبار سفره إلى الحج والحجاز.
كما امتدت خريطة الكتابة عن رحلات الحج في التخصص والمكان والزمان والحال واللغة والدين والغاية حتى شملت العلماء والأدباء والبلدانيين والمؤرخين والمستشرقين، من المغرب الإسلامي، وبلدان المشرق، وديار الهند وتركيا، واليابان والصين، إضافة إلى بلاد أجنبية في أوروبا وأمريكا. وجاء بعضهم للديار المقدسة في رحلة شخصية، أو مرافقًا لزعيم، أو على رأس موكب حجاج بلاده، ومنهم من استضيف من قبل حكَّام الحجاز، ولا تخلو الرحلات من أصحاب مشاريع سياسية واستطلاعية، ومع كثرة ما كتب فيها فلا يزال روضها خصيبًا قابلًا للمزيد.
كذلك نرى في كتب الرحلة إلى الحجاز والحج مؤلفات قديمة وحديثة، فمن أشهر القديمة رحلة ابن بطوطة التي أودع فيها خبر سبع حجات وفقه الله إليها وعنوانها: تحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ومن أغزرها فائدة ومتانة علمية وأطولها مادة رحلة ابن السبتي بعنوان: ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة. ولابن جبير والعياشي والمكناسي وغيرهم رحلات مفردة أو متداخلة ضمن كتبهم، وهي كتب كثيرة يصعب حصرها.
ومن الرّحلات المهمة في هذا الباب رحلة الشَّيخ المفسر الشِّنقيطي بعنوان: رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، وفيها مسائل علمية متنوعة في الأصول والفقه واللغة، وكتاب :مرآة الحرمين تأليف اللواء إبراهيم رفعت أمير موكب الحج المصري خلال خمسة أعوام متتالية (1318-1323). ومما كتبه العلماء والأدباء المعاصرون رحلة الأمير شكيب أرسلان بعنوان: الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف، ومشعل المحمل لمحمد صادق، ومن نفحات الحرم الطنطاوي، ورحلة حجازية للحجوي.
أما محليًا فلا يمكن تجاوز رحلات الملك عبدالعزيز للحجاز والحج، وأذكر أن باحثة في التاريخ المكي استعانت بي لأقترح عليها موضوعًا بحثيًا لرسالة ماجستير أو دكتوراة؛ فذكرت لها هذه الرحلات الملكية، وقد لاقت الفكرة قبولًا من مشرفها والأقسام العلمية بجامعتها، والله يوفقها لإنهائها. ومما يذكر عن هذه الحلات ما كتبه الشيخ يوسف ياسين في وصف إحداها على اختصاره، ومن بركات ذلكم التدوين أن تعرفنا إلى طرف من إبداع الراوية الأديب الشيخ عبدالله العجيري الذي رافق الموكب منادمًا للملك وسميرًا لمن معه.
وقد اعتنى بعض المؤلفين بتتَّبع كتب رحلات الحج مثل كتاب: أشهر رحلات الحج للشيخ الجاسر، وكتاب: المختار من الرّحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النَّبوية الذي اختصر فيه جامعه د.الشريف في أربعة مجلدات أكثر من عشرين كتابًا عن رحلات الحج القديمة والحديثة. وأصدر الأستاذ أحمد محمود كتابًا عنوانه: رحلات الحج في ثلاثة أجزاء، وقصره على رحلات الحج خلال القرون الثَّلاثة الأخيرة. وللدكتور سمير عبدالحميد نوح كتاب حافل عنوانه: الجزيرة العربية في أدب الرحلات الأردي الذي وقف فيه مع رحلات الهنود للحج وقفة ضافية، وللمؤرخة التركية سلجوق إسينبل كتاب فريد عنوانه: الحج كعلاقات دولية: حجاج يابانيون إلى مكة بين 1909-1938.
ولم يفت على المؤرخ السوداني د.عبدالعزيز عبدالغني الإشارة إلى رحلات الحج وما كتبه الرحالة عن الحجاز حينما استل لباب كتب رحلاتهم الطويلة عبر أربعة قرون في ثلاثة أجزاء أنيسة. وللدكتور عبالهادي التازي كتاب عنوانه: رحلة الرحلات مكة في مئة رحلة مغربية، ومن الملاحظ كثرة الكتابة الأندلسية والمغاربية والإفريقية عن رحلات الحج، والمغرب هي بوابة مكة لحجاج الأندلس وغرب إفريقيا، بينما أصبحت مصر منفذ شرق إفريقيا للديار المقدسة، ولذلك يكثر الحديث عن المغرب ومصر في رحلات حجاج غرب إفريقيا وشرقها. ومن اللطيف كتاب عنوانه: طرائف الحجيج للدكتور عثمان أبو زيد.
ولبعض المراكز التاريخية عناية حديثة بكتب الرحلات للحج وبجميع ما يخص شؤون مكة مثل مركز تاريخ مكة التابع لدارة الملك عبدالعزيز، كما أن هيئة أبو ظبي للثقافة دأبت على إصدار ترجمات لكتب الرحلات الغربية إلى الجزيرة العربية بطبعات فخمة وبعضها خاص برحلة الحج أو فيه شيء عن الحجاز والحج، ولدارة السويدي الثقافية في أبو ظبي مشروع اسمه: مئة كتاب عن رحلات الحج، وربما أن المشروع القومي للترجمة في مصر قد شارك في هذا الباب؛ ولكن لا تحضرني أسماء الكتب.
ومن طريف ما يشار إليه أن كتب الرحلات للحج تكاد أن تخلو من كتاب ألفته امرأة، والمعروف من هذه الرحلات المدونة بأقلام النساء رحلة كتبتها أميرة بهوبال الهندية، ورحلة أخرى ألفتها ابنتها فيما بعد، وللأديبة المصرية بنت الشاطئ د.عائشة عبدالرحمن رحلة بعنوان: أرض المعجزات. وقد صاغ بعض الشعراء شيئًا من أجزاء رحلة الحج شعرًا، ولم أجد من خلال بحث سريع أيّ رحلة حج شعرية كاملة، ومما يروى أن الشاعر الكبير أحمد شوقي تأخر عن مصاحبة أحد ملوك مصر في رحلته إلى الحج خوفًا من المشقة أو غير ذلك؛ ثمّ تألقت قريحته بقصيدته الذائعة إلى عرفات الله.
كما أن الحج كان فرصة للمغامرة من قبل المستشرقين والجواسيس، الذين وفدوا على عالمنا لمعرفته وفهمه، وتفسير سبب نشاط المسلمين الهنود في مقاومة المحتل الإنكليزي بعد قفولهم من الحج مباشرة، أو للظفر بفتوى ضلالة تردع أهل الجزائر الشجعان عن مجاهدة المحتل الفرنسي، ولربما أن ما كتبه بعضهم كان دليلًا خدم هولندا في احتلال جزر المسلمين في جاوة وما جاورها، والله يكفينا بغيهم وشرورهم.
ويقابل هؤلاء المجرمين بعض أبناء بلادهم الذين عمر الإيمان قلوبهم، مثل النمساوي محمد أسد، والأمريكي جفري لانج، وبلديه الزعيم الإفروأمريكي مالكوم إكس الذي غيرت رحلة الحج مسيرته ومعالم حياته، ومثلهم المجري عبدالكريم جرمانوس الذي وصف الحج ومجرياته بأنه لحظة من لحظات الإشراق الروحي. وعلى الضفة الأخرى كتب الياباني تاكيشي سوزوكي قصته بعنوان: ياباني في مكة، وقد سبقه بلديه الحاج تانكا بكتاب عنوانه: رحلة الحج: السحاب الأبيض الطافي على صفحة الأفق. ولإخواننا مسلمي الصين مشاركة عبر كتاب عنوانه: مذكرات رحلة إلى مكة المكرمة لمؤلفه مادا شين الذي كتبه باللغة العربية التي يجيدها أول الأمر ثمّ انتشرت نسخه بلغة صينية وعنها ترجم.
أشير أخيرًا إلى أن أدب الكتابة عن رحلات الحج لم يتوقف، وأتصور أن الأعوام القادمة سوف تشهد المزيد من أمثال هذه الكتب التي تصف الموسم وأحداثه وترتيباته وغير ذلك. وفي العقود الأخيرة ظهرت مؤلفات بمناحي فكرية وروحية، مثل كتاب الأستاذ الجامعي المغربي د.حسن أوريد رواء مكة، وكتاب عالم الاجتماع الإيراني د.علي شريعتي بعنوان: الحج الفريضة الخامسة الذي أفدت منه في كتاب مقالة من مقالات الحج الكثيرة في مدونتي.
أسأل الله أن يجعل موسم الحج عامرًا كل عام بملايين الحجاج، وأن يمتن عليهم بالتسهيل والتيسير والقبول والغفران فهم ضيوفه الذين جاءوا تلبية لدعوة خليله بعد أن أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج؛ وإنها لدعوة بلغت الآفاق، وستظل تصدح في آذان الدنيا ومن فيها. وأضرع لمولاي بأن يجزي كل من شارك في خدمة الحجيج خيرًا، وأن يجعلهم محتسبين موفقين، حامدين لله هذا الفضل والاختصاص، متوكلين عليه في كل إجراء، مستعينين به في أيّ خطة، ولن يضل الله الأعمال المخلصة لنفع عباده الآتين من كل فج عميق.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-مزدلفة
الأحد أول أيام التشريق عام 1443
10 من شهر يوليو عام 2022م