إدارة وتربية سير وأعلام

هناء ودانية: نماذج رائدة!

هناء ودانية: نماذج رائدة!

لو استعرضنا ذهنيًا بدون استقصاء ما تعرض له دين الإسلام والمسلمون المؤمنون به منذ ظهوره إلى يومنا هذا، وتوقعنا ما سيحدث إلى قيام الساعة بناء على ما كان وما هو كائن؛ فسوف نجد أن هذا الدين وأهله واجهوا أصنافًا لا تحصى من التنكيل المادي والمعنوي، ففقدوا من إثر ذلك الحياة والحرية والراحة، ولربما التبس على بعضهم الأمر بتحريف أو تأويل أو تبديل. ومع أن الذي جرى ويجري كفيل باستئصال أيّ دين واجتثاث أهله، إلّا أن الواقع يثبت بأن جهود الأعداء صارت هباء منثورًا، وغدت أموالهم المنفقة للصدّ عن سبيل الله حسرة عليهم ووبالًا.

وإذا أردنا قصر الحديث عن المرأة المسلمة، فسنري أنه نالها نصيب كبير من الإيذاء الجسدي بالقتل والحبس، وقدر من العدوان المادي والمعنوي بمحاولات هتك الستر، إضافة إلى رميها زورًا بما هي منه براء وهو محض قذف، مع السعي لتهوين شأن الرسالة والنصوص الشرعية والأحكام الدينية عندها، وإحداث أسباب تقود لتيتمها أو ترملها أو لجوئها. وباء بإثم هذه الكبائر والموبقات مجرمون كبار على رأسهم أبو جهل، وحيي بن أخطب، وعبدالله بن أبي بن سلول، ومسيلمة الكذاب، وجنودهم، والمتحالفون معهم، والسائرون على خطاهم الخاطئة ممن سيلتقون معهم في قعر جهنم ما لم يتوبوا ويؤمنوا ويحسنوا قبل نزول الموت بهم.

ومع ذلك فالمرأة المسلمة تقدم البراهين تلو البراهين على فشل منظومة الإفساد ونشر الرذيلة، وتعتصم بالله مخلصة له، متبعة لنبيه وأمهات المؤمنين، وتضع أمام الدنيا بما فيها من أبالسة أنصع المرايا التي تبين عن صدق ديانتها، وعمق تصونها، وأنها شريكة لشقيقها الرجل بالصبر والمصابرة والمجاهدة، تؤدي ما عليها قدر استطاعتها، ولا تلتفت لإفك أو إرجاف أو تزيين، حتى إن خاطب المخادعون أنوثتها الغضة، وانطلقوا مما نشأت على حبه من زينة وحلية ونعومة، وحاولوا استثارة عواطفها الفياضة بالمعاني الجميلة غير المستنكرة إذا كانت في مسارها الصواب، وسياقها المحفوف بناموس الشرع المطهر، وقويم الأعراف والعادات.

وفي عامنا هذا وفي السنوات الأخيرة، تأتي مع الفواجع ومصيبة الموت التي يُسترجع منها بشائر تعزز هذه الحقائق وترسخها، وذلك حينما تضج الوسائل بنعي فتاة حيية مؤمنة متصونة ارتحلت عن الدنيا على حين غرة، وفجأة دون سابق نذير أو مرض، فتذهب للقاء مولاها وهي عروس، أو على وشك الزواحج، أو في أوج الشباب ونضارة الإقبال على الحياة ومتعها، وتطير محلقة في سماء الطهر والعفاف، تحوطها تربية بيتية موفقة، ويحميها حرز قرآني من الحفظ والورد، ويزينها عمل صالح ظاهر وخفي من الطاعات الفردية والعامة ذات النفع المتجاوز للحدود الشخصية والأسرية.

فمن الأمثلة الحاضرة في الذهن التفاعل الكبير مع وفاة الفتاة الصالحة هناء الماضي، ثمّ مثيله بعد وفاة الفتاة الحافظة دانية العريني، وأذكر قصصًا أخرى لفتيات أجبن داعي الله قبل عصر وسائل الإعلام الجديد، فبلغ نعيهن المشرق والمغرب، وبكتهن العيون والقلوب في بقاع شتى، وبعض من بكى وأهاج البواكيا سمع عنهن دون أن يعرف أشخاصهن، ويكفيك من سماع ما فيه من زكاء وحسن أحدوثة وخبر. وإن تلك الأمثلة الباهرة لنماذج رائدة تحكي عن المرأة المسلمة المستجيبة لأمر ربها، الوفية لوالديها، المراعية لعراقة أسرتها، الموقرة لأعراف مجتمعها الصحيحة، وهي في الغالب المنجزة المربية للأجيال القوية المفيدة البعيدة عن التراخي والذبول والخور، ولعلهن ممن جُعل لهن لسان صدق في الآخرين.

وإن هذا التفاعل ليحمل دلالات على استمرار موقف الثبات للمرأة المسلمة في وجه طغيان الشبه من كل صوب، وسيطرة الشهوات في كل شبر، وفيه تأكيد على ما يلي من معالم:

  1. كثرة الصلاح في مجتمعات المسلمين، وفي النساء، بل وفي فئة الشباب منهن.
  2. تقدير الناس العفوي للتدين وأهله دون التفات لتكرار التشويه، وتوالي الافتراء، ومحاولات اختطاف المواقف والقلوب، وهو تقدير لقانتات خفيات لم يحظين بشهرة إعلامية، أو ترويج مصطنع أو مبالغ فيه.
  3. وفاء الصالحين والصالحات لبعضهم، ولا غرو فمن كان القرآن شأنه وخلقه، فسوف يهديه للتي هي أقوم، ومن ذلك الوفاء وحسن العهد.
  4. مركزية الآثار المنزلية والأسرية والمجتمعية في التربية الخلقية والإيمانية، وفي التزكية والسمو الروحي، ولو عاش المرء في بيئة تعج بالمنكرات والملهيات والمعيقات، فلا تتراجع أيها المربي وأيتها المربية.
  5. يمكن للفتاة – والفتى طبعًا- أن يستمتع الواحد منهم بطيبات الحياة الدنيا وزينتها، وينال من مباهجها، وأن يكون صالحًا مصلحًا في الوقت نفسه؛ فديننا ليس فيه رهبانية ولا غلو ولا إرجاء.
  6. للقبول الإلهي من فوق سبع سموات سر لا يعلمه إلّا الله؛ وهو الذي يصنع من الفرق مالا تقوى عليه أيّ وسيلة ودعاية على كثرة ما يصرف من جهود وأوقات وأموال من أجل تلميع أقوام لا خلاق لهم، والنتيجة زيادة النفرة منهم، والإعراض عنهم.

ومع هذا الإقبال نحو الصالحات الحافظات القانتات نجد أن سواد الأمة لا يأبهون لنساء يرحلن وإن كنّ في الحياة ممن خلب الألباب واستحوذ على الاهتمام وأمتع العيون والآذان، فيزيد الإهمال لهن بعد وفاتهن ليس من زملاء المهنة وإخلاء الدنيا فقط؛ بل من عامة الناس الذين يستقبلون كمية مهولة من ضخ إعلامي مخيف يستجدي التأثر الإيجابي مع متوفاة ليس لها من رصيد سوى ما يعرفه الناس عنها في القاعات والمسارح والشاشات وتطبيقات الإعلام الجديد، والله أعلم بالسر وأخفى، وعسى أن تدرك المسلمة منهن رحمة من الرحيم، فيسخر من يستغفر لها ويعمل الصالحات من أجلها، ولسنا نجزم بمصير أحد، وإنما نشفق على أنفسنا وعلى إخواننا من الغفلة المتناهية التي لا تكون اليقظة منها إلّا في القبر؛ ويا لها من يقظة تجلب الحسرة ولا تفيد صاحبها! والحمدلله أن باب التوبة والأوبة مفتوح مشرع بلا حواجز ولا وسيط ولا رسوم أو غرامات.

أشير قبل النهاية إلى أن المرأة المسلمة وقفت ممانعة ضد استخدامها لإفساد مجتمعها وبنات جنسها، وأبت الانصياع لإغراءات النجومية، أو المال، أو المنصب، ولم يسلك غالبيتهن تلك الطرق الموبوءة المزينة بأوصاف تخفي حقيقتها النكدة المرة على من دخلت إلى دهاليزها قبل غيرها، ولأجل هذا لجأ المفسدون إلى استئجار أو استخدام نساء لا يرتبطن مع نسيج هذه الأمة، أو لديهن من السوابق المشينة ما يجعل بعضهن مكبلة مختنقة، ولو تشجعت لكسرت عنها القيد والغل، وتحررت من رقّ الأشرار، ووحل الاقتراب منهم.

فاللهم وفق بناتنا لكل خير، وثبتهن على البر والإحسان، وزدهن من الخيرات والبركات في شؤونهن كافة، وسخر لهن الآباء والإخوة والأزواج والأبناء والحفدة، واعذهن من الفساد وأربابه من بشر ووسائل ومنظمات وأفكار، واجعل السعادة رفيقة دائمة لهن، مع الأنس بالقربات والطاعات، والسرور بالأسرة والتعاضد، والانشراح بصالح العمل وصادق الأمل. وإن هذه النماذج الطاهرة النقية- هناء ودانية وأخواتهن الكثر- ممن يصدق عليهن أنهن بناتنا، بنات القرى والنواحي والمدن، بنات القبائل، بنات الحمائل، بنات العرب والمسلمين، ولهن كلهن بلا مثنوية صادق الدعوات، وخالص الود، والله يعفو عنا وعنهن، ويكفينا بقدرته وقوته السوء وصنّاعه الظاهرين والأخفياء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 19 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443

19 من شهر يونيو عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. رحم الله الاموات من البنات المسلمات الصالحات واسكنهم جنات الفردوس. والهم اهليهم الصبر والسلوان . وحفظ الاحياء منهن ورزقهم الازواج الصالحة التي تساعدهم على طاعة الله . ورزقهم الذرية الصالحة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)