سير وأعلام

الحذيفي: إمام الحرمين وشيخ الإقراء

الحذيفي: إمام الحرمين وشيخ الإقراء

في أواخر شهر رمضان المبارك من عام (1415) جفل بعض المصلين العرب حينما أعلن المؤذن عن إقامة صلاة الغائب على الشيخ صالح الخريصي، وشرعوا يسألوننا بشفقة وخوف إن كان المنعي هو الشيخ الحذيفي، فأخبرناهم أن لا، فترحموا على الراحل وحمدوا الله على بقاء الشيخ الذي يعرفونه ويحبونه. وإنه لمن بركة الحرمين على الأئمة والخطباء أن يقذف الله في قلوب الناس محبتهم وتوقيرهم، ويستبين ذلك من البحث عن أخبارهم، والترحيب بزياراتهم، ومتابعة خطبهم وتلاواتهم، وإنها لمسؤولية عظيمة ثقيلة، وإنها لفرصة سانحة ميسورة للتواصل مع قريب من مليار مسلم تتفوق في احتمالية نجاحها على كثير من المسارات الدبلوماسية والتجارية وغيرها.

ذلكم هو فضيلة الشيخ الدكتور علي بن عبدالرحمن بن علي بن أحمد بن علي بن عبدالرحمن بن رشّاف بن سلمان الحذيفي، نسبة إلى قبيلة آل حذيفة من قبائل العوامر، والعوامر يرجعون إلى بني خثعم. وتقع ديار العوامر بالعرضية الشمالية جنوب مكة، وهي من فروع وادي قنونا. وكانت نشأة الشيخ ودراسته بعد ميلاده منتصف شهر صفر عام (1366) في مدينة بلجرشي التابعة لمنطقة الباحة الرفيعة الأنيسة الواقعة في الجنوب الغربي الأشم للمملكة العربية السعودية.

يمتاز الشيخ المبارك بمزايا علمية ظاهرة، فهو عالم وفقيه حاصل على الشهادة العليا في دراسات فقهية يدخل بعضها في باب السياسة الشرعية، وإضافة إلى ذلك شارك في التعليم العام بالمعاهد العلمية، وفي الجامعة. وله عناية فائقة بضبط القرآن الكريم حفظًا وتلاوة وتجويدًا وإقراءً حتى نال الإجازة الشريفة من كبار المقرئين بالقراءات العشر، وسجل لمصحف المدينة ثلاث ختمات بقراءات مختلفة الأولى برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية، والثانية برواية شعبة عن عاصم، والثالثة برواية قالون عن نافع. ومن التصاقه بالقرآن العزيز اختياره ضمن اللجان العليا والإشرافية في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ذلكم المشروع الخالد الذي وفق له الملك فهد وفريقه ومن جاء بعدهم، وأظن أن طبعته هي الأجود والأشهر.

ليس هذا فقط ما يمتاز به شيخنا الموفق، فهو خطيب رزين له خطب تجمع مع العلم والفقه اللغة والحكمة وهيبة المنابر الشريفة بما لها من استحقاق ولوازم. وللشيخ اجتهادات فقهية جعلته لا يتهيب من قطع صلاة المغرب حتى يتوضأ، ويلتفت التفاتة شرعية خلال صلاته مأمومًا للتأكد من وجود الشيخ المكلف بالفتح على الإمام، وهي لفتة فيها أكثر من فقه وفتح، ويكفي أن تسامع الناس بالحكم الشرعي لها، وهذه من بركات إمامنا الحافظ الكبير. كما أن للشيخ غيرة على الدين والقرآن ومقام الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة الكرام، والله يذب عن وجهه نار الآخرة، ويحمي سيرته ومسيرته من الثقلاء البغضاء.

وللشيخ فرائد ونوادر فيما أعلم، منها أنه أول معاصر أمَّ المصلين خلال تاريخه بجامع قباء، وفي المسجد النبوي، وفي المسجد الحرام، ومن قلة خطبوا على منبر الحرمين، ويتشارك مع الشيخ محمد السبيل في الاجتماع مع أحد أنجاله إمامًا؛ فالشيخ السبيل صلى بالحرم المكي هو ونجله د.عمر رحمهما الله، والشيخ د.الحذيفي أمّ الناس بالحرم المدني هو ونجله د.أحمد حفظهما الله، واجتمع الشيخان الحذيفي الأب والابن في صلوات تهجد وقيام، وأيّ سعادة تغمر قلب الأب المربي الصالح حينما يصلي مأمومًا في روضة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون أحد آثاره وثماره إمامًا في محراب النبي عليه الصلاة والسلام!

كذلك فإن الشيخ الحذيفي ممن تربع على عرش الإقراء في المملكة، وزاحم أكابر المقرئين في العالم الإسلامي، والإقراء علم غير مشتهر في الجزيرة العربية إبان عصورها المتأخرة، وله الآن عودة قوية ميمونة. وللشيخ طلاب في مختلف البلاد، منهم أئمة للحرمين مثل نجله د.أحمد، والشيخ د.عبدالمحسن القاسم وهما من أئمة مسجد المدينة الأطهر، والشيخ د.عبدالله الجهني أحد أئمة مسجد مكة الأقدس وممن صلى بالناس في المسجد النبوي وقباء والقبلتين، إضافة إلى آخرين فيهم مهنيون وأكاديميون وأطباء وغيرهم، وما أعظم الارتباط بالقرآن الكريم وأهله وخدمته؛ فأيّ شرف وفضل وأجر ومحمدة!

أيضًا عرف عن الشيخ تلطفه مع المصلين إذا توافق دخولهم للحرم مع وقت مجيئه، ويظهر على محياه الطيب السمح – ولا أزكي على الله أحدًا- أثر التعبد والطاعة، وأذكر أن مجموعة من الأطباء زاروه في منزله، وحينما هموا بالانصراف طلبوا منه النصيحة؛ فقال لهم: أوتروا بالقرآن ولو ساعة من ليل! فخرجوا وهم في عجب بالغ ساعة يا شيخ وبعضنا ليته يوتر بركعة! فكم يصلي الشيخ إذًا؟! وأخبرني صديق عن زميل له غير مواظب على الطاعات بيد أنه يصاب بخشوع لافت وقشعريرة جسد إذا وقعت في مسامعة تلاوة عذبة للشيخ الحذيفي، والله يجعل قراء الكتاب العزيز وخطباء المنابر ممن يحدثون أحسن الآثار بقراءتهم وخطبهم؛ فالشيخ بعيد عن التنغيم الزائد بالتلاوة المتقنة في الأداء الصوتي تجويدًا ومخارج حروف، وهو بعيد عن السجع المتكلف في الخطابة، والقبول شأن رباني يختص به من يشاء.

ومن لطيف ما يشار إليه أن الشيخ علي الحذيفي هو أقدم أئمة الحرمين الموجودين الآن اطال الله أعمارهم على طاعة ونفع، وليته أن يؤم الحجاج في يوم عرفة بمسجد نمرة بعد التطبيق الصائب بتداول الخطابة دون قصر أو حصر. ومن الطريف أن حلقة من الأصدقاء اجتمعوا قادمين للمدينة النبوية من مناطق عديدة قبل عقد من الزمان أو أكثر؛ فقال أحدهم: ليت أن أئمة التراويح في المسجد النبوي يكونون الليلة من القراء الشباب! فكاد أن يفرط عليه واحد من الحاضرين الذين ثنوا ركبهم عند شيخنا الحذيفي ونالوا منه الإجازة لولا أنه مال إلى الحكمة والهدوء؛ ثمّ طلب هذا الحافظ من بعض صحبه أن يزجروا رفيقهم عن مثل هذا الرأي. ولحضور الشيخ إمامًا نكهة يجدها المصلون وراءه، ويعيشها الشيخ الكبير الذي واصل الإمامة حتى مع كون نجله إمامًا في المكان الجليل ذاته.

ومما يشار إليه لأهميته ولدلالته في نقض بعض المقولات الشائعة مع أنها خاطئة، أن فضيلة شيخنا إمام قديم صلى بالحرمين منذ ما يزيد على أربعة عقود، وهو لا ينتمي إلى منطقة الوسط، وهذه الخصيصة الجميلة زادت في الآونة الأخيرة ولم تكن مفقودة من الأساس خاصة في مسجد النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام. وهذه المقولة المجانبة للصواب المتجانفة عن الدقة تشبه أختها الأخرى الظالمة التي تصف هيئة كبار العلماء في المملكة بأنها حنبلية خالصة مع أن الهيئة منذ نشأتها عام (1391) حتى يومنا وهي تجمع المذاهب الفقهية كلها، وغاية هذا التنويه تنبيه العقل وتحذيره من التسليم والانسياق، ودفع الحجب التي تحول دون المفاتشة أو الفحص.

حفظ الله الشيخ الدكتور علي الحذيفي وأنجاله وطلابه، وأدام فينا ولنا مسيرة الخيرية والصلاح والإصلاح التي يبرز فيها أولئك القدوات، فيكون الواحد منهم نموذجًا للأجيال، وممثلًا للبلاد، ومن خيرة معلمي الخير الذين يرتبطون طوال حياتهم بالقرآن الكريم، ونشر السنة، وبث العلوم، ويا سعادة من تتاح له الفرصة ليكون له مقام تدريس في أحد الحرمين الشريفين، وموضع خطابة فوق منبرهما العالمي المؤثر، ونصيب من محرابهما الطاهر المشاهد، ويا لها من مسؤولية وأيّ مسؤولية!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-مكة

 ahmalassaf@

الأربعاء 17 من شهرِ شوال عام 1443

18 من شهر مايو عام 2022م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. حفظ الله الشيخ الحذيفي امام الحرمين وشيخ الاقراء واطال عمره على طاعة ونفع . وبارك الله له في اولاده واحفاده .
    اخت في الله

  2. شكراً أخانا عسّاف على هذا السرد لسيرة الشيخ القارئ الحذيفي، والشيخ له عظيم أثر في نفسي حيث أنه أول شيخ سمعت وحفظت منه سور من القرآن من جزء تبارك بصلاة المغرب والعشاء التي كانت تنقل في القناة اﻷولى السعودية، وقد سمعته لأول مرة عندما قدمنا إلى جنوب السعودية من السودان قبل حوالي خمسة وثلاثون عاماً. إلى اﻵن ما زلت أستمتع بنبرته المميزة في القراءة، نسأل الله أن يحفظه ويبارك في عمره وعمله وقراءته. وأتمنى أن أستمع لقراءته في زيارة لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)