سير وأعلام

إبراهيم التركي في يوم الاحتفاء

إبراهيم التركي في يوم الاحتفاء

عنيزة تحتفي بأحد رموزها في موسم عيد الفطر المبارك عام (1443)، ولا غرابة أن تحتفي عنيزة برموزها الأحياء كما سبق أن فعلت مرارًا؛ فعنيزة مدينة عرفت الوفاء حتى عُرف بها ولها ومنها سلمًا وحربًا، وتشهد لها الوقائع والمواقف والمعاهدات بذلك. وهي فوق هذا بلد المؤرخين كما يقول الشيخ العبودي، والتاريخ في أحد جوانبه مادة للوفاء والذكرى والخلود. وهي مدينة الشعراء حسب إحصاء الأديب ابن إدريس، ومن أغراض الشعر حفظ المآثر والمناقب والمحامد مدحًا وفخرًا ورثاء بل ونسيبًا.

أما الشخصية المحتفى بها فهو رمز ثقافي وإعلامي كما وصفه الإعلان؛ بل هو فوق ذلك وإن اندرجت بعض الأوصاف تحت هذين الملمحين، وهما ملمحان ساميان نفيسان غاليان، والله يحميهما من الدخلاء الواغلين دون أحقية أو تأهيل أو حتى احتمالية مشاركة فيها؛ ذلك أن خلع الألقاب والأوصاف أمر أصبح من السهولة حتى استبيح على الألسن والأقلام، ولقد رأيت ورقة تعريفية لشخصين ذكر كل واحد فيهما من الصفات لنفسه ما يقترب من العشرين، ولا أدري كيف وجدا الوقت لها كلها حملًا ثمّ أداءً! بل زاد الأمر ضغثًا على إبالة سرقة الشهادات والكتب وما أكثر ما نسمع.

دع عنك هذا كله، فنحن في سياق جليل جميل نكتب فيه عن شخصية مثقفة وقورة حقيقية دون تزويق أو بهرجة، لها منتجات تشرئب لها الأعناق، وهي مؤيدة لما أقوله، فيها كتب ومقالات وقصائد وموقع إلكتروني، وتجارب ثقافية وإعلامية وتعليمية وتدريبية وخيرية وإدارية. وفي هذا المضمار الذي سلكه متدرجًا بلا قفزات متهورة خلال أربعة عقود لم ينكفئ على نفسه، أو يتحيز إلى فئة، أو يستهدف ذوي جاه وثراء وسلطة، وكان مثالًا على الجدية والانضباط والإصرار، وبصيرًا بمعرفة مواضع الإقدام والإحجام والتوقف وأزمانها المناسبة.

إن أستاذنا د.إبراهيم بن عبدالرحمن التركي العمرو علم من أعلام ثقافتنا المحلية والمعاصرة، ويخالجني ظن يشبه اليقين أنه سوف يصبح مثل بلديه حبر عنيزة الأعظم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي الذي تزيد الأيام من عبق ذكره، وتبقى كتبه مطلوبة لجيل إثر جيل، وبين حين وآخر نكتشف عظمته ونبوغه، ونصل إلى حكم يقترب من الجزم خلاصته أنه من أعظم علماء عصره لولا البُعد والحسد وانصراف العالم العَلَم عن أيّ شيء سوى العلم والتعليم؛ فهنيئًا لأبي يزن هذه الخيرية التي ستحفظ له بإذن الله لسان صدق عليٍّ في الباقين وفي الآخرين بإذن الله تعالى، مع الثناء الحاضر جعله الله له من عاجل بشرى المؤمن.

امتاز كاتبنا وشاعرنا بما لا أستطيع التعبير عنه في مقالة عابرة أكتبها ونحن في وداع شهر رمضان، واستقبال أيام العيد، مع الاستعداد لسفر حال بيني وبين حضور مناسبة التكريم؛ بيد أني سوف أجمل معتذرًا عن القصور، والعزاء أن غيري كتبوا وسوف يكتبون، ولعلّ المكتوب كله أن يجمع شتاته في كتاب، ثمّ تصدره إحدى مؤسسات عنيزة الثقافية، وهذا ليس بكثير على مثل رمزنا الذي هو رمز لعنيزة ورمز للقصيم ولبلادنا أجمع.

فمن مزايا د.التركي براعته اللغوية لدرجة أنه يسيطر على الكلمة ويحتوي الجملة ويسبك الفقرة وينهي المادة بلا حواشٍ متدلدلة تفسد الرشاقة، وبلا زيادات تستجلب الملل، ولطالما عبرت له عن إعجابي بهذه الخصيصة، وكثيرًا ما أجبت من سألني في برامج التدريب على الكتابة عن مهارة الاختصار بلا خلل أن عليكم بأبي يزن، ومن أحيل إلى ملئ فليتبع. ومن افتتانه باللغة أن المتابع له لن يشك في أنه تخرج في كلية لغة عربية، وحين يبحث يعلم يقينًا أن الرجل ارتضع اللغة وحبها من والده المعلّم المربي المتذوق للبيان الخبير بعلوم اللغة، ثمّ من دراسته في المعهد العلمي بمناهجه القوية وأساتيذه الكبار، ولا يمكن إغفال جهده الشخصي بالقراءة والسؤال والبحث وحضور المجالس.

ومنها أنه صاحب هم ثقافي، ولا أدل على ذلك من بقائه منافحًا عن الجزيرة الثقافية لمدة عقدين مع كثرة المنصرفين وربما المخذلين، والحق أنه صيّر من مجلته الثقافية كتابًا عميقًا، ينفي عن الصحافة هشاشة المعلومة، وغثاثة الكتابة، وغياب الأدب، ويؤكد لهفة القراء للمطولات إذا كان فيها ما يفيد، فلا يزال فينا من لم تأسره مواقع التواصل بقصار جملها، وبصورها، ومقاطعها. ومع جهد الرجل الواضح في هذا الباب إلّا أنه يثني على شركاء له ظاهرين وأخفياء، منهم رئيس تحرير الجزيرة الأستاذ الكبير خالد بن حمد المالك، وهو دعم لا يستغرب من أبي بشار لمن يعرف تاريخه الصحفي، ولمن قرأ سيرة والده رجل المجتمع النجيب البارز.

كما بادر د.التركي إلى توثيق مسيرته الثقافية عبر عدة كتب من مؤلفاته المنشورة التي تقترب من العشرين، وهو سبق يحسب له مع ندرته لدى مثقفينا السعوديين الذين لو كتب جمع منهم سيرهم الثقافية، وقصة مكتباتهم وكتبهم لبهروا عالم العرب من محيطه إلى خليجه وليتهم أن ينهضوا لذلك. والمنتظر من أبي يزن بعد أن تفرغ من المجلة الثقافية مؤخرًا بعد صدور عدد ليلة العشرين من رمضان الحالي أن يتحفنا بسيرة ذاتية مكتملة فيها من الخبر والأنس وقصص الوالدين والمعاهد والدراسة من حائل الجميلة إلى أمريكا أطعمنا الله خيرها وكفانا شرورها مرورًا بأعماله المتنوعة المباركة.

كذلك ألحظ بإكبار أن كاتبنا وشاعرنا يستخدم لغة تراثية بفكر مستنير؛ فلا يقفز على وحي، ولا يتجاوز ثوابت، ولا يعكر صفو مصالح، ولا يرسل شبكته للمياه العكرة، ويصف صنيعه لنا أننا في حال من السمو الفكري، والرصانة الثقافية، والنقاء الروحي، وما أحوجنا إلى مثل هذه النماذج التي لا تحدث شقاقًا، ولا تؤذينا بطبوليات ومفرقعات يراد منها الشهرة والظهور ولو باللعنة عياذًا بالله. وقد كان من فضل الله على صاحبنا العزيز أنه عصي على التصنيف، بيد أنه غير عصي على الفهم، وقريب إلى النفس والقلب.

ومن جلائل أعمال د.التركي أنه احتفى برموز ثقافية كبرى وهم أحياء عبر مجلة الجزيرة الثقافية وكتبها الصادرة فيما بعد، وشمل هذا الاحتفاء دراسة الشخصية وجوانبها الإبداعية في الثقافة والفكر والأدب، ولهذا المسلك فائدة تتجاوز المحتفى بهم وأسرهم إلى المشاركين في المشهد الثقافي كافة، حينما يرون أن مهنتهم مقدرة، وحرفتهم يحتفل بها. ولها غاية نفيسة أخرى كي لا تنفتح عيون الناشئة وآذانهم وأذهانهم فيما بعد على رموز ليس لهم أدنى حظ أو نصيب من علم أو فكر أو ثقافة، وتلك يد موفقة متقنة من سمي النبي الخليل -عليه الصلاة والسلام- على ثقافة بلاده وأهلها ومجتمعهم.

أيضًا شملت كتابته في باب السير عددًا من الأموات الراحلين، ولم يجعلها الكاتب الخبير ضيقة على مكان وأهله، أو طبقة وأناسها، ففيها من الجميع قدر مستطاعه، وهذا التنوع فيه عدل وإنصاف وثراء وإثراء وسبب للقبول والإقبال من القراء العقلاء على أقل تقدير. وهي فوق ذلك تعطينا صورة عن شبكة العلاقات التي يتمتع بها د.إبراهيم حتى امتدت متجاوزة حدود العمر والجيل والمكان والتخصص والفكر.

ومما أذكره عن شخصيتنا المحتفى بها أني أرسلت عبر الواتساب إعلانًا عن محاضرة له فيما مضى لعدد جم ممن تدربوا معي على الكتابة، وبعد نهايتها وردت لي منهم تفاعلات مبتهجة تجمع على الفائدة والسعادة حتى قال بعضهم وددنا لو أطال ولم يتوقف، ولا أستغرب هذا فهو متحدث عذب ومن قلة جمع الله لهم حلاوة الكتابة وطلاوة الحديث. وسمعت مرة أحد العاملين في كتابة السيرة الغيرية يقول: من بركات عملي في سيرة صاحب المعالي فلان أني تعرفت إلى شخصية عظيمة هي الدكتور إبراهيم التركي، فكانت معرفتها أحب لي من مرابحي المالية بعد كتابة السيرة. وأهديت نسخة من أحد كتبه لصديق فبعث لي ليلًا قائلًا: أيّ كتاب! وأيّ مؤلف!

فهنيئًا لعنيزة ابنها وتكريمه من قبلهم، ولا غرو إذ سبق أن كُتبت عنه ثلاث رسائل ماجستير والمستقبل يعد بالمزيد، وأهل العالم أولى به. وهنيئًا لعنيزة البر برموزها ومنهم ابنها البار الذي أهدى جميع كتبه لوالده: عبدالرحمن العلي التركي العمرو رحمه الله، ولوالدته: موضي الصالح الرعوجي حفظها الله. وهنيئًا لها أن يزداد عيدها بهجة بمثقف يوقر لغته وتاريخه ودينه وبلاده ومواطنيه، ويحسن التعبير عنهم وتمثيلهم. وهنيئًا لعنيزة بجميع رموزها وكياناتها الذين يأبون مع بلدتهم الأنيقة إلّا أن يكونوا مثالًا سابقًا في روض أنف، أو مثالًا مبدعًا في مرعى خصيب، أو مثالًا شجاعًا في ساحة مهيبة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 30 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443

01 من شهر مايو عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)