شيخوخة طفل ماتت أمه!
هذا كتاب يفيض بالحزن، ويغلّف به، وينتهي عنده كما بدأ منه، عنوانه: يظل الرجل طفلًا حتى تموت أمه “دمعة على قبر أمي”، تأليف: أ.د.صالح بن حسين العايد، صدرت الطبعة الثانية عشرة منه عام (1432=2011م) عن دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، ويقع في (180) صفحة مكونة من خمسة عشر عنوانًا، أولها إهداء وآخرها تخريج الأبيات الشعرية، وبينهما أحاديث فصيحة شجية صادقة عن موضوعات متفرقة بيد أن جامعها الوحيد هو الأم، وإنه لحقًا اسم جامع لكلّ خير وحب وحنان وسعادة.
ورد في الإهداء خصوص لأشقاء المؤلف وشقيقاته، وعموم لأصناف تجعله صالحًا لكل أحد. وغاية التأليف رجاء الأجر بالدلالة على البر والإحسان والوفاء، وتنبيه الغافلين أو المقصرين إلى مزية وجود الوالدين أو أحدهما من واقع تجربة عاشها البروفيسور العايد بحلاوتها ومراراتها، وعسى أن يظفر المؤلف والكاتب من القارئ والمطلّع بدعوة لهما ولوالديهما؛ فهذا لعمركم غاية المنى، وأطيب المكاسب، فاللهم ارحم عبادك ووالديهم وكلّ مسلم ومسلمة.
أما النص فمكتوب بالقلب والعبرات وليس بالقلم والعبارات؛ وفيه روح تنسكب، ودموع تشكلها، وآهات تحركها، وبالتالي صارت كلماته ليست كالكلمات، فأي حروف وكلمات وجمل تستطيع أن تجلي حقيقة ما يعتلج في النفس من أثر الفقد بالموت عندما يكون الفقيد هو الأم! وهو حدث يعجز الرثاء أن يصف الحمم المتقاذفة منه بين النفس والروح والجسد والعقل، وله ضرام يفقد المرء معه توازنه، ولا يكاد أن يستعيده إلّا بعد حين، وحتى ذك الوقت يغدو المصاب مثل من سقط من مرتفع عالٍ إلى هوة سحيقة، ولا يدري أيبلغ القاع صريعًا أو جريحًا أم ينجو فوق صخرة صامدة، أو مستمسكًا بجذع لم تعصف به الرياح والزوابع.
وسوف تظهر للقارئ بين السطور وفوق الكلمات وداخل الصفحات شموع في ظلام الحزن، وهمسات في صمت المآسي، واللبيب العاقل يسرح طرفه حين يلمح منظرها، ويرهف سمعه إذا حس بنبرتها، عسى أن يجد فيها المسلاة والتصبير والعزاء؛ وهي في مجملها لرجل خمسيني -آنذاك- أناخت به قبل عقدين مصيبة موت أمه الحبيبة رقية بنت سليمان الجميلان، وهاهنا ينقل طرفًا منها عنه مَنْ أحاطت به عمّا قريب وفاة أمه الحبيبة حصة بنت حمد المنيع، فهيجه رحيلها على إعادة القراءة ثمّ الكتابة، وكم بين الموت والكتابة من علائق؛ فاللهم اغفر للأمهات وارحمهمن.
وقد تحزن المؤلف على أمه ورثاها نثرًا وشعرًا، من مقوله ومنقوله، وتذكر أيام النعيم معها بتلذذ يقطعه وجع الفراق، وحين أيقن أن الرثاء مع الحزن لن يجديا شيئًا آب إلى صبر الأحرار، وإن كان الصبر مثل اسمه الذي يوحي بالمرارة وصعوبة التجرّع! وبعد مقالة نشرها أ.د.العايد عقب رحيل والدته وردت إليه مطالبات بجعلها في كتاب يبقى، وهذا المقترح يقتضي التوسع في المادة، وهو ماكان حتى استقام هذا الكتاب الذي أباح مؤلفه إعادة نشره شريطة الالتزام بمحتوى هذه الطبعة، ووضع صورة قبر أمه على غلاف الكتاب كما صنع هو في كتابه الذي يضم كثيرًا من الشعر، وكثيرًا من الدعاء، وكثيرًا من الأحاسيس والبوح.
كما ضم الكتاب الأسيف عبرًا وعظات حول الصحة، ونعمة وجود الأبوين، وفضيلة برهما وخدمتهما، وبركة ذلك على البار، مع التعريج بالمنطوق أو المفهوم على نعمة الطاعة، ونعمة الابن البار، والابن الصالح، والابن الفقيه، والابن الأديب، مع وصف لحظات عصيبة بين أمل منتظر ويأس محذور، تبعهما الانقياد لمقتضى الإيمان ورجاء الخير والخيرة من عند الله، خاصة عندما غادرت الحبيبة الدنيا الفانية، فتملكه شعور غريب إذ كانت أمه تغمره بعنايتها وكأنه طفل بين يديها وإن شب أو اكتهل، فلما ماتت الرؤوم المشفقة على صغيرها انقطعت تلك العناية، وغاب فيض الإحسان واللطف؛ فكبر الطفل الصغير فجأة وربما أضحى شيخًا بعد إفاقته مباشرة من غمضة عينيه المكتظة بالدموع.
من عناوين موضوعات الكتاب بعد المقدمة وما قبلها، وقفة أمام الموت فيها خشوع، ثمّ الطريق إلى الموت وإنه لطريق مفتوح مطروق من الكافة ولا محالة، وبعد وقوع المحذور شاخ الطفل فجأة، ونادى في القارئين: ألا من ذا له أم كأمي مستحضرًا سمات أمه التي يوجد منها في كل أم، ولكل أم بصمتها المزينة بسيرتها. وبعد الهدوء من عاصفة مليئة بالألم أخبرنا الكاتب عن حقائق مشتركة قائلًا: ماذا فقدت بفقد أمي؟
ثمّ ذهب بنا معه كي يطلق دمعة على قبر أمي، وتلك الدمعة غالية بيد أنها تهون لأجل من يكتب في مثله: وأقفرت إذ خلت من أمي الدار، وليس يكفيها ولا يجزيها عبرة من بحر دمعي، ولا حتى رسالة إلى حبيبتي، ولأجل ذلك استعان المؤلف بقصيدتين عن الأم للشاعرين عبدالعليم اليوسفي و عبدالعزيز جويدة، كي يثبت للقارئ أنه مكلوم معنّى بذهاب أمه وأيامها، وأن كثير القول شعرًا ونثرًا قد لا يعبّر عن حقيقة المشاعر، ومن المقطوع به أنه لا يكافئ أيّ أم عن حقوقها. وإتمامًا للفائدة الأدبية المبكية خرّج الكاتب الأبيات الشعرية؛ حتى يرجع إليها من شاء علاج شيء من وحر الصدر، ووخز القلب، بعد فراق الحبيبة التي لا تداني منزلتها أيّ حبيبة.
هل قالوا: يظل الرجل طفلًا فإذا ماتت أمه شاخ؟! لقد صدقوا وإن عن وصف كامل الحقيقة قد قصروا؛ فكل نقص في الحياة يتراءى للإنسان بعد رحيل الأم؛ ويا له من واقع وشعور يطيش منه الذهن، ويتشتت له الفكر، ويطير القلب به فزعًا، وينعقد اللسان والقلم بسببه حتى لو بدا منهما انطلاقة، ويتغير معه طعم الحياة بما فيها من مسرات ولذائذ، ولا مستراح إلّا أن أسأل الله العفو الرؤوف الرحمن الرحيم أن يرحم والدي ووالديك، ويكرم وفادتهما عليه، وأن أردد مناجيًا ربنا الرحيم القدير بأن يجعل الغالية في المنازل العالية، وأن يبدلها عن الدنيا البالية تلك الجنان الباردة، ومن يقرأ ويقول آمين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الجمعة 14 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443
15 من شهر إبريل عام 2022م
2 Comments
غفر الله لوالديك، ولسائر موتى المسلمين. ورقنا برحمته وهدايته بر والدينا على الوجه الذي يرضيه عنا.
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه ، وهو يرفد قراءه بمقالاته القيمة الهادفة ، حين تعالج القلوب الملكومة بفقدان الام وتعطيها جرعة من الدواء ، أعجبني في نهاية مقالك ، وان تقول( بان يجعل الغالية في المنازل العالية وان يبدلها عن الدنيا الباليه تلك الجنان الباردة ) امين لكل ام ، وانا أضيف بان ام الصبيان والبنات تبقى حبلى حتى الممات ، رحم الله والديك ووالدين مولف الكتاب ، ووالدينا ، ولوالدين كل من من يقرأ