مواسم ومجتمع

بعيدًا عن أهل الكثافة!

بعيدًا عن أهل الكثافة!

 اللهم لا تجعلنا من أهل الكثافة، ولا تقربهم من مواضعنا أينما كنا؛ ففي الكثافة وأهيلها ثقل وغثاثة ومرض يسري إلى الروح، ويتغلغل في النفس إلى أن يصيب الجسد بالوهن، والعظام بالكسل، ويستنزف نقي الهواء، ويفسد شذي الروائح، ويذهِب حلو الطعوم. فاللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت، ولا تجعلنا منهم ولا معهم ولا حولهم. وحقيق بنا أن نردد مع حماد بن سلمة دعاءه إذا رأى مَنْ يستثقله: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون!

وقديمًا أخبر طبيب حاذق خليفة قارئًا بأن مجالسة الثقلاء حمى الروح، وأعلن قبله حكيم عربي مشهور بالحلم أنه إذا جلس ساعة مع أحد أولئك استبان أثر تلك الجلسة المظلمة في عقله! بل استطاب ضعف البصر وصعوبة النظر عالم محدث -وما العمش أو العمى بطيب- وإنما استحسنه حينما جرب الرحمة بالحرمان من رؤية القوم الثقلاء! وهكذا قال من به صمم. واضطر فقهاء وقضاة لإجابات طريفة عسى أن تخفف من وقع حضور الكثيف المزعج كما في عدد من تعليقات الإمام الشعبي على أسئلة ثقلاء متنطعين، وبين التنطع والثقل صلة متينة لا تكاد أن تنبتر.

وقد تساوى الثقل مع النفاق؛ فلا يأمن من التثقل والثقالة إلّا ثقيل، ولا يخشاه ويخافه إلّا خفيف على الروح حبيب إلى النفس، وبئست خلة يتساوى صاحبها مع النفاق في شيء! ويبدو أن منشأ الثقل أتى من جبلّة نفسية، وسوء تربية، وتراكم خسائر، وسوء ظنون، وضحالة ثقافة، وانتفاخ بالباطل، وهي عوامل تجتمع في جمهرة الثقلاء، والله يعافينا ويسلمنا. ولأجل ذلك غدا الثقيل أشبه بالوباء الذي يستدفع؛ وبالجرب الذي منه يهرب.

وأيّ دليل على بغيض أثرهم أعظم من أن المجالسة إنما تطيب بخفّة الجلساء كما قال مُسَاور الورَّاق، فإذا شارك فيها كثيف واحد أو ذو نفس ثقيلة ضاقت الأرض على من فيها بما رحبت، وتمنى بعضهم أن ينفض السامر، وينتهي اللقاء، ولو كانت النفوس تشتاق إليه شوق نفوس الورى لإيار-شهر مايو وهو شهر ربيعي- والشوق منصرف لورده الجميل حسب تعليل المعري. بل دفعت وطأة الثقل الإمام الأعمش لإجازة الاكتفاء بتسليمة واحدة في الصلاة إذا صار عن يسار المصلي إنسان ثقيل!

أما ما هي طباع الثقلاء، وصفات أهل الكثافة، فدونكها حتى ننفر منهم، ونحمي أنفسنا من مشابهتهم، ولا يلزم توافرها كافة في آدمي لأنه سيكون حينها كارثة تمشي على الأرض؛ فمنها على سبيل الإجمال التفاصح الممل، والاستظراف البارد، والاستفراد بالحديث دونما طائل وحاشا القاضي الذكي إياس من هذه الصفة فجلّ قوله نافع مفيد. ويتبع ذلك الغلو في مقاطعة المتحدث، وتخطئة كل شيء، ونقد الأفكار والأحوال دون إنصاف وبغير معرفة أحيانًا. ومنها التعامل مع أحاديث السمر وكأنها تحتاج لتحقق كما لو سيبنى عليها حكم شرعي أو قرار مصيري؛ فتجد الواحد منهم يمد يده إلى هاتفه -وهو الذي لا يكاد أن يهجره من سوء أدبه- فيجوس في محركات البحث عسى أن يقع على معلومة ينغص بها على الحاكي أو يحرج الراوي!

كما أن الكثيف ممن غرس في ذهنه ضرورة أن يكون له رأي في جميع الشؤون ولو لم يفقه فيها قبيلًا من دبير، وغالبًا لا يستحي حتى لو أتى بالعجائب أو جاء بالمتناقضات والطوام. ومن اللافت حبهم الأعمى للجدل، وتعالمهم الفج المفضوح دون أن يدركهم الحياء؛ فكلمة لا أدري من المحرمات على ألسنتهم، فلا غرو أن يكون أفراد هذه الفئة أثقل من ثهلان على صدر بني الإنسان، وليس على إمام متبوع مثل الشافعي من حرج إذا شعر بهبوط الجهة التي يجلس فيها ثقيل، ومن فرط الحنق عليهم والضيق بهم أباح بعضهم -عفا الله عنهم- الوقيعة في الثقلاء.

كذلك يشتهر في أولئك حبهم للرطانة ولو من غير إجادة، وشرههم عند الأكل بلا تأدب ولا رفق، وضحكهم بطريقة تهيج على البكاء، واضطرام شهوة السؤال لديهم عما لا يعنيهم، ومع انغماسهم في انتقاص الآخرين وتصيّد ما يظنونه مثالب فيهم، سيلفت نظرك غلوهم في الثناء على أنفسهم وأعمالهم حتى لكأن عمل عضو نقابتهم القميئة هو الوحيد الفريد في الأوائل والأواخر. وإذا كانوا بحضرة ذي جاه، أو مال، أو جمال، بالغوا في الاستملاح وإظهار العمق أو الظرف أو التماجن حسب السياق الملائم فيما يعتقدونه، وما علموا أن جلّ شهودهم لا يروق لهم صنيعهم المتكلّف، ومصداقًا لهذا أن أجاب إمام على ثقيل زاره وقال له: وددت لو زرتك مرتين في اليوم! فرد عليه بقصف صريح: إنك لتثقل عليّ وأنت في بيتك فكيف إذا زرتني!

ومن خزاياهم افتقاد الحكمة في الصمت والكلام؛ إذ يستذكرون الموتى عند المرضى، ووقائع الطلاق في مناسبات الزواج، وقصص الفشل في بدايات المشاريع، والخلافات عند الشركاء، وهذا ليس بمستبعد على أقوام امتحنهم الله بثقل الظل وركود الهواء؛ فليس لدى سوادهم شيء اسمه لذة الاندهاش، ولا عفوية التعبير، ولا يرى معظمهم شيئًا عجيبًا فيعجبا، ولذا فلو تناطحت الجبال أمام الفرد منهم لما فغر فاه منشدهًا بحجة التواقر أو أسبقية العلم والدراية، ولهذه البلايا فما أسعد القوم إذا سقط ثقيلهم وتخلصوا منه للأبد، فهو وباء حيثما حلّ حتى أخبر الإمام الشعبي عن نفسه حينما انحصر بين ثقيلين فسأله سائل كيف روحك يا إمام؟ فقال: هي في النزع!

أما من أكثر ما يتعب في معايشة الثقلاء فهو أنهم لا يفهمون الكلام حتى لو وضعت لهم لوحات إرشادية بين الجملة وأختها، وفقدوا سرعة البداهة في التقاط الإشارات خلال المواقف والمآزق فلا تقرع لهم العصي، ولا ينفع معهم تصريح دع عنك التلميح، وثالثة الأثافي مسارعتهم لسوء الفعال بدعوى الانفتاح والتحرر. ومع أن هؤلاء متوافرون في الحياة الحقيقة إلّا أن العالم الافتراضي غاصٌّ بهم إن في تطبيقات التراسل الفوري مثل الواتساب وهو ساحة محببة لهم، أو في منصات التواصل الاجتماعي.

ومن الملاحظ توارد عدد من أخبار الثقلاء والموقف منهم في سيرة الأئمة الشافعي والشعبي والأعمش على وجه الخصوص، وليس هذا في تراثنا فقط؛ فلدى الآخرين مثله، وأذكر أن الكاتب والشاعر الأرجنتيني بورخيس يفضل الجلوس مع مجرم ذكي على إمضاء وقت مع عالم ثقيل. ولا ريب أن جفول أهل الفضل والعلم من الإنسان منقصة لا يرتضيها لنفسه عاقل أو ذو حياء.

إن القراءة، وحفظ المرويات الأدبية والتاريخية، والتأني، وقلة الكلام، والحرص على أدب المجلس والحديث وفنون الحوار، والتوقير مع التقدير وتقديم الأكابر، والاكتفاء إذا كُفي المرء والالتزام بالصمت مثل الحكيم لقمان الذي امتنع عن الفتيا بعد بعث نبي معللًا منهجه بقوله: ألا أكتفي إذا كفيت! ويضاف إلى ما سبق سؤال الله العفو والعافية والصلاح، وكل ذلك مما يحمي المرء من ردغة الثقالة ووحل الغثاثة ولزوجة الكثافة. وجدير بالمرء عقب ذلك أن يراقب نفسه، وأن يستظهر حالها على حقيقتها، كي لا يكون بغيضًا إن حضر، ممجوجًا إذا تكلّم، مبهجًا عندما يغادر!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 26 من شهرِ شعبان عام 1443

29 من شهر مارس عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. جزاك الله خيرا . الكاتب احمد لقد عالجت بمقالتك عن البعد عن اهل الكثافة كطبيب اختصاصي بعلم النفس . كان الله في عون من ابتلي بمثل صفاتهم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)