سياسة واقتصاد عرض كتاب

مياه الوطن العربي عبر العصور

مياه الوطن العربي عبر العصور

حدثني مسؤول مائي كبير أنه حضر مؤتمرًا دوليًا عن المياه، وعندما جاء موعده ليلقي كلمته، ابتدأ باستعراض مكانة الماء في حضارتنا الإسلامية على عجل دون تفصيل. وفي وقت الاستراحة هرع إليه جمع من المتحدثين والعلماء، وكان جلّ نقاشهم له ومباحثتهم إياه ليس في مادته العلمية، وإنما في المضمون الحضاري والثقافي للماء عندنا كما أخبرهم! وقد بهروا كثيرًا بما سمعوه ولم يحيطوا به علمًا من قبل. ومن تمام الحكاية أن الرجل لم يطلعني على هذه القصة تفاخرًا، وإنما أنبأني حينما اقترحت عليه وهو على أهبة السفر للمشاركة في مؤتمر عالمي حول الماء، أن يحدّث الحضور بما يوقفهم على إرثنا الضخم في موضوع الماء.

أروي ذلك وبين يدي كتاب يضم أبحاثًا مائية عربية خالصة تروي شيئًا من عطش مكتبة الضاد، وعنوانه: المياه عبر العصور في الوطن العربي في ضوء الاكتشافات الآثارية. وتشتمل مادته على جميع أبحاث ندوة المياه عبر العصور في الوطن العربي، المنعقدة في عمّان عاصمة الأردن خلال ثلاثة أيام ( 3-5 صفر 1440= 12-14 أكتوبر 2018م)، وصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي عام (1443=2022م)، ويتكون من (334) صفحة باللغة العربية، و(26) صفحة باللغة الإنجليزية.

يوجد في الكتاب (19) بحثًا مقدمًا من (26) باحثًا، فيهم امرأتان وأربعة أجانب، وجميع الأبحاث مختومة بمراجع عربية وأجنبية، ولكل بحث ملخص باللغة الإنجليزية أو بالعربية بالنسبة لبحثين كتبا بالإنجليزية. أما المحررون فهم: أ.د.خليل بن إبراهيم المعيقل، و د.عبدالله بن محمد الشارخ، و د.محمد بن سلطان العتيبي، وساعد في التحرير أ.محمد صوانة، علمًا أن تحرير الأبحاث العلمية عندما تُجمع في إصدار واحد يجعل لغتها متقاربة، ويمنع التكرار لغير دواعٍ ضرورية، وهو أسلوب متعارف عليه بلا غضاضة.

كما تمتد مساحات أبحاث الندوة أولًا والكتاب ثانيًا لتطوف في أرجاء عالمنا العربي مثل السودان ووادي عطبرة ووادي النيل، والسعودية، والمغرب، والجزائر، والأردن، وعُمان، وتونس، والعراق، واليمن، ومصر. وأكثر الأعلام ورودًا في الأبحاث هي إفريقيا، والسودان، والجزائر، والمغرب، والجزيرة العربية، والرومان، والعصر الحجري. ولهذا الملمح أهمية في سلامة الندوة والمركز من أي عصبية مقيتة، أو انحصار في بقعة أو زمن أو جنس. وفيه مزية للمركز الذي تجاوزت آثاره حدوده المكانية والزمانية، وإن أيّ خير يناله المركز يصب في مصالح بلادنا وأناسها حتمًا.

بينما تناولت موضوعات الأبحاث عدة محاور منها الهجرات البشرية وعلاقتها بالمسطحات المائية، والانتشار الجغرافي للمواقع الأثرية وعلاقتها مع الماء، وتقنيات الري، وحفظ الماء في الفن الصخري، والكتابات والدراسات المناخية القديمة. وفيها تقنيات، وأنظمة، ومصادر، وتجارب ري، مع رصد التغيرات المناخية، وتأثير الماء على الإنسان والتأثر به، إضافة إلى العبور من أزمان ضاربة في القدم إلى أخرى متوسطة وحديثة، وهذا كله مدعم بالصور والخرائط والتوضيحات.

ثمّ إن جميع الأبحاث المقدمة بنيت على تنقيبات آثارية في مناطق العالم العربي. ومما يدهش أن الورقة الخاصة بمنطقة الجوف في المملكة العربية السعودية أعدّها فريق مشترك من ستة باحثين عرب وأجانب. وتنطلق فكرة هذه الندوة من التزام مجلة أدوماتو بعقد مؤتمر علمي مرة واحدة كل خمس سنين، وبما أن المؤتمر الأول والثاني أقيما في مدينة سكاكا بالجوف شمال المملكة العربية السعودية، فقد استقر الرأي الموفق على جعل المؤتمر الثالث في عمّان بالأردن، وهو ما تم في قاعة متحف الأردن، ومن المؤكد أن اللجنة العلمية للندوة قبلت الأوراق بعد فحصها فحصًا مناسبًا، وربما أنها اعتذرت لآخرين.

إن قضية المياه عبر العصور في الوطن العربي مهمة للغاية؛ ذلك أن العالم يتحدث عن سباق مائي لدرجة تقترب من الصراع، وفي المقابل تكثر أحاديث علمية أو تكهنات وتوقعات عن مقدار المياه المختزنة تحت الأرض العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج. وكم نتمنى مع البروفيسور المعيقل في تقديمه أن يغدو هذا الكتاب مرجعًا يستفيد منه الدارسون من علماء الماء والآثار والتاريخ، وأن تتوافر نسخ منه في الجامعات ومراكز الأبحاث والمكتبات. وعسى أن يكون هذا الإصدار العلمي سببًا مباركًا يحثّ الباحثين على الكتابة في مجلة أدوماتو لرصانتها وعلمية ما تنشره من أبحاث ومقالات.

أختم بقصة مثلما بدأت بقصة؛ ذلك أني كنت أزور قبل سنوات مكتبة تبيع الكتب المستعملة، وهي متاجر تحوي كنوزًا ونوادر قبل أن تستولي عليها المقررات الجامعية. وقد لفت نظري كتاب عن الماء يقع في أربعة أجزاء، وهو موضوع يهمني ثقافيًا وحضاريًا، ولذا قررت شراء الكتاب؛ بيد أني حين فتحت صفحته الأولى وجدت أن الكتاب مُهدى من مؤلفه وهو وزير أمواه عربي إلى رجل أعمال شهير بالخير قبل الثراء؛ فوقع في نفسي أن وجود الكتاب في هذا المكان أتى عن طريق الخطأ؛ وهذا الأمر يسيء للمؤلف المهدِي وللمهدَى إليه؛ فتصرفت بما أظنه يناسب آنذاك، وتمنيت ألّا أضطر يومًا لكتابة إهداء لأحدٍ على طرة كتاب!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 21 من شهرِ شعبان عام 1443

24 من شهر مارس عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)