سير وأعلام

عبدالعزيز المنقور كما تجلّى لي!*

عبدالعزيز المنقور كما تجلّى لي!

ليس بغريب على مركز الشيخ حمد الجاسر الثقافي أن يعقد في دارة العرب ندوة بعنوان: “الأستاذ عبدالعزيز بن محمد المنقور: جهود ومواقف” ضحى يوم السبت السادس عشر من شهر شعبان سنة (1443)، وأن يرأس هذه الندوة معالي د.محمد الجاسر وهو أحد الذين درسوا في أمريكا إبان عمل الشيخ المنقور ملحقًا تعليميًا فيها. ومن مزايا هذه الندوة الجاسرية أنها جاءت قبل تمام شهر من رحيل العَلَم المتفق على تبجيله، مع الثناء على منهجه العملي، والإشادة بسمته الخلقي.

ومنذ كانت الندوة فكرة إلى أن أصبحت إعلانًا منشورًا، ومناسبة يتنادى لها أهل المروءة والمكانة، وأنا أتلقى الدعوات للحضور والمشاركة، ومنبع هذه الدعوات يرجع لمقالتين كتبتهما عن ملهم المبتعثين، وهو لهما ولما هو أعظم منهما أهل لفضله ونبله. لذلك اجتهدت في محاولة الإتيان بشيء جديد لا يكرر كثيرًا مما ورد فيما سبق لي كتابته، وحرصت على تجهيزه وإعداده بصورة عاجلة خشية ألّا أتمكن من الحضور بناء على العارض الصحي الذي حلّ بوالدتي -شفاها الله وعافاها- واستدعى نقلها مسعفة إلى المستشفى، وأسأل مولانا الشافي أن يتولاها ويسبغ عليها نعمه ولباس الصحة.

أما أول أمر ألفت النظر إليه فهو أن رجل الدولة الشيخ عبدالعزيز المحمد المنقور من قلّة تحلو بهم الحكايات، وتسمو الروايات، وتزدان القصص، وتأنس بسيرهم المجالس ولو طالت؛ ولذلك لا يكاد السامعون أن يملوا من ترداد مواقفه، والتلذذ بأخباره الأنيقة، واستذكار أيامه العِذاب على ما فيها من نصب ومعاناة أحيانًا. بل أزيدكم أن ترجمة صاحبنا فيها قابلية لاحتواء أيّ مكرمة مهما كانت عجيبة لأنها منه غير مستبعدة، وعليه ليست بغريبة؛ لتوافقها مع نسيجه ومسيرته. وبهذه الخصيصة الشريفة يتساوى المنقور مع كرام سابقين ومعاصرين، منهم على سبيل المثال عمر بن الخطاب، والأحنف بن قيس، وإياس القاضي، والمتنبي، وابن سعدي، وأبو سليمان الشبيلي، وآخرون ممن جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.

ومن مزايا المنقور التي فاق بها جمهرة من المسؤولين الذين سبقوه أو عاصره أو تبعوه أنه توجه بكلّيته لخدمة المستفيد الأول من عمله ووظيفته بالتواصل المباشر دون الاكتفاء بالتقارير أو المتابعة عن بُعد، وتلك منهجية لو حذا حذوها أصحاب الولايات فمن دونهم لعُمرت الدنيا وما أدركها خلل أو أصابتها منقصة! وحين قصد ملحقنا النابه هذا الطالب المستفيد وضع نصب عينيه تحقيق مصلحة مشتركة للفرد والمجتمع والحكومة، مع تجنيبهم الخسائر المادية والمعنوية قدر الإمكان. وتعاطى مع الطلبة بفطرية الإنسان دون أن يفقد حزم الإداري، أو تسيل المسؤولية الصلبة، وتذوب المتطلبات الرسمية؛ فإن أعمل النظام أو تجاوزه فهو محسن في الحالين، قاصد لا يحيف، متوازن بلا جنف، متوسط بدون إفراط أو تفريط، وإن التوازن والتوسط وابتغاء المصلحة المعتبرة لسمات يُساق فيها الذهب الأحمر.

ثمّ إن هذا الرجل الفارع، والملحق البارع، قد أصبح نموذجًا لا يقارع؛ لأنه كان صاحب قرار ماض بلا توانٍ أو تردد، ونفذ مهامه بيضاء نقية خالية من أيّ أهداف فكرية أو فئوية، فهو مع الطالب أيًا كان، ومهما كانت شخصية المبتعث؛ لأنه في النهاية سينفع بلده وأناسه ولا مناص. ولأجل هذه الصفة الظاهرة أطبق المبتعثون مع تباينهم على محبته والولاء القلبي والذهني والزمني له، ولم يأنف أحد الطلاب بعد أن أثرى من دعوته والاحتفاء به حتى لو أن بعثته انتهت على يد المنقور الذي رأى بفقهه أن عودة الطالب العابث-حينها- لدياره خير من أن يمضي بقية عمره في سجن أمريكي يمسي الفتى العربي فيه غريب الوجه واليد واللسان!

ليس هذا فحسب، ولذا أريد أن أنقلكم إلى عصر المنقور قبل ستين عامًا ثمّ أعود بكم إلى يومنا هذا؛ فقد كان الطلبة في أمريكا على اتساعها وتباعد جامعاتها وولاياتها تحت سمع أبي محمد وعند مرمى بصره، ومن المؤكد أنهم لم يغيبوا عن خواطره وأفكاره. وفي ذلكم الزمان لم تكن الاتصالات كما هي الآن، ولا توجد تطبيقات تراسل ولا وسائل تواصل، وثقافة الحقوق والمطالبة بها دون المستوى المؤثر، والشكوى من أيّ قصور متعبة للشاكي أكثر من المشتكى، ومع ذلك أنجز الرجل مهامه بفعالية استثنائية وكفاءة لافتة، مع أن التقنية لم تكن إذ ذاك معينة، والشكوى شبه مأمونة، والمتابعة غير دقيقة، ولعله نظر إلى الأمانة التي حمّل إياها بعيدًا عن الحسابات الدنيوية والمآرب البشرية، فحملها بحقها، وأداها على أتم وجه ممكن.

أما إذا رجعنا معًا إلى زماننا الحاضر؛ فلو كان المنقور ملحقًا الآن، لربما أمكنه الإشراف على جميع المبتعثين في الدول كافة من خلال وسائل الاتصال المتاحة، وإن العجب ليتملكنا مما يضج به بعض المبتعثين هذه الأيام من شكاوى بالقصور وضعف التجاوب، فإن كانت تلك المآخذ دقيقة فاللهم “منقر” جميع أجهزتنا العامة وملحقياتنا وسفارتنا؛ حتى يغدو المواطن والمبتعث والمسافر والمتاجر والمعالج في حال من العز والمؤازرة والعون لا يخشى معها شيئًا من الوزر والأثقال والتعسير، وإذ ذاك سوف نسمع عبر وسائل النشر والإعلام المتغازرة عن أكثر من منقور شهم.

كما ظهرت لي إبان تتبع سيرة المنقور لطائف منها أن الرجل لا يحمل شهادة دراسة جامعية بيد أنه وضع في موازينه أكثر من خمسين ألف شهادة عُليا، وربما أزيد من هذا العدد إذا نظرنا إلى آثار آثاره وسلاسلها. ومنها أن الرجل الكبير كان بإحسانه بارًا بوالديه وأسرته وبلدته وقبيلته ودولته وأمته؛ ولعل هذا البر مما نُسأ به أجله، والله يعظم له أجوره في برزخه ويوم يلقاه. وإن أنسى فلن أنسَ أن المنقور وضع بذرة في نفوس جميع من تعامل معه آنذاك؛ فمنهم من سقاها حتى صارت فيه من خصال المنقور، وربما أن منهم من قصّر أو شغل عن تعاهدها، وحقيق بنا أن نرى في طلابه وطلابهم مدرسة منقورية مديدة في الإدارة والخدمة العامة.

كذلك يجدر الإشارة إلى موقف الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ الذي كان حينما رشح المنقور للملحقية وكيلًا لوزارة المعارف أو وزيرًا لها، وجاء ترشيح المنقور أولًا لسويسرا فاعتذر بأنه لا يجيد لغتها الفرنسية، بينما يستطيع تدبير نفسه باللغة الإنجليزية، ويقترح أن يكون عمله في أمريكا، فوافق المسؤول من فوره ولو تعسّر لفقدنا كثيرًا من التطبيقات المنقورية السامية. والشيء نفسه يقال بحق الدكتور عمر أبو خضرا الذي منح المنقور الصلاحيات كاملة، وفوضه ولم يعقه أو ينافسه أو يقف في طريقه وقوف العاثر المعيق.

ومما لاحظته أيضًا أن عددًا من هذه الأسرة العريقة مثل الأشقاء الكرام الشيخ عبدالمحسن والشيخ سعد  والشيخ ناصر، وابن عمهم الكبير الشيخ عبدالعزيز العبدالعزيز، وملحقنا الرمز، قد ارتبطوا بالتعليم، وتفانوا في خدمة الناس، وكانوا في حلهم وترحالهم -وفي محياهم ومماتهم- مواضع إجماع واجتماع وتوافق، وكم تحتاج المجتمعات إلى مثل أولئك الأوتاد المتينة ليزيدوا من ثباتها ورسوخها في زمن الرخاء وساعات الشدة.

أيضًا استوجب الانتباه أن الشيخ عبدالعزيز المنقور نال الصيت وهو حي، وحظى بالخلود التاريخي عقب وفاته، هذا وهو لم يزاحم على الأضواء، أو يتقاطر على البروز؛ بل امتنع من إجراء اللقاءات التلفزيونية حسبما سمعت، واكتفى بمجلسه المنزلي المطروق. وقد ظفر بما ظفر به من أحدوثة عبقة، وثناء فاخر، مع أنه ليس من أهل المال، أو المناصب، أو النفوذ، أو التآليف، أو المخترعات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ولكأن الرجل لو رآنا لأنشد مع التهامي قوله:

لا ذَنبَ لي كَم رمت كتم فَضائِلي

فَكَأَنَّما برقعت وَجه نَهاري

وَسترتها بِتَواضعي فَتطلَّعت

أَعناقها تَعلو عَلى الأَستارِ

وَمِنَ الرِجال مَعالِم وَمَجاهِل

وَمِنَ النُجومِ غَوامِض وَدراري

هذا وإنك أيها القارئ والسامع لأحاديثنا المكتوبة والمنطوقة عن الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن عبدالكريم المنقور (1348-1443) في حياته، أو بعد وفاته، لن تجد أبلغ من أن تتفاعل مع ما بلغك داعيًا بصوت خافت أو جهير قائلًا: يا أيها الرجل الرفيع عماده في كلّ شأن، الطيبة أخباره في أي محفل، العظيم اسمه عند المجامع، المفتخر به في المراكز: طبت حيًا، وطبت ميتًا، طبت فعلًا، وطبت قولًا، طبت أثرًا، وطبت خبرًا، وطبت قدوة سيّارة لا تنقطع بطول زمان، أو نأي مكان، أو ذهاب إنسان.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الجمعة 15 من شهرِ شعبان عام 1443

18 من شهر مارس عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)