القراءة في مجلس دراية
من المناسبات المتوافقة أن كان اللقاء الثاني في مجلس دراية عن القراءة عبر استعراض ثلاثية المثقف الكوني ألبرتو مانغويل التي أصبحت فيما بعد خماسية وربما أكثر. وزاوية التناسب أن القراءة عملية فيها حشد وحفظ ورواية، وفيها فهم ووعي ودراية، وأكمل ما تكون حين يجتمع الأمران؛ فيختزن القارئ معلومات كثيرة، ويعرف كيف يوظفها ويستفيد منها في إبداء وجهة النظر وتفسير الأحداث؛ فليس من الحسن أن يلّم المرء بمعلومات كثيرة عن أوكرانيا مثلًا، لكنه لا يستطيع تخمين سبب منطقي محتمل أو أكثر للغزو الروسي الأخير لها.
بيد أنه من الواجب عليّ قبل الدخول إلى عالم مانغويل مع القراءة أن أشير إلى مقدمات وتساؤلات مهمة أوازن بها النظر التبجيلي لهذا القارئ الكاتب الذي صار ملء أسماع ثقافة العالم وبصرها؛ فمنها:
- يوجد في عالمنا العربي والإسلامي تجارب عريضة في القراءة، وبعضها امتد إلى سيرة قرائية أو قصة مكتبة، ومما يحضرني الآن من المنشور منها ما كتبه د.عسيلان حول مكتبته وأقسامها، وما ألّفه د.الأحمري عن حكايته مع القراءة، ولو بحثنا لوجدنا نماذج أخرى، وليس المقام للحصر.
- من الشائع أن يكتب عدد من العلماء والأدباء والمفكرين مقالات طويلة أو قصيرة عن الكتب، ومن أجمع الأعمال العربية ما حوته مجلة تراث الإنسانية في مجلداتها الثمينة الجديرة بأن يُرجع إليها. وللأديب المصري العقاد كتاب عن مطالعاته، وللأديب والوزير السعودي د.القصيبي مقالات مجموعة في كتاب عما قرأه من الإصدارات الخليجية، ومن المقطوع به كثرة المطبوعات من هذا القبيل، ولست هاهنا لا ستكثر بسردها.
- لماذا لا تنتشر تجارب مثقفينا مع الكتاب وعالمه في اللغات والحضارات الأخرى؟
- لماذا تقتصر الكتب العربية المشتهرة لدى الأمم الأخرى على ألف ليلة وليلة، وعدد محدود من الكتب ربما أن مقدمة ابن خلدون من أكثرها تداولًا وهو رائد يشرّف أهله؟
- لم اختفت الأعمال الخالدة المنتسبة لأمتنا ومنتجاتها الحضارية من القوائم العالمية، وأضحى الحديث منها قليلًا أو معدومًا؟
- حتى متى نغيب عن إصدار الكتب السبّاقة المؤثرة أو المؤسِّسة لعلوم أو أفكار جديدة؟
- ألا يمكن أن يتفرغ فريق لاستلال مقولات ملهمة وإثرائية ومميزة لرموز أمتنا كي تنشر بلغتنا ولغات العالم الأخرى تمهيدًا للتعريف بهؤلاء الرموز وبكتبهم؟
- أليس من الحكمة ألّا يقتصر زادنا الثقافي على الترجمة من الغرب أو مما يروج لديهم؛ ففي إفريقيا وبلاد الشرق والدول اللاتينية مواد جديرة بأن يُعتنى بها خاصة مع تشابه بعض الأحوال بيننا وبينهم؟
- كيف يمكن التعريف بأعلام الثقافة العربية والإسلامية القدماء والمعاصرين حتى لا تصبح القائمة المنتشرة دوليًا محصورة وضيقة بأسماء محدودة؟
بعد هذه المقدمات والأسئلة، ندخل بطمأنينة إلى عالم ألبرتو مانغويل المولود عام (1948م)، وهو أرجنتيني يحمل الجنسية الكندية، وقد ألّف عدة كتب تحوم حول القراءة والكتب والمكتبة والكلمات والشخصيات والخيال؛ ولذا يُلقب بـألقاب منها “الرجل المكتبة” و”دون جوان المكتبات” كما وصفه الناقد الأميركي جورج ستاينر. وعنده مكتبة ضخمة فيها أكثر من أربعين ألف كتاب؛ وإن كان عدد الكتب ليس عاملًا حاسمًا في تكوين عمق المؤلف على أهميته.
تأثرت شخصية ألبرتو بمربيته التي تعلم على يديها القراءة، وأجاد من خلالها وبجهوده الفردية فيما بعد عدة لغات، واستثمر قدرته على السفر والتنقل لقراءة الحضارات والناس والتراث العالمي والصور، وأفاد كثيرًا من عمله أربع سنوات قارئًا للأديب والكاتب الأرجنتيني بورخيس في شيخوخته وهو إذ ذاك شاب في مقتبل عمره، وما أعظم أثر المعايشة والمصاحبة، ولنا في تاريخنا أمثلة باهرة مثل أبي حنيفة مع صاحبيه، والشافعي مع الربيع، وابن تيمية مع ابن القيم وبقية طلبة المدرسة التيمية، وليت أن الأحياء ممن عايشوا كبارًا أن يكتبوا عن تلك الفرصة التي غنموها بما فيها من عبر وفوائد وملح.
ثمّ إن مانغويل بعد أن طاف بالدنيا وخبر عوالم الكتاب بحرية دون حواجز صار لديه عدد من الآراء التي تظهر فيما سطره بمؤلفاته، أو ذكره في محاضراته ومقالاته، منها:
- للقراءة معنى أوسع من قصرها على الكتب؛ فهي تشمل النفس والحياة والناس والتاريخ والمجتمعات والشارع والصور.
- لا نستطيع الاستغناء عن القراءة لأنها مثل التنفس فهي وظيفة حياتية أساسية.
- فعل القراءة يشتمل أيضًا على الكثير من المعاني الأخرى منذ قديم الزمان.
- إننا بحاجة إلى نشر الكتب حتى تلك التي لا تباع، ومن الخطأ أن نتعامل مع الأدب بمنطق الاستهلاك.
- تقاوم القراءة التدمير الممنهج لذواتنا وحياتنا الحميمية؛ فالقراءة فعل مقاومة.
- تقف القراءة ضد التدجين والتهميش للبشر، ولذلك تحرص بعض الحكومات على تلهية الناس بالقمامة المرئية.
- تمثّل القراءة ارتحالًا في المعنى من أجل فهم الحياة.
- بالقراءة يمكن الاطلاع على متون خالدة تشكل ذاكرتنا الجمعية.
- القراءة هي الفعل الأكثر انسجامًا مع جنس الإنسان الراغب في المعرفة والفهم.
- عندما تقرأ: ابتهج، أنصت إلى الأسطر بعمق، احكم على الكتب من خلال أجمل صفحاتها، عد لطفولتك أمام الكلمات.
- الكتب تنقذ العالم من العبث.
- ينظر البعض إلى القراءة بوصفها رعبًا لأنها توقظ الوعي.
- في القراءة طقس انبعاث للنصوص القديمة ولكتّابها.
- مكتبة أي إنسان هي سيرته الثقافية والقرائية.
- يكتب على باب مكتبته: اقرأ ما شئت!
- القراءة في الصغير تمنح النفس توازنًا وتميزًا على الأقران.
أما كتبه حول القراءة فمنها كتاب تاريخ القراءة، وقد تحول إلى مادة مرئية عرضها التلفزيون الأمريكي والكندي في سبع حلقات تقريبًا، علمًا أن تأليف هذا الكتاب استغرق سبع سنوات، وحصل على دعم مالي من عدة مجالس وصناديق في كندا، ولمقدمته وخاتمته نفس العنوان مع اختلاف المضمون، وينقسم إلى قسمين هما: فعل القراءة، وسلطان القارئ. وله كتاب آخر فريد عن المكتبة في الليل، وكتاب ثالث عن يوميات قارئ يحكي تجربة جميلة، وعقب ذلك أصدر كتابين عن القراءة -فيما أعلم- لم أتمكن من الاطلاع عليهما مع أن أحدهما بين يدي.
ويرى أن سلطة القارئ مطلقة فلا شيء مقدس يحول دونها؛ وقوله هذا معلول في ثوابتنا فالنصوص الشرعية مثل القرآن العزيز وصحيح السنة وإجماع الأمة لا مجال لإطلاق سلطة أحد عليها فمن ذا يجرؤ على الوحي المقدس؟! ومن الأحكام الثقافية حسب رأي مانغويل وجوب كسر سلطان النص (البشري)، ومحافظة القارئ على مرجعيته حتى لا يكون بلا هُوية، فالمرء يقرأ من أجل أن يطرح أسئلة على رأي كافكا القائل: اقرأ كتباً توقظك!
كما يحث مانغويل القارئ على جعل نسخته من أيّ كتاب فريدة، وفيما قرأت من درر أسلافنا قولهم إن الكتاب يضيء إذا أظلم بكثرة التعليقات، وإن هذه التعليقات لتحكي عن ذكريات جميلة، وتعبر عن تفاعل رشيد بين المؤلف والقارئ، وشراكة وثيقة في تلك النسخة، تلك الشراكة التي جعلت ماتشادو يعتقد أن الكتاب يجب أن يحمل اسم المؤلف واسم القارئ معًا لأنهما يتقاسمان أبوته!
كذلك يقول ألبرتو: إن التاريخ الحقيقي للقراءة هو تاريخ كلّ قارئ وحده مع القراءة، وإن تاريخ كاتب معين لا يبدأ من الكتاب الأول له وإنما بقرائه ولو تأخر وجودهم، وفي هذه الالتفاتة عزاء لمن يكتب فلا يجد في معاصريه تفاعلًا أو جمهورًا ذلك أن المعاصرة حجاب عن التقدير ومدعاة للنقد؛ ولربما كتب المرء شيئًا وكأنه يخاطب به أجيالًا قادمة، وكم من كتاب انبعث بعد كمون، أو شاع بعد عصر مؤلفه أكثر مما ناله إبان حياته.
مما أكدّ عليه مانغويل أيضًا ضرورة الترتيب الذهني للكتب، وبيان علاقتها ببعضها، ومعرفة إطارها الزمني، وأذكر في هذه السياق كلمات شبيهة تربط بين العلوم قالها العلامة البروفيسور فؤاد سزكين. ولا أنسى وصف المكتبة العربية بأنها كتاب واحد وهو وصف متكرر من العلامة محمود شاكر ومن تلميذه النجيب د.محمود الطناحي الذي نقل لنا أن شيخه شاكر يكاد أن يستعرض المكتبة العربية التراثية أمام ناظريه دون أن يكون بعض أطرافها غائبًا عنه؛ ولذا حاز أبو فهر التميز والقوة، وآلت إليه المرجعية في العلوم العربية.
وينصح مانغويل بتحرير الكتب من تصنيفها في مجال واحد، وهي فكرة عملية للغاية، فكتاب النهاية في غريب الحديث والأثر هو كتاب في السنة المطهرة وفي اللغة العربية، وسيرة د.المسيري سيرة ذاتية وفيها فكر ومنهج بحث وتفكير، وبعض الكتب تستعصي على التصنيف مثل طبقات الشافعية الكبرى فهو تراجم وعلوم أخرى كثيرة، والأمثلة واسعة. وقد يضاف لهذه الطريقة حصر الفوائد التي ترد في غير مظانها والتنبيه إليها؛ فلو قرأ إنسان مادة لغوية في معجم البلدان فمن الصواب أن يشير إلى موضع هذه الفائدة في مكان ما من كتابها الأصلي، أو في موضع من كتاب يختص بالعلم الذي تنتسب إليه حتى لا يطويها النسيان وتوالي سنوات العمر.
أيضًا يسمي المثقف الكبير المكتبة شفاء الروح، ومرآة الكون، وأحيانًا رفاهية الروح، ويروي عن بورخيس أنه لا يرى الفردوس إلّا مكتبة! وجعل مانغويل من المكتبة أسطورة إلى أن انتهى بها وطنًا! وبين الوصفين حديث عن الشكل والمكان والترتيب والهوية والأثر العقلي لها. ويبدو أن شغفه بالمكتبة قديم حيث كان حلمه أن يصبح أمين مكتبة، ولم يتحقق له حلمه إلّا حين بلغ السادسة والخمسين يوم عاد ليلتصق بمكتبته أكثر فأكثر. ومما أعلمه عن شاب مثقف أنه أراد تجربة جميع أنواع العلاقة بالكتاب قارئًا ومؤلفًا وناقدًا وبائعًا وناشرًا، ولعل تجربته أن تنضج وتكتمل حتى ينشرها، ولأحد المؤلفين المغاربة -محمد آيت حنا- كتاب لذيذ عن المكتبات.
من لطائف مروياته ما نقله عن العالم الأمريكي أوليفر ويندل: يجب على كل مكتبة أن تكون مكتملة في شيء ما حتى لو كان تاريخ رؤوس الدبابيس! وهي إشارة لأهمية التخصص التي ينتج عنها عبقرية الاهتمام، وأذكر أن أشهر مترجم عربي لأعمال كافكا قال لي: لا يُكتب شيء عن كافكا بعدة لغات إلّا بلغني خبره. ومن لطائف مانغويل الأخرى إعجابه بقانون صارم في ليون يجبر من يكتب أدبًا من الدرجة الثانية بمحو ما كتبه بلسانه!
ولا يحفل مانغويل بالكتب المعارة؛ فهي عنده كالزوار الثقلاء، لأنه لا يستطيع التعليق عليها، ولا يتعامل معها بحرية تجعله شريكاً للمؤلف. ويعترف ببغض ملصق السعر على الكتب ويصفها بدملة شيطانية. ويعلن أنه لا يقرأ أيّ ملخص لكتاب ينوي قراءته. وله تجربة في إعادة قراءة بعض الكتب الرائعة التي طال عهده بها، وتكرار قراءة الكتاب صنيع مفيد للغاية، ولبعض علمائنا المعاصرين قراءات متكررة لشرح صحيح مسلم تصل إلى خمسين مرة.
ومن آثار معايشته مع بورخيس التي وصفها بالأسر السعيد أصبح يكره الظلم والقهر، ويمتعض من حكام ينعتهم بأقذع الصفات مثل ترمب وبوتين ونتنياهو ومودي والأسد وغيرهم، مع أنه لم يتعرض لعسف حكومته في الأرجنتين خلال حقبة طغيانها، بيد أنه شعر بما وقع على غيره من المثقفين والكتّاب، ولذا فلا غرو أن يتبرم من الطغيان، وأن يقول أو ينقل عن غيره: لا زالت تدهشني السذاجة التي تدفع كتّابًا أذكياء لتسخير أعمالهم لخدمة أهداف الساسة!
أخبرنا مانغويل كذلك أن شيخه بورخيس كان نافد الصبر تجاه الغباء، ويعدُّ جلوسه إلى قاطع طريق ذكي أحب إليه من الحديث مع أكاديمي فارغ! ومما قرأته قديمًا خبر تضايق الإمام الشافعي من الجلوس مع الثقلاء وأنه يشعر بهبوط مستوى الجهة التي يكون فيها ثقيل! وقبله قال التابعي الحليم الأحنف بن قيس إنه إذا جلس مع أحمق ساعة تبين أثر ذلكم الوقت في عقله! ويا له من تعبير شنيع أجارنا الله وإياكم.
هذه جولة مع حكاية عاشق مولع بتفاصيل القراءة؛ يعيش معها كأنه يرتشف مشروبه الشهي المفضل بهدوء وسكينة، ويمضي وقته مع الكتاب مثل من يمشي برفقة إنسان أثير يستطعم المسير بصحبته، ولا يريد التوقف أو الانتهاء، ويتصفح الكتب في رفوف مكتبته بلا تعب أو ضجر، بل إنه يمقت الفراغ في المكتبة ويشبهه بالصمت القاتل. وهو إنسان مشتبك مع عالمه دون انفكاك، والقرار بالقراءة لديه واضح ونهائي، لأنه يصف نفسه بأنه قارئ لديه قدرة على الكتابة، ولذا فجميع أحاديثه عن القراءة تدفع إلى القراءة، وتحرّض القادر على الكتابة، وما أطعمهما من عملين وأعظم منافعهما.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الثلاثاء 28 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
01 من شهر مارس عام 2022م
2 Comments
وصف اكثر من رائع
عندي من كتبه كتابين.
ماشاء الله. بالتوفيق.