خواطر في وداع الشيخ المهنا
وردتني قبيل آذان عشاء يوم الأحد رسالة فيها نعي للشيخ القاضي سليمان بن عبدالله المهنا (١٣٥٤–١٤٤٣)؛ فكان وقع ألمها عليّ مضاعفًا ذلك أن لدى أسرتهم العريقة مناسبة زواج في الليلة نفسها، والله يغفر للشيخ ويحسن العزاء لأسرته ومحبيه، ويتمم جميع أمورهم بالبركة والتوفيق فقضاء الله لا مفر منه. وكنت قد لاحظت منذ مغرب يوم أمس حراكًا أرفع من المعهود في عدد قراء مقالة كتبتها عن شيخنا قبل خمسة أشهر، وتواصل الشيخ معي شاكرًا وفي حديثه وإياي آنذاك هضم نفس وتواضع.
ثم إني وصلت مبكرًا إلى مقبرة الشمال عقب صلاة عصر اليوم الاثنين، فجلست عند مظلة داخل المقبرة استثمارًا لوقت الانتظار في تلاوة أوراد المساء، والدعاء لساكني القبور إلى أن تأتي الجنائز؛ فلا شك أنهم يتلهفون لمثل تلك الدعوات عسى أن تصادف قبولًا كي يفوزوا بأنس وضياء يصل إليهم في مثواهم البرزخي الموحش خبره المظلم في ليله ونهاره، وليت أن كل مَنْ يعبر بالمقابر أو يدخلها يخصّ أهلها بدعوة مأثورة أو غيرها.
وخلال زمن الانتظار جلس آخرون قريبًا مني في المكان نفسه، وشرعوا في حديث قطع ما أنا فيه، ولم يحجبه عني هبوب الهواء الشديد. ومن حوارهم فهمت أن أحدهم يحضر للمقبرة يوميًا بعد أي فرض يُصلى بعده على أموات، وما أسعده بالأجر والقراريط ورقة القلب، بينما قال آخر: إنه ذهب لمسجد الجوهرة البابطين مع الآذان فوجده ممتلئًا حتى أضطر للصلاة خارج المسجد من تزاحم المصلين وكثرتهم، وهو ما حصل معي كذلك.
ففسر له الرجل المتابع للجنائز سر هذه الزحمة، وأخبره أن الشيخ القاضي المهنا من جملة الأموات؛ ولذا تزايد عدد الناس، وحينها استفسر ثالثهم قائلًا: هل الشيخ ابن مهنا هو رئيس المحكمة؟ وبعد أن أكدّ له الأول ذلك قال الثالث لهم: لقد سمعت من أحد المتعاملين مع المحكمة باستمرار قوله: يملأ الرعب نفوسنا، وتحيط بنا الهيبة إذا دخلنا إلى المحكمة، وعندما ندلف إلى مكتب الشيخ سليمان تغشانا السكينة، وتطمئن قلوبنا، وتنزل علينا التؤدة من لطفه وسماحته بعد أن بلغت القلوب الحناجر أو كادت، فعلّق الرابع خاتمًا جلستهم بسبب حضور الجنائز بخلاصة منها: ما أسعده بثناء الخلائق عليه!
وقد أمسى الشيخ مباركًا في مماته كما كان مباركًا في محياه؛ إذ احتشد عباد الله من الرجال والنساء في الجامع للمشاركة في الصلاة ثمّ يشيعه الرجال، ولربما أن جنازته من أعظم الجنائز التي صُلي عليها في جامع البابطين حتى الآن. كما توافد آخرون على المقبرة وصلوا على أيّ جنازة قادمة من الجوامع الأخرى ولو كانت تعود لسقط أو رضيع أو مجهول الاسم أو الحال، فما أعظم بركات العلماء والأخيار على الناس إذا حضروا وإذا غابوا؛ ذلك أن الله جعل بعضًا من خلقه مفاتيح خير مغاليق شر، وبهم تقضى للناس حوائج وتدفع عنهم مضار ومناقص.
ولست بناسٍ جنازة الشيخ حمود التويجري التي جعلت جامع الراجحي القديم يفيض من كثرة المصلين حتى نادى الإمام عبر مكبرات الصوت: من كانت معه جنازة فليضعها حيث هو ولا يتخطى الرقاب كي يصل بها إلى المقدمة، والأجر يشملهم جميعًا بإذن الله حسب فتوى الشيخ ابن باز الذي حضر وأمّ المصلين. ومثلها جنازة الشيخ عبدالعزيز الوهيبي في جامع الراجحي حتى اضطر الناس للصلاة في الطرقات وبين السيارات، ولما استفتى أحدهم الشيخ عبدالرحمن البراك عن صحة صلاته على تلك الهيئة قال له: لعلك تقصد يوم الصلاة على الشيخ الوهيبي!
فالمزية في يوم جنائز الأولياء والصالحين والعلماء والعباد والمنفقين أن جلّ شهودها من أهل الصلاح والتقوى– أحسبهم– ولا يرجون جزاء أو شكورًا، ولا يسترضون خلفٍ يتراءون أمامه في يوم رحيل سلفه، وليس بينهم وبين المتوفى نعمة ترد، أو منة يجازى عليها، أو مصلحة يخشى فواتها، وإنما يسوقهم رب العالمين العالم بالسر وأخفى سوقًا إلى الجوامع على اكتظاظها، ونحو المقابر مع وحشتها وأتربتها، فالغنم والسعادة في التجارة الرابحة مع الله؛ فارحمنا يا مولانا، وسخر لنا مَنْ يقوم بنا إذا فارقنا الدنيا، وهيئ لنا مَنْ يذكرنا في دعائه وصالح أعماله ونحن في مسيس الحاجة لها.
ومما وقع لي من خواطر أن الموت جمع الناس من مشارب شتى إن في المسجد أو المقبرة أو في الطريق بينهما؛ فالغالبية مخبت مستغفر يرق قلبه، وربما استعبر أو دمعت مآقيه بغضّ النظر عن أيامه السالفة ولياليه السابقة؛ فمصيبة الموت، وألم الفقد، وحزن الوداع، تكاد أن تكون متساوية في أحاسيس الناس ومشاعرهم وآثارها الآنية، وإنما يكمن الفرق فيمن يُبقي في نفسه شيئًا من لذعة الموت وهيبة المقابر وخوف الأكفان والجنائز حتى وإن تباعد عهده بآخر وفاة وصلاة وعزاء.
كما أني نظرت بإجلال لأنجال الراحل وأحفاده وأسباطه بعد دفن شيخهم وأبيهم الكبير؛ إذ لم يستعجلوا الانصراف لاستقبال العزاء، وإنما فقهوا –وليس بمستغرب منهم– أن هذه اللحظة تكاد أن تكون من أكثر الأوقات أهمية لراحلهم؛ لأنه سيتلوها الامتحان الصعب حتى وإن كانت أسئلته مع إجاباتها الصحيحة معروفة مسبقًا، فاللهم ثبتنا وإياه وكل مسلم ومسلمة بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويوم يقوم الأشهاد. ومن كمال صبر الجموع وجميل حرصها أنها شاركت في الدعاء والابتهال مع الذرية والآل، ولم تصنع مثلما يفعل بعض مَنْ لا يدرك المغازي والمرادات؛ فيسحب ذوي الميت لصفوف التعازي، ومكانهم حول القبر أليق بهم وأولى.
يا له من حزن فيه وخز للقلب لا يهدأ، ودمع في شؤون العيون يهمل ولا يجف، ومنه في الصَّدرِ حَزَّازٌ من الفَقْدِ حَامِزُ، ولسنا نقول إلّا ما يرضي ربنا، فالعزاء كل العزاء أن يذهب المرء لربه وقد ترك سيرة رضية، وأحدوثة من الأخبار الحسنة تُروى عنه ويذكر بها سائر الدهر، وذرية صالحة لا تغفل عنه وتتواصى بذلك، هذا غير خبايا من الإحسان، وخفايا من أعمال البر، وأفضل من ذلك كله، وأشد في الرجاء، أن الإنسان بعد كدح الحياة وأحداثها يمضي فيلاقي خالقه الرحيم الرؤوف الودود الغفور سبحانه، وإنه لرب كريم عفو وهو الله والرحمن وبكلٍّ ندعوه لنا ولمن مضى من أهل التوحيد والإخبات.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الاثنين 20 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
21 من شهر فبراير عام 2022م