مزنة الراجحي: سيدة التفاصيل الصغيرة!
وضعت على نفسي دينًا بأن أكتب عن عدد من الشخصيات بعينها، وأوفيت بعضه، وبعضه الآخر في الطريق، ومن المؤكد أن العجز أو العسر أو التعذر سيدرك بعضهم رحمة الله ورضوانه على المسلم منهم. وأذكر أني حين أردت الكتابة عن شخصية رجل الدولة الحكيم الشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير سألت رجلًا أدركه فقال لي: عاصرته طفلًا ومراهقًا صغيرًا وليس عندي ما سيفيدك، فقلت له: أعطني من ذاكرة طفولتك، فأخبرني عن ثلاثة قصص هو لا يراها شيئًا مذكورًا، وهي عندي بوزنها ذهبًا، وقد تعجب الرجل فيما بعد من طريقة إيراد مروياته وتوظيفها دون تحريف.
إن التفاصيل الصغيرة تعبر عن حقيقة المرء ربما أكثر من الأعمال الكبيرة والظاهرة؛ فتلك التفاصيل من عمل أو فعل أو قول خير ما يعكس شخصية الإنسان وحقيقة معدنه. وعندما توفيت المرأة الصالحة المحسنة مزنة بنت محمد العبدالله الراجحي تعطرت الأجواء بأخبارها التي تناقلها الناس عمن حولها وعمن عرفها أو تعامل معها، ولا أشك لحظة أن المرأة الصالحة -أحسبها- لو عادت للحياة وتلي عليها ما كتب عنها لقالت بلهجتها التعجبية ونهجها المتواضع: هاو! أنا دون ذلك، ولربما قالت أيضًا: هاو! أنتم جواسيس حولي!
فقد دلت تلك التفاصيل على معان عظيمة منها أن مزنة لم تنجرف مع ثرائها وقوتها المعنوية لمناكفة زوجها أو الاستقلال عنه أو إغضابه خاصة بعد أن بلغها نصيبها المفترض من أموال زوجها متعه الله بالصحة والعافية والإيمان. وبعض النساء مع الأسف منذ أن يرن هاتفها مشعرًا برسالة إيداع راتب من بضعة الآف يتوارد عليها من الخواطر والنزغات ما لو عرفه الذين حولها لظنوا أن حسابها المقفر قد تزاحم بمئات الملايين والمليارات، بينما سعت المزنة إلى تطلب رضا زوجها عنه، وإعذاره، وإظهار الأمنية بصنع ما يحبه، وأزيد من ذلك يرضيها من حوله بالحديث عن الشيخ سليمان كي تبرق نواظرها فرحًا بالثناء عليه، وأين منها كفارات العشير!
كما أنبأتنا تلك التفاصيل عن هذه السيدة المتبتلة أن مالها لم يأخذها في أودية المباح والحلال فضلًا عن الحرام وحاشاها، فلديها أربعة أثواب للمناسبات وهي تقول ذلك وتخبر عنه جذلة مستكثرة، والبعض تمتلئ خزائنه بالملابس وهو في ضجر من قلة ما لديه فيما يرى! والوصول إلى مكة هو أسمى أمانيها وأعظم مراد لها، ولو كان لدى آخرين معشار ما وهبها الله، لصدعوا الناس في المجالس والمنصات قائلين: رأينا في باريس، وأكلنا في نيس، وكان ما كان في كان!
كذلك من بدائع تلك التفاصيل أن المرأة عاشت تحت تدبير رباني من التيسير والتسهيل ربما كرامة لها على طريقة العيش والتعامل والبعد عن الاستقصاء والتتبع؛ فحتى إشارات المرور تبتهج بمقدمها وتفتح لها الإشارة الخضراء الواحدة تلو الأخرى، وأعظم من ذلك أنها حين فارقت الدنيا صادف يوم رحيلها يوم الجمعة، وتحزن عليها المحبون وربما فيهم من خلا بربه في مسجد ساعة الإجابة قبل صلاة المغرب وخصها بدعوات باكية. ثمّ جهزت المرأة النقية وصلي عليها ودفنت خلال ساعات قليلة خلافًا لكثير من الوفيات والجنائز، وشاركت بناتها في تغسيلها وتكفينها، وحملها بنوها، وكانت تلك التفاصيل من مطالبها.
ومنها أنها ساعية في نشر السعادة والفرح، فالأطفال يبتهجون في حضرتها وفي بيتها، وتنجذب لها قلوبهم ويمحضونها خالص المودة ويرونها موضع القدوة، وحكم الاطفال حكم مباشر خالٍ من الأغراض والتصنع، وقلوبهم لا تهفو لأهل الكزازة والغلظة أبدًا. وحين ترى إحدى حفيداتها تبدي لها إعجابها بمنظرها وتود لو خطبتها لابنها، وتخبر عن أمنيتها بحضور عرسهن وهو ماكان قبل دخولها في دوامة المرض، وتسأل عن زوج حفيدة ثمّ يمتلئ فؤادها بالسرور لأنه من شقراء التي أشتهر أهلها بالمحافظة على الصلاة كما تقول مزنة فهذا الذي يهمها، علمًا أن أهل شقراء الجميلة معروفون بالبداهة والذكاء والتجارة بيد أنها خصال على كمالها ليست في حسبان شيختنا الراحلة.
أيضًا تفهم هذه المرأة الحكيمة الأولويات وتفقهها مع أنها لم تحظ بتعليم رسمي أو غير رسمي، فعندما أحضرت لها إحدى حفيداتها الكراث مع الخبز- وهو وجبة قصيمية صحية مشتهرة- سألتها: هل صنعت ذلك مع أمك فلانة وتعني جدتها من أبيها؟! وحين أجابت بالنفي قالت لها: اذهبي وأطعمي مع أمك أولًا وأنا يأتي دوري معك لاحقًا، وكأنها تؤكد على ضرورة العناية بجميع الجدات حتى يرضى الآباء والأمهات. ومن المؤكد أنها تفعل ذلك مع أزواج أبنائها، وتكمن عظمة هذا الدرس بأنها أم زوج تحث حفيدتها وتحضها على بر حماة ابنتها أو كنّتها هي، وكم بين الحموات من تنافس، وكم بينهن وبين والكنّات مما صنعه الحداد أو حتى ما صنعته المفاعيل النووية!
ثمّ إنه من جبلّة النساء الغيرة من بنات جنسهن كافة، فإذا تشاركت امرأتان أو أكثر في رجل واحد دبت بينهن الغيرة الحميدة والخبيثة، لكن مزنة كانت مختلفة؛ فهي ترفض تسمية زوجات زوجها بالضرائر، علمًا أنها هي الأولى بينهن، وتقول هن مثل أخواتي ولم يدركني منهن أي سوء أو نقص! بل حين رأت نخلة في بيتها مشمخرة في عنان السماء متعانقة مع نخلة في بيت زوجة أخرى لزوجها سألت مولاها أن تكون وشريكتها معًا في الجنان؛ فأي سمو، وأي بهاء!
وأخيرًا فإن هذه السيدة الحصان امتلكت المبالغ المالية الكبيرة في الدنيا، ومن عظيم توفيق الله لها أنها ستقدم على مولاها وليس عندها ريال واحد بعد أن أوقفت مالها جميعه، وهو درس عظيم لأولئك الذين يمتلكون من الثروات الطائلة بأصنافها أموالًا مكتنزة دون أن يرسلوا شيئًا منها لتسبقهم إلى الله والدار الآخرة التي ستكون دار المقام لنا جميعًا، ولن يستطيع أحد أن يفعل مثل مزنة سوى زوجها الذي كان لها ولغيرها في هذا الباب إمامًا وقدوة، والتوفيق من الله.
إن هذه الأخبار المتواترة عن امرأة مقتصدة غير مسرفة، رحيمة غير قاسية، منفقة غير ممسكة، متعبدة أوابة غير لاهية، تبيت غرثى من لحوم الآخرين، وتحسن لكل من استطاعت نفعه من قريب وجار وصديق وفقير وضعيف، إنها لسيرة جديرة بأن تروى للرجال وللنساء، ذلك أن إبقاء المكارم في مجتمعنا العريق، وفي الأسر العريقة، يستوجب مثل هذه الروايات، ومن فضل الله وكرمه على بعض أوليائه أن يجعل لهم لسان صدق في الآخرين إن في جلائل أعمالهم، أو حتى في التفاصيل الصغيرة لمحياهم ومماتهم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 15 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
16 من شهر فبراير عام 2022م
One Comment
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد .وانت تكتب عن هذه السيدة الجليلة الراحلة مزنةرحمها الله واسكنها فسيح جناته هي ومن تحب فهي قد حباها الله العلي القدير بالسريرة الصالحة الباطنة ومعها العمل الصالح .الظاهر . الذي ينتشر رذاذه العطر عابرا القارات حتى بعد وفاتها بايام .هنيئا لزوجها ولااولادها واحفادها بهذه السيدة التقية النقية الحكيمة . كثر الله من امثالها.
من اخت لها في الله