صالح بن عبدالكريم الزيد: قضاء وسخاء وصفاء
طارق بليل يطرق، يحمل معه هول المصاب، وعظم الفجيعة، بيد أن الرجل يأرز لإيمانه، ويستمسك بعروة وثقى من الصبر ورجاء الأجر على قدر شدة الفقد، ومباغتة الأمر. ثمّ يرشد بقية الأطراف الشركاء في الحزن والمصيبة إلى الرأي الأصلح، وينتظر قدومهم، ليرى رفيق الدرب، وشريك مرارات اليتم والفقر، وصاحبه إبان لأواء الكد والجد، مسجى بلا حراك، ساكنًا كعادته في الهدوء والوقار، بيد أنه ينتظر التغسيل والتكفين والصلاة فالنزول على الأكتاف والأيدي إلى القبر.
كان ذلكم هو فضيلة الشيخ أ.د.زيد بن عبدالكريم الزيد حين تلقى نبأ وفاة شقيقه الشيخ القاضي د.صالح بن عبدالكريم الزيد (1373-1443). وبعد أداء الصلاة عليه عصر الخميس في جامع البابطين، أشرف الرجل على دفن شقيقه الأكبر حتى أهيل عليه التراب، وجهز مثواه الدنيوي الأخير حسب السنة المحمدية. ثمّ استقبل التعازي وأثر الذهول الحزين عليه لا يخفى، ولربما أنه خرج من المقبرة وهو يرمق مثوى أخيه ولما ينفض غبار رمسه من يديه بعدُ ويقول في نفسه: إني أنا أخوك؛ فعهد علي ألّا تنفرد وحيدًا، وألّا تندثر سيرتك! فأما أول العهدين فقد وفي الرجل لأخيه بزيارة قبره دوريًا، وإدامة الدعاء له، ومساعدة ورثته بضبط أمورهم كي يستمر وقف أبيهم وحسناته وميراثه الصالح.
أما الأمر الثاني فتحقق على إثر كلمة سيأتي خبرها؛ ونجم عنها كتاب عنوانه: القاضي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالكريم الزيد رحمه الله (سيرة ومواقف) 1373-1443، تأليف: زيد بن عبدالكريم الزيد، صدرت الطبعة الأولى منه عن دار التحبير للنشر والتوزيع، وتقع في (154) صفحة مكونة من إهداء ومقدمة ثمّ فصلين يعقبهما الوداع فقائمة بأربعين كتابًا وبحثًا للمؤلف. وقد صممت الغلافين كريمة المؤلف إيلاف فأبدعت، وعلى الأمامي منهما صورة عمها، وفي الخلف كلمة عاطفية مؤثرة بخط والدها عن شقيقه.
عنوان الفصل الأول الجانب الشخصي للشيخ صالح وفيه ثمانية موضوعات عن مولده ونشأته ودراسته وشخصيته ووظيفته ونشاطه العلمي وعبادته وحفظه للقرآن الكريم، بينما جاء الفصل الثاني بعنوان الجانب الخيري عند الشيخ صالح وفيه ثلاثة موضوعات حول اهتمامه بأقاربه وصدقاته والأوقاف، واندرجت تحت الوداع سبعة موضوعات تتحدث عن وصيته والليلة الأخيرة والخبر الفاجعة وخاطرة كتبتها ابنته جيهان فعظة عن الموت فجأة يتلوها رؤى صالحة فيه، وأخيرًا أقوال عنه من بعض الذين عرفوه وزاملوه.
أخبرنا المؤلف في المقدمة أنه لم يخطر بباله أن سيكتب سيرة أخيه، وقطعًا أن الأخ الراحل لم يفكر بذلك، ولعلّ هذه المادة المكتوبة أن تكون نافعة في الاقتداء، معززة اليقين ببقاء الخير في الناس والمجتمع، مع استجلاب الدعاء للمترجَم له على صالح أعماله، وللمترجِم لقاء وفائه وعنائه. ومن باب آخر فلعلها أن تكون دافعًا لكل من يقرأ بأن ينشط في تسجيل سيرة مَنْ حوله خاصة من الأعلام وذوي التجارب والحكايات، والأفضل حثهم الدائم على كتابة سيرهم، ويأتي الاستنطاق والتسجيل في مقام الحل الرديف والخيار الثاني.
ومما لفت نظري في هذه السيرة الغيرية أنها حفظت نبذًا من سير آخرين من أقرباء الشيخ صالح وغيرهم، ومن أجلها قدرًا الحديث عن الأبوين والجد والإخوة والأخوات والزوجات، وربما يكون هذا من بركة الكتاب وصاحبيه على أسرتهم. كما لفتت نظري الصراحة الواضحة فيها عن أحوال الناس في السبعينات والثمانينات الهجرية من القرن الفائت، ولا شك أن هذه الصراحة تفيد القارئ الترِف الذي لا يعلم عن صعوبة العيش آنذاك لدرجة ندرة اللحم، والاكتفاء بثوبين، وانعدام الخدمات، وغيرها من المصاعب، وإننا لفي نعم تستوجب الحمد والصون وترك السرف والمآثم.
كما لاحظت في السمات الشخصية التي تنطق من خلال سيرة الرجل وأعماله قبل شهادات الآخرين أن الشيخ كان هو هو في فقره وغناه، وأيام يتمه وضعفه إلى أن أصبح رئيس محكمة استئناف ومالكًا لعقارات ومزارع فيما بعد، وتلك إشارة لا تخفى على أصالة المعدن، وعراقة المحتد؛ ذلك أن الغنى يطغي، والجاه يبطر، ورخاء الحال ينسي شظف الأيام ووعورة الليالي، والموفق من جعلها نصب عينيه حتى يحمد ربه ويتواضع لخلقه، وهي خصيصة العظماء كما ورد في سيرة الفاروق عمر رضوان الله عليه.
كذلك وجدت في السيرة ذات المواقف الكثيرة المنتقاة من بين أخوات لها أن الشيخ صالح امتاز بالكفاح في جميع مراحل حياته، مع الجاهزية لتعلّم أيّ شيء مفيد حتى السباكة والكهرباء والسلخ، وقد أعانه على ذلك ذهن لماح، وذكاء وقاد، وحافظة قوية، وسهولة الحركة لخفة الجسم وسرعة الأداء، وأدى به إصراره هذا إلى التنقل بين عدة مدن لتحصيل العلم ومواصلة التعليم، والجمع بين الوظيفة والدراسة والمتاجرة المضنية، فمن ذا يطيق جمع هذه الثلاث؟!
ومن مواطن البهاء والجلال في السيرة تلك الصفحات النيرة عن علاقة الشيخ بالقرآن الكريم، فوالده إمام حافظ للقرآن (1342-1384)، وجده علي (؟-1396) كذلك إمام حافظ، ولذا درج الشيخ في صباه بين يدي والد حريص على تحفيظه القرآن، ثم بقي معه هذا الهاجس حتى وهو يخوض في مصالحه الدنيوية دراسة وعملًا وتجارة، إلى أن حفظ مع أخيه ووحده بعض السور، حتى أراد الله له أن يزور صديق والده الشيخ محمد بن علي العلي (1347-1441) المدرس في المعهد العلمي بالرياض.
فكانت تلك الزيارة علامة فارقة في حياة الرجل، ويالها من بركات متوالية في البر بالأب، ومجالسة أهل الفضل، وسماع النصيحة، والخروج بعزيمة أكيدة على الحفظ، وهو ماكان خلال ستة شهور أخذ الشيخ نفسه فيها بالقوة عبر منهج غير مستكين ولا متراخٍ أبانه الكاتب، ثمّ أوثق أبو عبدالكريم حفظه كي لا يتفلت بأن جعل القرآن الكريم هجيراه في غالب أحواله، وداوم على قراءته وهو في السيارة أو ينتظر، إلى أن أصبح يختمه كل ثلاث ليال، ويقوم لأجله ساعتين من الليل يوميًا أيًا كانت ساعة نومه؛ فماذا يقول أهل الرقاد والسهاد والتفريط؟!
وعندما نقف عند بوابة البر والإحسان والهبة والصدقة والوقف والنجدة، فسوف نرى بابًا بعيد المصراعين؛ فمن بناء بيت للأم، إلى هبة منزل للأخ، ومعاونة قريب بقرض ضخم لامتلاك دار، وإشراك آخرين في المكاسب ورعاية مصالحهم إذا غابوا، وصولًا إلى شراء بيوت لمساكين وأرامل وأيتام، وأيّ أمر أهدأ للبال من نزل وعين مملوكة لصاحبها لا يكدرها إيجار ولا ينغصها مطالبة؟
وغير الإحسان العقاري سنعرف للرجل الراحل من الصالحات في جوانب العلاج والإطعام وتوزيع التمور، وشراء السيارات، وتفريج الكربات وتنفيس الغموم، ودفع الفواتير والرسوم، والشفاعة والإقراض وبذل الرأي والنصيحة، ورحمة الضعفة والمساكين، وجلها مما استتر خبره وشأنه حتى بوفاته استبان وظهر؛ ولعله أن يكون من علائم البشرى ودلائل القبول، ومن الموافقات أن أحد القضاة تواصل مع نجل الشيخ الأكبر عبدالكريم بناء على موعد من الشيخ لتسديد فواتير أسر فقيرة، فصعق بخبر رحيله، ومن روايته لهذه العادة المتفق عليها انبثقت فكرة تأليف هذا الكتاب أو تأكدت.
ولا تخلو سيرة شيخنا من طرف وملح في خضم الصعوبات والكدح، وبين زوايا العلم والقضاء والتعبد؛ فمنها خبر المركوبات التي استخدمها من حيوان ودراجة هوائية إلى نارية فسيارة بصندوق حج عليها مع والدته وجمع حوتهم تلك السيارة الصغيرة وإنما السعة في النفوس والقلوب. ومنها قصة الطفل صالح وصراحته المحرجة التي صنعت اسمًا جديدًا لبعض الأطعمة مثل اللحم واللبن.
كذلك فيها خبر الطفلين صالح وزيد عندما توفي أبوهما عام (1384)، وما جرى لهما من عمل مبكر مع الأغنام والمزارع. ومن عبر سيرة الشيخ القاضي العين التي أصابته وكيف نجى منها، والرصاصة التي انتشرت في يده بعد تشظيها حتى كادت أن تمنع دخوله لأمريكا. ومن أعجب العجب أن يسعى الشيخ صالح لتأمين سيارة نقل موتى في بلدته؛ فتنقله هذه السيارة من الغاط التي قبض فيها إلى الرياض التي سيصلى عليه فيها ويدفن في مقبرة شمالها.
وتحفظ سيرة آل عبدالكريم الزيد جهاد الأم المربية لطيفة بنت إبراهيم الزغيبي (1348-1437) التي حملت هم صغارها الأيتام حتى صاروا رجالًا ونساء من أبرز أهالي بلدتهم، وتحفظ مروءات القرابة والجيران والأصدقاء في العون والرعاية وحفظ المال والمساعدة قدر الإمكان، وهذه لعمر الله خصيصة المجتمع المترابط والأسر الممتدة، وهي فضيلة يجب علينا أن نسعى لتمتينها ورعايتها، فالأسرة والقبيلة والبلدة كيانات تدعم بقوتها وتآزرها الكيان الكبير.
أيضًا روى المؤلف عن شقيقه الشيخ اجتهادات فقهية، وأحكامًا قضائية صارت بعضها من المبادئ القضائية، وفي قسم منها سبق ودليل على حدة النظر، واستقلالية الرجل عن إتباع شيء غير الدليل، مع الجرأة في تبني الرأي بعد تحققه منه، والجرأة في إعلانه والدفاع عنه، وهذا الجزء من الكتاب جدير بأن يفرد في كتاب خاص ويتوسع فيه؛ لأنه متخصص وجدواه أعظم لدى الفقهاء والقضاة والمحامين وعموم العاملين في الرواق العدلي، ولعل شيخنا المؤلف المبارك أن يفعل مع انشغاله والله يبارك له وعليه وفيه.
ومما في الكتاب كذلك نجد سعة شريحة أصدقاء الشيخ من قضاة وفقهاء ومحامين وعامة وأقارب وعمال وغيرهم، ونلمح تلطفه مع الصبيان بالمزاح والملاعبة والمسابقة؛ بل يقود بهم السيارات الكبيرة في مزرعته ليبهجهم. ولديه تفرد بتقدير محارمه من النساء، ومسابقتهن في العيد وخلال بعض الأحوال وربما يقول قائل له الحق عليهن؛ بيد أن النفوس النقية لا تسأل عن حقٍّ، وتسعى لأن تكون المسارعة إلى كل فضيلة ونبل.
هذا هو الشيخ في فقره وغناه، وفي صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته الشابة دون عجز ولا مرض، وهذا هو الذي يجالس أكابر العلماء والقضاة والمحامين والأثرياء والأئمة ثمّ لا يستنكف من القعود مع عامل أو فقير أو غريب، بل ربما تهفو نفسه إليهم أكثر من غيرهم، ويرى أن عونهم أقرب عند الله وأولى في جمع الحسنات وإبقاء المروءات، ولذا فكما حزن لوفاته علية الناس وسرواتهم، فقد رثاه الفقراء وبكاه الغرباء، وناحت عليه نوائح غير من نعرف، وهو نواح شرعي إذا خلا من المحظور.
وفي آخر الكتاب حروف سطرت لا بمداد ولا حبر، وكلمات خرجت لا عبر قلم ولا من فم، وإنما هي زفرات نفس، ونفثات مصدور، وساحة خشوع وموكب حزن، ولا تملك العيون شؤونها وهي تقرأ خبر الليلة الأخيرة، وحديث البنت المكلومة، واستعراض الرؤى والأقوال، والوصية وغيرها من المسطور تحت عنوان الوداع، وقد وقر في نفسي بأن الشيخ صالح ربما رأى في المنام الصادق ما يدل على قرب رحيله، فألمح لمن حوله بذلك تمهيدًا وتصبيرًا، وجهز وصيته، وظلّ يترقب داعي الله كي يجيبه؛ فأتاه الملك ليقبض روحه وهو نائم على نية خير متعدد من صلاة وقيام وقرآن وصلة ومعروف.
فاللهم اغفر للشيخ الراحل في يوم الأربعاء الثالث من شهر الله المحرم عام (1443)، وأحسن الخلافة في عقبه وذريته وعموم آله، واجعل ما هو فيه الآن خيرًا مما كان فيه إبان محياه. والدعاء موصول للشيخ المؤلف ولجميع من شارك في هذا الكتاب ومروياته؛ ذلك أن حفظ المآثر واجب تبقى فيه مكرمات كثيرة، وتأنس به النفوس الشريفة، وليس يستكثر على هذه الخصلة الحميدة أيّ جهد ومال؛ ولذلك فعسى أن نرى كما يأمل المؤلف من هذا الكتاب طبعات أخرى فيها إضافة، ومزيد جلاء، فنحن أمة الرواية والإسناد، وأمة المعروف والإحسان.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأربعاء 08 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
09 من شهر فبراير عام 2022م
3 Comments
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد وفقه الله لما يحبه ويرضاه.وقرات السيرة العطرة للشيخ المتوفى الدكتور الشيخ صالح بن عبد الكريم جعل مثواه جنة الفردوس ، ولااهله اقول {احسن الله عزاءكم ،وجبر مصيبتكم ، واعظم اجركم ، وغفر لميتك }
من اخت لكم في الله
اسأل الله العلي العظيم رب العرش العظيم ان ينير قبره وان يجعله روضة من رياض الجنة وان لايحرمه من ريح الجنة دائما وابدا وان يعفو عنه ماله عليه وان يتحمل عنه ما للناس عليه وان يريه مقعده فالفرودس الاعلى فالجنه من غير حساب ولا سابق عذاب
اللهم آمين