سياسة واقتصاد عرض كتاب

مصطلحات العلوم: مفتاح لا يصدأ

مصطلحات العلوم: مفتاح لا يصدأ

في مناهج القراءة والبحث والدراسة خاصة الجامعية، من المهم دلالة طلاب كل فنّ على مراجع تغنيهم في العلوم التي يدرسونها، حتى تكون خير مداخل تمهد لهم الطريق، وتهيئ السبل لأذهانهم والاستعداد لقرائحهم في التفاعل مع موضوعات التخصص. ومن مكونات هذه المداخل تأتي كتب تاريخ العلم ونظرياته وترجمة أبرز رموزه، وبيان تعريفاته وحدوده ومعاني مصطلحاته، وأهم الكتب فيه بحسب مستوياتها، وعلاقتها مع بعضها، وعلاقة هذا الفن بغيره، إضافة إلى ما يُساق من نقد على أصوله ونظرياته وكتبه مع نقاشها.

ومن أمتع أصناف القراءة النظر في مصطلحات العلوم التي تعين على تقريب العلم لغير المختصين فيه، أو لغير المتفرغين للتبحر فيه، علمًا أن الاصطلاحات والمواضعات سمة لكل علم وتمتد بامتداده كما يقول الشيخ د.بكر أبو زيد في بحث استقصائي له عن المواضعة في الاصطلاح، وهو العالم البحاثة الغيور الذي يؤكد على حتمية مراعاة صحة المصطلح من ناحية الشريعة ومن ناحية اللغة؛ دفعًا لتغريب المصطلحات وتهجينها، وابتعادًا عن وأد المصطلح الشرعي، فهذا الصنيع الماحق وافد شر جلبته جيوش الاحتلال الحربي والثقافي لأمتنا؛ حتى لعبت ببعضنا الأضاليل والتخرصات كتلّعب الأفعال بالأسماء على ما قال أبو تمام.

والمصطلحات من أصدق الدلائل على خدمة العلم وتقريبه، فتاريخ العلوم تاريخ لمصطلحاتها التي تجيء معها أو بعدها مباشرة؛ لأنها ضرورة علمية تساعد على حسن الأداء ودقة الدلالة وسرعة الاستحضار. ولكل لفظ اسمان لغوي وصناعي أي اصطلاحي حسبما ذكر العالم اللغوي ابن فارس صاحب المعاجم التي أعانت في ضبط معاني الكلمات وأصولها وفقهها مثل الصاحبي ومعجم المقاييس، وعمله إبداع علمي حضاري ربما لم يُعهد في أمة قبل أمتنا.

ومع أن لكل علم حدودًا وتعريفات ومصطلحات ورسومًا، إلّا أن بعض المصطلحات تشترك بين أكثر من علم؛ فيكثر استعمالها عبر أقلام العلماء وألسنتهم في غير مجال وحقل، كما فيالسنّةالتي ترد في علوم العقيدة مقابل البدعة، وفي علم الفقه واصفة حكم عمل ليس بواجب ولا محرم، وفي علم الحديث تعبيرًا عن أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريراته. ومثل الخبر عند المحدثين والنحاة والبلاغيين، بل أن بعض المصطلحات مثلالمفردفي علم النحو يختلف بحسب الباب الذي يرد فيه، ولأجل ذلك كله فما أجدرنا بتحري الضبط؛ فإن فساد كلّ صناعة من كثرة الأدعياء وقلة الصرحاء فيها كما قال الإمام الخطابي.

ثمّ إن عددًا من علماء الأمة تفطنوا منذ القدم إلى مركزية المصطلح والتعريف في العلوم بعامة أو في علم بعينه؛ فسارع جمع من العلماء إلى التأليف والابتكار أو الجمع والترتيب، ولهم في ذلك مصنفات مهمة من أميزها:

  1. كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي المتوفى سنة (322)؛ ويُعنى بتطور دلالة الألفاظ، وسُمي الزينة لأن من يعرفه يتزين به في المحافل ويكون له منقبة عند أهل الشأن.
  2. كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي المتوفى عام (387)، وهو من أقدم الكتب في هذا الباب.
  3. كتاب التعريفات للجرجاني المتوفى عام (816)، ويمتاز بالاختصار.
  4. كتاب الكليات للكفوي المتوفى (1094)، والثناء عليه متواتر لنفاسته وشموله، وجدير بالمثقف أن يجعله قريبًا منه.
  5. كتاب كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي الذي أتم تأليفه عام (1158).
  6. كتاب أبجد العلوم للقنوجي المتوفى عام (1307).

كما يمكن إدراج كتابين آخرين من كتب علم قوائم الكتب التي رصدت الكتب المؤلفة في فنون عديدة، وهما مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده المتوفى عام (968)، وكشف الظنون للحاج خليفة المتوفى عام (1067)، وذلك لعنايتهما بتعريفات العلوم كما يقول د.محمود الطناحي في كتابه المختصر النافع الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم ولا ينبئك مثل خبير. ولو بحث القارئ عن كتب مصطلحات معاصرة لوجد في كل علم عدة كتب والحمدلله. ومع وفرة هذه الكتب فلا تزال بعض المصطلحات تعاني من الغبش والتداخل وربما التعارض، ولم يسلم بعضها من الغش والتدليس مثل الإرهاب الذي لم يصمد أمام تعريف جامع، وهذا أمر يُراد فيما يبدو.

أما الذي دعاني لكتابة هذا المقال، فهو كتاب كريم قيد الطباعة والصدور، ألقيت إليّ منه نسخة إلكترونية، مؤلفه هو الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن العسّاف، أستاذ الإعلام السياسي، والكاتب والمتحدث عبر صحف وقنوات محلية وعربية وعالمية. عنوان الكتاب: مصطلحات في الإعلام السياسي، ويقع في (185) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة وخاتمة بينهما نحو ثلاثمئة مصطلح مع بيان ما تعنيه، وهي مما يرد كثيرًا مسموعًا ومقروءًا، وسبق للباحث أن تعرض لطرف منها في كتابه الأول عن الاتصال السياسي الذي اعتمدته بعض الجامعات ضمن مقررات التخصص.

من تلك المصطلحات ما يختص بجماعات وأحزاب، وفيها ما يلتفت صوب أفكار وتوجهات، وبعضها يهتم بكيانات ومنظمات، ومنها تعبيرات وتراكيب من المفيد ألّا يجهلها الناس. ومن حسنة المصطلحات والتعريفات المطلوب توافرها في مثل هذه الكتب أن تكون مادتها حيادية غير منحازة، فسمة العلم العدل والإنصاف. ومها أن تناسب أن يطلع عليها المختص الذي تُرجى عنده الإحاطة، والمثقف الذي يُتوقع منه الإلمام، والقارئ الذي يُقبل منه الأنس بتلك المعارف حتى لا يستغربها وهي تصافح عينيه أو تصك أذنيه، وهذه الأحوال الثلاثة: الإحاطة، والإلمام، والإيناس، تمثل مواقف المرء من أيّ علم وفن بما فيه.

وقد حظي الكتاب بتقديم جميل من معالي الدكتور إبراهيم بن عبدالعزيز العسّاف، رجل الدولة البصير، والوزير في أربع حقائب ابتداءً من وزارة الدولة عام (1416=1996م) ثمّ وزارة المالية والاقتصاد الوطني فوزارة المالية، إلى وزارة الدولة مرة أخرى، ثمّ وزارة الخارجية التي عاد منها إلى حقيبته الأولى وزيرًا للدولة وعضوًا في مجلس الوزراء. ومما ورد في مقدمته أقتبس قوله عن هذه المصطلحات: تحتشد فيها كثير من المعاني وتختصر الكثير من الإشارات والدلائل، وختم تقديمه مشيدًا بالمؤلف الذي مزج بين النظرية والتطبيق؛ فجاء هذا الكتاب ثمرة لهما.

 

آخر القول: ليس بكثير أن نحتفي بكتب سعودية وعربية، تنطلق من رحم إرثنا الحضاري العريق والكبير، وليس بكبير علينا أن نتمنى من أصحاب التخصصات المسارعة لإغناء المكتبات بمثل هذه الكتب، وتقريب علومهم وفنونهم للجميع قدر المستطاع. وليس بعسير أن نأمل من المؤلف ومن كل مؤلف في حقل يمتاز بالسيولة بأن يظل مراقبًا للتطورات، حتى يجدد ما يحتاج إلى إضافة وتوضيح وتصحيح من كتابه في قادم الطبعات، وفوق كلّ ذي علم عليم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 16 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

19 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)