الشيخ محمد العجلان وشيء من الذكرى
أحسنت المؤلفة كثيرًا حين نهضت للرواية عن أبيها واستدراك الفوات برحيله عبر كتاب عنوانه: مع والدي رحمه الله (سيرة.. ومشاعر.. وذكريات.. وفوائد) كتاب يشتمل على 100 موضوع وموضوع و 24 صورة و 20 وثيقة، تأليف د.أمل بنت محمد العجلان، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1443=2022م) عن دار الهدى للنشر والتوزيع، ويتكون من (304) صفحات أبان العنوان عن محتوياتها أوضح بيان، ومع الكتاب فاصل يعين القارئ على حفظ وقفاته.
لم يكتب والدها سيرته ولم يستجب لإلحاحها المتواصل عليه بأن يفعل على عادة المشايخ في هضم النفس والتزهد في الظهور، فحملت العبء بنفسها ولم تنتظر، وأجلّ غاياتها من هذا المشروع أن يستتبع الكتاب من قارئه دعوات بالرحمة لوالدها وهو ما سيعين عليه العنوان. وقد أحسنت ترجيحًا حين مالت إلى نوع من التأليف يبتعد عن المناهج الأكاديمية وينحو في سبل السرد القصصي. وسوف يدخل هذا الكتاب ضمن المعاجم العربية المعتنية برصد من برَّ أباه بالتأليف.
ولد فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن العجلان (1359-1440) في مدينة عيون الجواء من منطقة القصيم، ووالده من تجار العقيلات، أما أمه فهي شمعة بنت محمد بن عبدالله العساف، ولذا فمن اللمحات التربوية اللطيفة أن الشيخ يقتدي بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام فينادي من يقابله من أسرة والدته بالخال ولو كان طفلًا. ومن اللافت أن شمعة هي وحيدة والدتها حسناء بنت إبراهيم المحمد العساف، ومع ذلك استطاعت هذه المرأة دون أن تخالف دينها أو تخرم أعراف مجتمعها أن تؤثر بأرقى مجتمعات الرجال حين تخرج على يديها ثلاثة من القضاة الفقهاء المفتين؛ فيا لله كم من شموع أضاءتها شمعة واحدة، وكم من أعمال حِسان أتت من طريق حسناء!
ثمّ درس الشيخ في عيون الجواء وبريدة والرياض، فمن كتّاب السايح واليوسفي بالجواء انطلق العجلان إلى دروس تخصصية في بريدة والرياض، ويلاحظ من مسرد شيوخه ورود أسماء كبيرة وشهيرة مثل المشايخ أصحاب التجلّة مفتي الديار محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ورئيس مجلس القضاء عبدالله بن حميد، ورئيس شؤون الحرمين محمد السبيل، إضافة إلى علماء كبار من مصر وبريدة مثل المشايخ عبدالرزاق عفيفي، وعبدالقادر شيبة الحمد، وصالح البليهي، وسوف يظلّ العلم رفيقًا للشيخ في جميع لحظات حياته التي أمضاها متعلمًا وعالمًا ومعلمًا.
وفيما بعد ارتبط خلال عمله بعلاقات وثيقة مع الشيخ صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة، ومع علماء السعودية مثل المشايخ أصحاب المكانة عبدالعزيز بن باز، وصالح اللحيدان، ود.عبدالله التركي. ولعظم قدره لدى حاكم رأس الخيمة تواتر التراسل بين القاسمي والملك فهد ولمن دونه من المسؤولين في المملكة لأجل إسناد القضاء الشرعي للشيخ مع استمراره في حقل التعليم، وبعد ثلاثة عقود من المكوث في رأس الخيمة قاضيًا وأستاذًا سعى الشيخ صقر لقبول طلب الشيخ العجلان بمغادرة الإمارات وتحقيق رغبته حتى يكون قراره في مكة، فمكة موعودة من الله بأن يجبى إليها ثمرات كل شيء، وهي ثمرات تشمل البشر وليس الطعام فقط كما يروي العجلان عن شيخه ابن حميد.
أما إذا أردنا إلقاء نظرة على أعمال الشيخ فسنجد أنه درّس في المعهد العلمي بالمدينة قبل تخرجه في الجامعة بسنوات وفي هذا دليل على نبوغ علمي مبكر، ثمّ افتتح معهدًا في نجران، وأدار معاهد مماثلة في حفر الباطن ومكة، وتوج هذه الجهود بافتتاح معهد رأس الخيمة الذي أضحى فيما بعد كلية للشريعة واللغة العربية، ومن اللطيف أن المؤلفة تخرجت في هذه الكلية التي كان أبوها على رأس بناتها الأوائل، وإن التعليم ونشره لمن أسنى الأعمال وأربحها.
كما مارس الشيخ تدريس الفقه في المعاهد العلمية والكلية الشرعية، ورأس القضاء الشرعي في رأس الخيمة بداية من عام (1402) إلى أن عين قاضي تمييز في محكمة مكة الكبرى بين عامي (1417-1422) إذ استعفى من القضاء من تلقاء نفسه. بينما أصبح مدرسًا ومفتيًا في المسجد الحرام منذ سنة (1419) إلى قبيل وفاته بأسبوع، ولم يتغيب عن التدريس في المواسم، ولا في أيام زواجات بناته، ولا وهو مريض ينوء بحمل جهاز تنفس معه. ومن أعماله المباركة الأخرى إشرافه على مراكز دعوية إقليمية، ومشاركته في أعمال التوعية بالحج لمدة عشرين عامًا.
من أخبار الشيخ دقته في المواعيد، وضبطه للوقت وتنظيمه، وولوعه بالقراءة مع تخصيص جزء منها لكتب الأدب، وتدوين الفوائد في قصاصات، وحفظ الأوراق والوثائق، وأتصور بأنه يمكن استخراج كناش مفيد من بعض تلك الكنوز؛ حتى يكون لصاحبه أجرًا وذكرًا. وله عناية بطلابه لدرجة أنه أوصى ابنته بأن تدعو كريمة أحد طلابه لحفلة العيد التي تقيمها أسرة زوج بنت الشيخ؛ لأن ابنة الطالب تسكن في المنطقة الشرقية وحيدة مع زوجها. وعندما استشفع به طالب لم ينم ليلته حتى تواصل مع الطالب بعد عناء البحث عن رقم هاتفه، وأنجز له مطلوبه الذي لم يستطع سماعه في الحرم بسبب قرب انتهاء شحن جهاز التنفس.
ومن خصاله الاعتراف دون تردد بالمعروف لأهله، ويستبين ذلك من تكراره لقصة شاهي السبيل، وثنائه على موقف العبودي من تسجيله وأخيه في المعهد العلمي ببريدة. ومنها التفاؤل فسيارته مباركة وإن لم تكن فخمة، ومزرعته مباركة حتى وهي صغيرة، ويزين ذلك القناعة بما ملك وإن قل، مع رؤية الجمال فيما بين يديه من نعماء الله وآلائه، وإظهار الحفاوة بمن يزوره، ويستجيب لطلبات أطفال بناته ولو كانت من قبيل طبخ سمك على الغداء في أيام التشريق وعيد الأضحى!
كذلك فمن أخلاقه الكريمة لطف القول، ويتضح ذلك في طلبه إخلاء المكان بكلمتين “إن رأيتم” حتى يخلو بمن شاء دون إحراج له، وإجابته لمن رغبت في الحج معه من أقاربه بقوله: أنا أحج معكم. ومن أجلّها -وهو مفقود في كثير من الناس- السماحة والتساهل في المعاملات، والتغاضي عن حقوقه في البيع والشراء وشؤون الدنيا التي لا تمس الدين أو العرف، وتجنب “التشره” وهو اللوم على كلّ شيء، والإحصاء على الصغيرة والكبيرة، والمحاسبة على أيّ تقصير، وإن “المتشرهين” لمن أكثر الناس قلقًا واضطرابًا.
ومنها رقة قلبه للضعيف والمظلوم، وله مع ابنته قصة سامية جعلته يجهش بالبكاء على مقود سيارته حين علم بظلم وقع على فتاة غريبة، وينبني على هذه الصفة الرحيمة تصابيه مع الصغار حتى يظن كل واحد منهم بأنه قد أنجز عملًا بطوليًا، وتشجيعه المستمر للبنات، فكل واحدة منهن “دكتورة” حتى وهي طفلة، ومن كبرت وحصلت على شهادة أصبحت شيخة، ومؤهلة للإفتاء أو التدريس في الجامعة، وما أحوج الأسر والبيوت لمن يرفع المعنويات ويحفز الطاقات على الظهور.
أما بدائع الفوائد التربوية في مسيرة شيخنا فكثيرة، منها نصيحته لمن حوله: “لا تقل شكرًا وأنت تستطيع أن تقول الحمدلله” والقصد منها الاستغناء عن الآخرين قدر المستطاع، وحضه ذريته على تلاوة القرآن يوميًا، والمحافظة على الورد، وشعوره بنعمة وجود مجمع طباعة المصحف الشريف، وإعلان الرضا بالقضاء حتى حال الفقد والحزن إذ يقول: ” إن الله يعطي لحكمة وبمنع لحكمة وكل شيء عنده بمقدار”، ومن عظيم الدروس إجابته لمن سأله من أبنائه وبناته عن مسألة تحرزًا بثلاث كلمات هي ” تعاملوا مع الله”!
ومع أنه يؤكد لبنياته بأن منزله يرحب بهنّ دومًا، إلّا أنه يحسن توجيه التسلية والدرس لهن بالإنصاف والتعايش كي تستمر الحياة، ولربما أن بصيرة العلم وخبرة القضاء لهما أثر عليه في مثل هذا المنحى الرشيد، وما أحوج البنات لحكمة الآباء خاصة في زمن يحشد الشياطين فيه خيلهم ورجلهم كي تغدو المرأة نمرة متوحشة عند محارمها، حتى إذا خلت في أرض مسبعة صارت -وإن لم تشعر- مثل شاة مستضعفة يحوم حولها أخسّ الحيوانات وأشرسهم، والمسكينة ترى نفسها قوية مستقلة، وما عرفت أنها آلت إلى ضعف وقلّة!
كما حرص على مواصلة أنجاله من الجنسين لتعليمهم، وذلل لهم الصعوبات قدر مستطاعه، ومن جميل لفتاته عنايته بالخط وتحسينه، فبحسن الخط تقضى الحوائج كما قيل، وجمال الخط أحد الفصاحتين في قول آخر، وإن مَنْ يرى خطوط كثير من الأجيال الجديدة ليعلم يقينًا مسيس الحاجة إلى تدريس الأبناء والبنات فنّ الخط؛ ذلك أنه جزء من اللغة، وحرفنا العربي فاتن أخاذ حين يرسم بإبداع؛ بينما تسبب كثير من الخطوط الحالية الصداع وربما المغص.
ثمّ إن حياته لا تخلو من طرائف روتها ابنته بحيادية؛ فمنها ما تنقله المؤلفة عن والدتها نوير بنت حمد العساف- رحمة الله عليها- التي تصف زوجها – وهو المعدّد بأربع زوجات-: “أبونا لازم يحط لكل سالفة أربع عراوي عشان يبدأ عند وحدة وينتهي عند الأخيرة”، وإذا كان الناس يعرفون ثالثة الأثافي في الشرور، فإن عراوي العجلان الأربعة هذه مثال تربوي ذو خيرات حسان لمن ابتلي بالتعدد؛ ولا يخفاكم أن البلاء ليس شرًا كله!
أيضًا من الأخبار الطريفة قبول الانتساب كرها إلى اللصوص بسبب اسم شارع في مكة، والملوخية التي تداخلت مع الحناء، واليبيس المخروف حالًا-اليبيس هو التمر المكنوز- ولا يمكن أن يكون للتو مخروفًا من النخل، وإنما يقوله الرجل مبالغة في الثناء على ضيافة الآخرين. وفيها حلّ كثير من الإشكالات بكلمة شكر أو كتاب ثناء، وهو تصرف طريف وإبداع تربوي من الشيخ؛ فكم بالشكر تقضى حاجات لو كنا نعرف للشكر قيمته، وتتضمن هذه الطرائف خبر امرأة قاضت زوجها وكالت له المذمات؛ فكلما سكتت قال لها زوجها: شكرًا! وتجيبه اللوامة قائلة: العفو!
من المواقف الطريفة أيضًا وصف بعض المعلمين من مصر لأي طالب يخطئ في الجواب بأنه “عبيط” وهو وصف لا يُغضب الطلاب فالعبيط طعام لذيذ مرغوب مطلوب! ومن ألطفها أن معتمرًا مصريًا جاء للشيخ في حلقة درسه أو كرسي إفتائه بالحرم، وقال له: أتيت وفي نيتي أن أعتمر خمس عمرات لي ولأقاربي؛ بيد أني زلقت في المطاف وتأثرت صحيًا؛ فهل يمكن يا شيخ أن ” تعفيني من الحتة بتاعة ستنا هاجر”! يقصد السعي؛ فلم يوافقه الشيخ لأن السعي ركن في العمرة، ورحمة الله على الشيخ وعلى الإمام المقريزي الذي قال ما معناه: من رأى أهل مصر وما هم فيه من طرفة ظنّ أنهم للتو قد فرغوا من الحساب!
في الجوانب العملية كان للشيخ حرص على إنشاء الأوقاف لما فيها من استدامة وبقاء واستمرار الأجر والإحسان والبركات، ومنها سعيه لافتتاح صندوق أسري خاص كما تفعل كثير من الأسر، وعلاقته الخاصة بجيرانه وجماعة مسجده، واهتمامه بالإعلام إبان عمله في الإمارات. وأسمى ما يؤكد هنا هو تلك الحميمية البالغة بينه وبين شقيقه الأكبر الشيخ عبدالرحمن، فهما يتجاوران في الحرم، ويتحدثان ببسمة وتحنان ظاهر بعد نهاية التدريس والإفتاء، وما أعسرها من ساعة وأصعبه من مشهد حين وقف الأكبر على شفير قبر أخيه يهيل عليه التراب ويسأل المولى له التثبيت.
رحم الله فضيلة العم الشيخ محمد، فمن طفولة لم تستطع فيها والدته دفع أجور أستاذ الكتّاب ولذلك منحه المعلم إجازة خاصة له ولأخيه دون سائر الطلبة حتى عرفت باسم “عطلة عيال العجلان”، إلى رمز علمي ودعوي وقضائي أضاء في أماكن عديدة إلى أن صار مسك ختامها في الحرم؛ وليس هذا فقط إذ قُدّم لإمامة الناس يوم التروية عام (1389) حين منع الزحام الإمام الراتب من الوصول للحرم، والله يجعل ما لعبده عنده حين يفد إليه أعلى وأزكى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة السبت 12 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443
15 من شهر يناير عام 2022م
2 Comments
بوركت ياشيخ احمد. وشكر الله لك على كتاباتك القيمة، وجزاك خير الجزاء. سيرة الشيخ العجلان كلها فوائد وعبر رحمه الله رحمة واسعة، وجعل الفردوس الاعلى مثواه.
شكرا لكم د.عبدالرحمن ولعبوركم المميز.