موقفهم من النص الشرعي!
صدرت طبعة ثانية من هذا الكتاب عن دار آفاق المعرفة عقب مرور أزيد من عقد على صدور الطبعة الأولى منه عن مركز الفكر المعاصر عام (1431)، وهو بعنوان: موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر من النص الشرعي، تأليف: د.سعد بن بجاد بن مصلح العتيبي. يقع كتابنا حسب طبعته الأولى في (634) صفحة مكونة من إهداء ومقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب ثم خاتمة فقائمة بالمراجع وأخيرًا الفهارس، وبلغت مراجع هذه الدراسة العلمية لنيل درجة الدكتوراة (383) كتابًا، وَ (11) مجلة، وَ (07) مواقع إنترنت.
عنوان الباب الأول أسس موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر في التعامل مع النص الشرعي، ويتضمن ثلاثة فصول أولها عن معارضتهم للنص الشرعي بنصوص شرعية أخرى، أو بالعقل، أو بالعلم الحديث، أو بالواقع، أو بالمصلحة. ويبحث الفصل الثاني موقفهم من إفادة النص الشرعي لليقين أو الظن، ويستكشف ثالث الفصول موقفهم من العلوم المتصلة بالنص الشرعي مثل علم مصطلح الحديث، وعلم أصول الفقه، وعلوم اللغة العربية.
أما الباب الثاني فعنوانه موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر من فهم النص الشرعي، ويحتوي على ثلاثة فصول أيضًا أولها موقفهم من فهم السلف للنص الشرعي بعد تحديد معنى السلف وينبني عليه بيان موقفهم من فهمم، وثانيها حول موقفهم من حق الاجتهاد في فهم النص فيما يخصّ الاجتهاد ذاته ثمّ شروط المجتهد، وآخرها موقفهم من تأويل النص الشرعي بالجملة، أو من بعض صور التأويل المعاصرة.
وبعد بسط المسألة علميًا يأتي الباب الثالث لتوضيح أمثلة تطبيقية على موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر من النص الشرعي، واشتمل على فصلين الأول منهما عن قضايا عقدية تدرس مواقفهم من إيمان أهل الكتاب، وحرية الاعتقاد، والموقف من الديمقراطية. واستقصى الثاني موقفهم من قضايا تشريعية هي حدّ الردة، وتولي المرأة للولايات العامة، وأحكام أهل الذمة. ومن الطبيعي أن تعرض مباحث الكتاب المذهب الصحيح بأدلته عن هذه المسائل، ثمّ تبين موقف هذا الاتجاه وتجيب عن إشكالاتهم؛ وعليه فهو كتاب علمي وفكري، وفي يوم ما سوف يستفاد منه مع العلم والفكر لتأريخ حقبة مهمة من الأفكار والمواقف.
إن من أصول سلف هذه لأمة المتفق عليها أنه لا يقبل من أي أحد معارضة القرآن والسنة لا برأي ولا بذوق و لا بمعقول ولا بقياس؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالهدى ودين الحق، ونزل القرآن المحفوظ يهدي للتي هي أقوم، ولذلك فلا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض صحيح المنقول بشيء. وكما احتج السلف بصحيح المنقول فقد احتجوا بصريح المعقول الموافق لصحيح المنقول، فهما حجة الله على خلقه، مع ضرورة وضع العقل في موضعه الصحيح، وألّا يتجاوز موقعه وحدوده؛ فالعقل بحاجة لا تنقطع إلى نور الإيمان والقرآن.
وقد ابتليت الأمة في القديم والحديث بظهور فرق وطوائف واتجاهات تمجّد العقل وتقدمه على أي شيء حتى جعلته المصدر الأول للمعرفة والحكم على الأشياء، وتعود أسباب هذا الزيغ عن الصراط المستقيم إلى التأثر بعلوم الحضارات الأخرى خاصة الفلسفة، إضافة إلى الافتتان بنهضة الغرب، والرضوخ لضغط الواقع، والسعي للمواءمة بين النص الشرعي وبين غيره مع ترجيح هذا الغير عند التعارض، أو في حال ظهور صعوبة تكييف النص الشرعي ليوافق ما سواه، وتلك علامة على هزيمة نفسية وانكسار حضاري أمام الآخرين، ومن عجب أنه ربما التبس على بعضهم الأمر؛ فظنّ بأنه يخدم الدين وينفعه، وتلك بلية مضاعفة فالله أعلم بدينه الذي شرعه وأنزله، وأغنى عن صواب القوم بَلهِ ترقيعاتهم.
ويمتاز هذا البحث عن الكتب التي تتقاطع معه في العنوان أو الموضوع، أن تلك الدراسات تناولت الأمر بوجه عام، أو من خلال علم بعينه، بينما ركزت هذه الدراسة على موقف الاتجاه من النص الشرعي، وهو الموقف الذي انبثقت منه مواقفهم تجاه العلوم الشرعية قاطبة. كما ركز هذا البحث على آخر ربع قرن سبق إجراء الدراسة وبالتالي فهو حديث نوعًا ما. كذلك أفرد الباحث بابًا كاملًا من كتابه للتطبيق الموضح للمراد، وتحاشى مع التصريح بالأسماء الإساءة إلى المفكرين والعلماء الذين تبنوا هذا الاتجاه وإن عاد على بنيانهم بنقضه لبنة لبنة.
ثمّ خلص الشيخ د.سعد العتيبي إلى نتائج الدراسة وتوصياتها، وأبان عن مسار الالتقاء بين هذه الاتجاهات المنطلقة من نظرة إسلامية مع غيرها المحادة لله ورسوله صراحة أو مواربة، وأثبت أن أهل السنة في تعاملهم مع العقل كانوا وسطًا بين طرفين، فهو شرط عندهم في معرفة العلوم، وكمال الأعمال، ويستدلون به معتمدين على مسالك عقلية أحيانًا في القياس والسبر والتقسيم، بيد أنهم لا يستدلون به مطلقًا، ولا يمنحونه الاستقلالية عن سلطان الشرع وأوامر صاحب الشريعة، وكيف يسوغ هذا وخالق العقل سبحانه هو المشرع؟!
ومنها أن بعض من دخل في هذا الاتجاه كانت غايته الدفاع عن الإسلام وتقديمه للغربيين بصورة مثلى حسب الذائقة الغربية، أو بسبب العيش تحت ضغط واقعية مفرطة، وبذل محاولات للتوفيق بين العقل والنص، إضافة للضجر من مواقف المقلدين وتأخر الاجتهاد أو انقطاعه، مع الغلو بالمصلحة والفقه المقاصدي. وبعض دوافعهم جاءت من غيرة دينية لم توفق إلى المنهج الصواب، فكيف يتنازل المؤمن عن نص شرعي مقدس أيًا كانت الشبهة -وليست الحجة- التي تؤزه لذلك أزًا؟
كذلك أتي بعضهم من أبواب تعدد قراءة النص الشرعي، والطعن في السنة الشريفة أو في بعضها مثل أخبار الآحاد، وربما تأثر آخرون بمناهج في التأويل الفاسد أو التفكير التي لا تناسب قدسية النصوص الشرعية، ولا يخفى أن من بعض أصحاب هذا الاتجاه لم يدرس علوم الشريعة البتة، أو أخذها من الكتب مباشرة، وقد يكون لفئام منهم ارتباط فكري أو حزبي سابق أو لاحق وهو مضطر للحركة في إطار أفكار حزبه بلا انعتاق يفرضه الحق. وأيًا يكن فإن طروحات أولئك القوم أضحت أحسن تكأة للمفسدين والمرجفين الذين لا يأبهون للدين من أصله، وليس عندهم – ويا لخسرانهم- لنصوص الوحي المقدس أيّ وزن أو قيمة.
فما أحرانا بتعظيم مقام الرب الجليل سبحانه في النفوس، وإنزال النبي الأكرم في المنزل الذي يستحقه الرسول الخاتم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى، وحقيق بهذا الوحي أن ينال من المسلمين والمؤمنين والمحسنين كامل التوقير وديمومة التقديم والعناية والحياطة، ومن هذا الباب مواصلة تربية النفوس على الإيمان والتسليم لرب العالمين، واستحياء الفطرة، وإشاعة العلم الشرعي بمستوياته، ونشر الثقافة الدينية، وتوضيح مآلات هذه الأفكار والخطابات التي يأتي بعضها مرتديًا جلباب النصيحة والشفقة زورًا أو عن سوء فهم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 28 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443
01 من شهر يناير عام 2022م