عرض كتاب مواسم ومجتمع

الأقارب قوارب

الأقارب قوارب

معي كتاب كبير القدر صغير الحجم، عنوانه: الأقارب: من هم- ما منزلتهم- ما حقوقهم، تأليف: أ.د.زيد بن عبدالكريم الزيد، صدرت عن دار التدمرية الطبعة الثانية منه عام (1433=2012م)، ويقع في (72) صفحة مكونة من مقدمة فمسائل ثمان ثمّ الخاتمة، وهو لباب مختصر يتدفق العلم والفهم والرحمة بين جانبيه. وأعلم يقينًا أن عددًا من الأسر العريقة سارعت لتوزيعه في ملتقياتها، أو عبر مجالسها التنفيذية، ومن أطرف ما وقع لي مع الكتاب أن قارئًا سألني عن كيفية الحصول على عشرات النسخ منه فدللته؛ ثمّ قال لي: سوف نهديه لنساء الأسرة في اجتماعهن السنوي القريب؛ فهنّ ذوات الحلّ والعقد فينا!

ذكر المؤلف- وهو أستاذ للفقه المقارن، وعميد سابق للمعهد العالي للقضاء، ومستشار ومحكم خبير، وصاحب تآليف كثيرة- أن نظام الفطرة قضى بأن صلة القرابة هي أمتن الصلات، فجاء الإسلام حاثًا على وصلها، مؤكدًا لأواصرها، مقويًا لأركانها، مقدمًا لحقوقها على سائر الحقوق، ولذلك يتشوف المسلم الموفق إلى معرفة المراد بالقريب في المصطلح الشرعي، وما يحتف بصاحب هذه الصفة من حقوق، وآداب، وفضائل.

ثمّ عرّف أ.د.الزيد المقصود بالأقارب في المسألة الأولى، وخلص من استقراء نصوص شرعية في القرآن والسنة والسيرة إلى أن القريب هو ما التقى مع المرء من جهة أبيه أو من جهة أمه وإن بعُد؛ فالنصوص تدل على أن القرابة لم تكن محددة بأب معين تقف عنده، وتأكيدًا لهذا المعنى جاء الأمر بتعلّم الأنساب من أجل صلة الرحم أو صلة القريب لأن معناهما واحد في هذا البحث. ونبّه فضيلة البروفيسور إلى أن الزوجية والرضاعة لا ينتج عنهما قرابة أو رحم، وإن كان للزوجية حقوقها الخاصة وميثاقها الغليظ، وللرضاع لوازمه حكمًا أو تفضلًا.

وأوضحت المسألة الثانية درجات الأقارب وما ينبني عليها من تدرج الحقوق إلى الأدنى فالأدنى، فالأقارب أشبه بالدوائر المحيطة بالإنسان، وأول دائرة هي الأصول والفروع والحواشي، فالأصول هم الآباء والأمهات، والأولاد هم الفروع، ويجتمع في الحواشي الإخوان والأعمام والأخوال، وهذه التقسيمات وغيرها تشمل الرجال والنساء على السواء. ويأتي عقب هذه الدائرة أولاد الإخوان والأعمام والأخوال ذكورًا وإناثًا.

وبناءً على هذه الدوائر فللأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر حسبما نقل ابن حجر عن ابن بطال، ولابن القيم رواية عن الإمام أحمد يقول فيها: الطاعة للأب وللأم ثلاثة أرباع البر. بينما قرر ابن عابدين هذا التفاوت في الحقوق حين جزم أن حقوق الأقارب تتفاوت درجاتها. وختم المؤلف هذه المسألة بعد إيراد نصوص وشروح وأقوال، واتجه رأيه إلى أن درجات الأقارب من حيث البر والصلة هي: الأم ثمّ الأب ثمّ الأولاد ثمّ الجد والجدة ثمّ الإخوة والأخوات ثمّ الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وأشار إلى أن الأحاديث الشريفة جعلت العم صنو الأب، والخالة بمنزلة الأم.

أما المسألة الثالثة فعن منزلة حقوق الأقارب من بين الحقوق، وهي مكانة عظيمة لأن النصّ الشرعي عليها بدأ مبكرًا جدًا مع ظهور الدعوة المحمدية في مكة سواءً عبر أقوال الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام أو اقتداءً بأفعاله الدعوية. وهي من فضائل الأعمال التي ذكرها جعفر بن أبي طالب للنجاشي رضي الله عنهما حينما سأله عن الإسلام، وأخبر أبو سفيان رضي الله عنه هرقل الروم عن الصلة ضمن مكونات الدين الجديد عندما استفهم الرومي عما يأمر به النبي العربي، وكل هذه الدلائل تعزز من مكانة حقوق الأقارب، وتثبت تقدمها التشريعي على كثير من أحكام الإسلام.

فإذا كان ذلك كذلك فما هو حكم صلة الأقارب طبقًا لمحتوى المسألة الرابعة، وقبل أن يفيض الشيخ في الجواب كرر أن معنى القرابة يتسع ليشمل كل من يجتمع في النسب من جهة الأب أو الأم قرب أو بعد. ثمّ أبان أن الحديث عن حقّ الرحم جاء تاليًا للنهي عن الشرك بالله، وأن الوعيد الرباني على قطع الرحم شديد، فصلة الرحم واجبة بالإجماع عند ابن تيمية، وهذه الرحم عامة بقطع النظر عن حرمة النكاح فيما بين الذكر والأنثى، أو عن التوارث بين طرفيها حسب ترجيح الشيخ عبدالله البسام. ومن لطائف التنبيهات أن أحوال الصلة تختلف من قريب إلى آخر؛ فبعضهم يكفيه أو يرضيه الشيء اليسير، ومنهم من حقه في الصلة مباشر كالأبوين والأبناء، وحقوق آخرين غير مباشرة وإنما مرتبطة بأب أو أم أو ولد.

ولسائل أن يستفهم حول كيفية صلة الأقارب، والمسألة الخامسة تجيب بأن الشرع الحكيم بيّن الحكم، ولم يحدد الكيفية، وبالتالي فالرجوع فيها إلى ما تعارف عليه الناس فيما بينهم، وكلما كان القريب أقرب فحقه أوجب بناء على رأي الشيخ محمد بن عثيمين. وحصر أ.د.الزيد سبل الإحسان والصلة من ثمانية أوجه هي: الإعانة على صلاح الدين والدنيا، والنفقة، والزيارة والسلام، وإكرامهم بالتهنئة والمواساة والاحتفاء بهم إذا قدموا من سفر، والدعاء لهم، والتغاضي عن أخطائهم، وصلتهم بالمال من غير النفقة الشرعية، وإكرام أصدقائهم وأهل ودادهم، وفي الكتاب تفصيل يعود إليه الراغب بالمزيد.

ثم أحاطت المسألة السادسة بآثار صلة الأقارب، فلهذه الصلة خصوصية فريدة حين وصل الله من وصلها، وقد ثبت في أحاديث صحيحة أن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر، والمغبون من هجر عملًا من ثمرته المحبة والرزق وطول العمر! وفي لفتة جميلة ربط المؤلف بين استعمال الدواء وتناول الطعام للحفاظ على الصحة وإطالة العمر وبين صلة الرحم. وهذه الصلة من الأعمال التي تأخذ بيد صاحبها إلى الجنة، وثواب طاعاتها عاجل حتى لو كان أهل البيت فجرة فتنمو بالصلة أموالهم وتكثر أعدادهم، وتنتفي الحاجة عنهم، فأين المكاثرون من هذه التجارة الرابحة المضمونة، والسوق التي لا يُغبن فيها متعامل أو متداول؟!

وهل يعذر أحد بالتقصير في حقوق الأقارب؟ هذا سؤال وجيه درسته المسألة السابعة، وكان الجواب بأن نصوص القرآن والسنة أمرت بمصاحبة القريب بالمعروف والإحسان حتى لو كان كافرًا، بل حتى لو جهد الأب أو الأم على ابنهما كي يشرك، فلا طاعة لهما مع بقاء الصلة والبر والتلّطف، وبذلك أغلقت النصوص أيّ عذر لقطع الرحم يمكن أن يلجأ إليه أبناء آدم الذين تفننوا في صنع الأعذار؛ فالكافر والعاصي والقاطع يوصل بالقدر المناسب مع اعتبار أحكام الهجر الشرعي.

وآخر مسائل الكتاب عن الوعيد على التهاون بحقوق الأقارب، ومن طرق الاستدلال على عظم الذنب ملاحظة عظم العقوبة، ومما ورد في حقّ قاطع الرحم من عقوبات يستبين فداحة هذا الجرم الذي اقترن مع الفساد في الأرض فكانا من شعار أهل الكفر والزيغ. ومن عظم هذه الجريرة أن أغلقت أبواب السماء دون قاطع الرحم، ولا يقبل منه عمل، و لا يدخل الجنة ابتداءً، وهو موعود بتعجيل العقوبة في الدنيا إضافة إلى حرمانه من خيرات صلة الرحم العاجلة، وباب التوبة مفتوح، والأوبة إلى الأقارب بإحسان أمر متاح ليس دونه حائل.

كذلك لم يترك الكاتب القارئ دون خاتمة فيها نتائج البحث، مع توصيات عملية لتحقيق الصلة وتقويتها، تتمحور حول التثقيف والتعليم، وإشاعة هذه المعاني بما فيها من أحكام وآداب، مع توقير الكبار وتقديم الصلح الذي هو خير، والتغاضي عن الأخطاء والصغائر، وتنظيم أعمال أسرية دورية، واستثمار التقنية ووسائل التواصل لتحقيق هذا الهدف النبيل، وإنشاء صندوق مالي للأسرة، وتكريم المتفوقين من أفرادها.

وقبل توديع العزيز الذي يقرأ أشير إلى أني شاركت في أمسية قريبة عن العمل الأسري؛ فعلّقت إحدى المشاركات على المقولة المعلّبة الخاطئة: الأقارب عقارب بأخرى متفائلة جميلة جعلتُها عنوانًا للمقالة، ولا أدري أهي من إبداعها ومقولها أو من منقولها، وفي كلٍّ خير إذ أن اختيار المرء قطعة من عقله. وبعد أن كتبت مقالة عن تلك الأمسية وأشرت فيها لهذا الكتاب سألني عنه جمع من القراء، فأحببت الكتابة عنه والتعريف به، وهو متاح ورقيًا وإلكترونيًا، والله يجعله مع غيره من الأسباب المباركة للصلة، ونشر المعروف المجتمعي، وتجسير العلاقات التي أصابها ما أصابها بفعل الهوى والنفس والعجلة وكيد الشياطين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 14 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443

18 من شهر ديسمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)