كتبك في جزيرة مهجورة!
اللقاءات الاجتماعية ضرورة وفيها جمال وانشراح شريطة ألّا يصرم المرء عمره متنقلًا بين مجلس وثانٍ، ودورية وأخرى، فمرة هو مع الإخوة وبني العم، وأخري يختص خلالها بالخؤولة، وثالثة ينفرد فيها بالجيران، ورابعة قاصرة على طلبة الثانوية، وخامسة مع رفقة الجامعة، وسادسة بصحبة زملاء العمل، وسابعة عند شركاء هواية أو فكرة، وثامنة لأقارب زوجته، وتاسعة منحصرة بأصدقاء الطفولة، وهكذا يضيع العمر في جلسات بعضها أنيسة وربما مفيدة؛ بيد أن الإكثار منها قد يعود بالضرر أو تغمر شروره منافعه، ولا يعني هذا الانقطاع، وإنما التوسط زينة وكمال.
ومع أني “بخيل” والحمدلله في صرف وقتي وتمضيته، إلّا أن لديّ بفضل الله لقاءات مجدولة أو عفوية أسعى لحضور نادر التكرار منها أكثر من بذل المسعى لحضور ما يسهل تعويضه بسبب تقارب أزمنته ويسر إقامة بديل عنه، وفي كل حال يحسن الحذر من الملل والسآمة، ومن الإدمان والاعتياد. ويُطرح في كثير من هذه الدوريات سؤال على المشاركين فحواه عمّا قرأوه من كتب أو سمعوا عنه من جديد الإصدارات، وهذا السؤال عرضي وفي ختام الجلسة، بعد أن نفرغ من الأنس والبهجة، ومن الخوض في المباح وما يشبهه يمنة ويسرة.
وربما يتطوع أحدنا لعرض مختصر عمّا اطلع عليه حتى يصبح الكافة على علم بمضمونه، وهذا الاختصار يغنيهم عن قراءة الكتاب أحيانًا، أو يمكنهم من اتخاذ القرار الصحيح بشرائه من عدمه، وهي طريقة مفيدة إذ يصعب قراءة كل شيء. ولهذا السؤال فائدة في التذكير والتحفيز وشحذ الهمة، ومن الطريف أني نسيت سؤالي مرة فقال لي زميل عزيز: أين سؤالك المعتاد؟ ويبدو أنه أعدّ جوابه تلك الليلة، ولم يهنأ بالانصراف دون المشاركة الإيجابية، والإيجابية سلوك يستحق الإطراء.
ثمّ إني غيّرت السؤال في إحدى ليالي السمر؛ فقلت لهم: لو تقرر ذهابك وحيدًا إلى جزيرة ليس فيها سواك، وتكفّل المنظمون بشؤونك الحياتية، وأعطوك مصحفًا وسجادة للصلاة وبوصلة لمعرفة الجهات، ثمّ قيل لك: خذ كتبًا معك لتمضي في هذه الجزيرة مدة معينة وحيدًا، على أن يتناسب عدد الكتب مع الوقت الذي سيمكثه المرء فيها، فماذا ستأخذ معك؟ والعمدة في الكتب على العنوان وليس على عدد الأجزاء، فكل عنوان يعني كتابًا واحدًا فقط. وقد كررت السؤال على مجموعات أخرى لاحقًا، وحصرت الإجابات قدر المستطاع.
فظهرت الكتب الدينية والتاريخية واللغوية ظهورًا لافتًا في المشاركات، وهذا يعود لكونها أساسية في أيّ ثقافة، والخلوة بها ومعها مجلبة للسعادة، وإطالة النظر إليها فرصة سانحة إبان زمن الانقطاع، إضافة إلى أن غالب من أسألهم هم من المحافظين بالجملة، وربما جاملني آخرون، علمًا أني لم أكن لأغضب من أيّ جواب؛ فالإنسان على نفسه بصيرة، وكلّ أحد مرتهن بما كسب، ومسؤول عما سيجترح، ويا رب توفيقك وعفوك وسترك.
ومن الكتب البارزة فيما قالوه التفاسير على اختلافها، وربما أن بعضهم أخذ معه التفاسير بأنواعها المختلفة في المنهج، والاهتمام، والزمن، والحجم؛ حتى يهنأ بالعيش مع كتاب الله ومعانيه العظيمة، وإنه لمغنم أكيد. ومما ورد في القوائم شروح السنة وأكثرها فتح الباري لابن حجر، وهو كتاب ضخم غزير الفائدة وليس بعسير على القراءة، وما أجدره بمن يجرد فوائده ويعيد إخراجها كما فعل الأستاذ الشيخ محمد بن عبدالله العوشن في مجلد واحد لا تكاد أن تخلو أيّ صفحة فيه من فائدة.
كما حظيت السيرة النبوية باختيار عدد من المشاركين؛ وإنه لمن الحسرة والغبن ألّا يعلم المسلم شيئًا عن رسوله وأسوته، وتزداد الرزية المزرية بصاحبها حين تكون معلومات بعضنا عن نبينا عليه السلام أقل من معلوماته عن إنسان آخر. بينما أشار جمع من المشاركين إلى كتب التراجم الكبرى مثل سير أعلام النبلاء للذهبي أو طبقات الشافعية للسبكي أو معجم الأدباء لياقوت، أو غيرها. ولم أتعجب عندما أخبرني أحد المجيبين بأنه سوف يصطحب معه تراث الجاحظ؛ لينفرد بأحد أئمة البيان العربي تحت سماء الجزيرة وبجوار أمواجها.
كذلك رشح القارئون معاجم اللغة الطويلة مثل اللسان أو تاج العروس، أو القصيرة مثل القاموس المحيط، وأبدع آخرون بتوجيه العناية لمعجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس وهو من حسنات حضارتنا العربية الإسلامية وبدائع مكتبتها، وإنها لحضارة عظيمة الحسنات، وإنها لمكتبة مترابطة ثرية. ومن باب اللغة انصراف بعض الصحب لتعلم الإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية أو الفرنسية، ولكل لغة سببها؛ فالألمانية فيها تراث فلسفي وفكري، والفرنسية ذات محتوى أدبي وقانوني، والإسبانية لغة مليارية وروائية، والإنجليزية لسان العالم.
وقريبًا من اللغة التفات قسم من الزملاء إلى دواوين الشعر، وأكثرها ورودًا في الجواب ديوان المتنبي وشروحه، وأحد ديواني المعري، وبعضهم جمع الأمر بانتقاء كتب جمعت الأشعار مثل الحماسة والأصمعيات والمفضليات والشعر والشعراء وطبقات فحول الشعراء، ومن الأمثلة المعاصرة مختارات البارودي، وقصر بعضهم نفسه على المعلقات أو الشعر الجاهلي، فمن حفظ الشعر رزق فهمه وتذوقه، والقدرة على تقييمه، وربما قرضه إن كانت لديه موهبة واستعداد.
أيضًا سمت همة فئام من القراء إلى كتب موسوعية مثل فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وكل الصيد في جوف الفَرا، وهي مجموعة في سبعة وثلاثين مجلدًا قال عنها الشيخ بكر أبو زيد: هي أعظم عمل علمي صدر من بلادنا. ومن الكتب الضخمة التي خطط عليها الأصحاب الموسوعة العربية العالمية التي مول إصدارها في ثلاثين مجلدًا فخمًا الأمير سلطان ولي معها قصة لطيفة، ومنها الموسوعة السياسية في تسعة مجلدات أو أزيد بإشراف د.عبدالوهاب الكيالي، وقصة الحضارة في أحد عشر مجلدًا من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أري لول ديورانت” مع التنبيه إلى الحذر من بعض عثراتها ولا يسلم عمل بشري من نقص. ولم يفت على بعض النبهاء استثمار وقت الجزيرة لنظر فاحص في مجلة تراث الإنسانية، ولها طبعات يختلف عدد الأجزاء فيها بيد أنها كبيرة وماتعة ونافعة، ومخدومة بالفهارس.
ومن ضمن الخيارات برزت كتب فقهية واسعة أو مختصرة، وكتب في المصطلحات والتعريفات وكليات العلوم ومفاتيحها، وأخرى في الأمثال والحكم العربية والعالمية. وذهب بعضها صوب المتعة القرائية في كتب الطرائف والمختارات والأساطير العالمية من مختلف الحضارات، أو حياة الحيوان الكبرى للدميري وهو كتاب جامع مؤنس، ولم ينس بعضهم اصطحاب روايات روسية أو لاتينية معه وربما غيرها من الروائع العالمية.
أما كتب الفلسفة فوجد لها نصيب وانتقاء، وقال أهلها: نريد أن نفهمها تمامًا أو نرتاح من عناء متابعتها كلية ونهجرها للأبد، وكم في الترك من راحة. واعتنى آخرون بكتب علم النفس والتربية والاجتماع والقانون والسياسة الشرعية مع إعطاء الأولوية لمقدمة ابن خلدون والكتب المرجعية في هذه الحقول المنشطة للأذهان؛ فكتب العلوم الإنسانية قمينة بأن تقرأ وتعيها العقول.
ومن أغرب التفاعلات أن اختفى أحدهم في الجزيرة وانزوى مع كتب الزمالة والتخصص الدقيق حتى يؤدي امتحانها بمجرد عودته، ورأى بعضهم أن الجزيرة تشبه المنفى، وقراءة الكتب الممنوعة لها مناسبتها في المنفى! ومن بديع إضافات بعض المتفاعلين ضرورة كتابة عرض ونقد لما أمضى معه عزلته الجزيرية من كتب، وتعهد آخرون بالتأليف بعد هذه الخلوة المحببة، ولا ريب بأنها فرصة مع الهدوء والوحدة، وعذوبة النسائم وبهاء المناظر التي تستحق التأمل، ونسيان الهموم والمشكلات.
فإن راقت لك الفكرة فيمكن تطبيقها كما هي أو بعد تطويرها حسبما ترغب ويناسبك. ولأن الشيء يجر مثيله فبمقدور الفرد الجاد أن يقرأ أيّ كتاب مهما تعاظم لو خصص عشر دقائق يومية ثابتة لا تنقطع للقراءة فيه ولو كان طويلًا عديد الأجزاء، ويمكن جعل كتاب “العشر دقائق” في المنزل والعمل والاستراحة لاغتنام العمر دون إثقال. كما أنه من حسنات هذا العصر وجود “اليوتيوب” الذي يشبه جامعة مجانية في متناول اليد، والموفق من جَعلَ هذا الموقع زادًا له وبلاغًا إلى حين، ومن خُذل فربما أنه لن يعرف منه إلّا متعة تافهة أو مؤقتة، فيا ربنا استعملنا فيما تحب، واجرنا مما تكره وتبغض.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 25 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443
30 من شهر نوفمبر عام 2021م