الأخ الوالد…
من بين جميع علاقات القرابة تمتاز الإخوة بمذاق خاص ربما بسبب التداني في العمر، أو التشارك في قصة الحياة، أو للرابطة الوثيقة من خلال الأبوين أو أحدهما. وقد يكون لعامل الصراحة العريضة بينهم والبوح أثر في ذلك، ولأمر ما كانت كلمة “أخ” معبرة عن التألم إذ أن الأخ أول من يهب لنجدة أخيه وأول من يطرأ على البال ساعة الألم أو حلول بأس ونزول ضرر.
ولأمر ما خرج حرفا الهمزة والخاء من مخرج صوتي واحد في الحلق، وهو أول مخارج الحروف وإن كان أحدهما في البداية والثاني في النهاية. ولأمر ما كذلك سالت المدامع والدماء لأجل الإخوة، ولأمر ما صارت التضحيات بالوقت والمال رخيصة في جنابهم، ولذلك تعارف الناس على أمثلة سامية من نموذج “الأخ الوالد” و “الأخت الوالدة”؛ وليحفظ الله الحفيظ لنا ولكم إخواننا وأخواتنا، فهم مصابيح ظلمة، وبهجة وأُنس في الرخاء والشدة.
جالت هذه الخواطر أمامي حين بلغني نعي الأستاذ محمد الصقير، فتذكرت مواقف شقيقه الأكبر الدبلوماسي الشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير مع إخوانه علي وصالح وحمد ومحمد، وكيف احتضنهم وعلمهم وأدخلهم في السلك الوظيفي الحكومي، وكان خير رائد لأهله، ونعم الناصح والمشير لبلده وإخوته، ومضى الرجل إلى الدار الآخرة قبل خمسين عامًا بلا ذرية ولا عقب، بيد أن سيرته حية ماثلة في إخوانه وبنيهم وعموم آلهم، وإن هذه الخصيصة الكريمة لظاهرة في كثير من الأسر العريقة.
فمثلًا كان الملك سعود في نظر كثير من إخوانه وأخواته مثل الأب الثاني بل إن بعض كبار أبناء الملك سعود ولدوا قبل أعمامهم، وفي كثير من المخاطبات والمكاتبات المحفوظة استعمل الملك مع إخوانه صفة الابن. ويمكن ملاحظة هذا الأمر بوجه أخص وبجلاء مع الملك فهد تجاه أشقائه وشقيقاته؛ إذ صنع منهم كتلة واحدة عرفت داخل الأسرة بآل فهد، وكانت لهم لقاءات مقصورة عليهم في غداء أو عشاء هذا غير مشاركاتهم في ملتقيات الأسرة الأخرى.
كما تظهر صفة الود والرحمة هذه في سيرة السفير والوزير الشيخ محمد الحمد الشبيلي مع إخوانه وأخواته حتى أن محبته منغرسة في جذر قلوب ذراريهم، علمًا أن بعض إخوانه عملوا في السلك الدبلوماسي على أثره الميمون. ونجد هذه السمة الحميدة بارزة في شيخ الزُّبير ووجيهها الشيخ محمد السليمان العقيل تجاه إخوانه الذين تعلموا وتاجروا ونبغوا بفضل الله ثمّ بفضله، وكان منهم شقيقه المحامي والقاضي إبراهيم العقيل أحد أقدم رجالات القانون في السعودية، وصاحب المواقف الحاسمة المشكورة إبان عمله في العراق. وبعد أن ترجل والده التاجر العقيلي من الحياة مبكرًا أشرف الشيخ الوزير والسفير جميل الحجيلان على أشقائه وإخوانه، وأدار شؤونهم، واستبان تأثيره على أخيه المحامي صلاح الذي يشير إليه بأنه قدوته وأستاذه وأبوه الثاني.
ونلمح منزلة الأخ الوالد لدى الوزير الشيخ د.عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وقد قرأت لأخيه د.محمد هذا الوصف نحو شقيقه الذي عوضهم فقد الأب. وعندما توفي الشيخ عبدالله الحمد الزامل تاركًا خلفه ورثة من القُّصر تنازل نجله الأكبر محمد عن حظه من التعليم لأجل رعاية أشقائه وإخوانه، فأثمرت جهوده فيهم لظهور نباهتهم وتميزهم، ومنهم على سبيل المثال المهندس عبدالعزيز وزير الصناعة الأسبق، والدكتور عبدالرحمن وكيل وزارة التجارة وعضو الشورى سابقًا وغيرهما.
ولولا الشيخ صالح بن عبدالعزيز الراجحي -بعد توفيق الله- لما كان لإخوانه شهرة مالية وخيرية، ولأجل هذا يكثر الشيخ سليمان من الترحم على شقيقه بل سمى نجله الأكبر عليه. وفي دوائر الفقر واليتم والوحدة-وهي دوائر تجعل الحليم حيران- لم ينس الشيخ محمد الإبراهيم السبيعي شقيقه الذي يصغره بعقد من السنين؛ فتولى تربيته وتعليمه حتى حفظ القرآن الكريم، وغدا شريكًا له في التجارة والخيرات، وصار الشيخ عبدالله مع شقيقه أيقونة ثمينة نادرة للأخوة العميقة المتينة. والشأن نفسه يساق في سيرة الشيخ عبدالله بن عثمان القصبي مع أشقائه الذين يدينون له بالولاء والمحبة، ويفرحون لأي كلمة ثناء صادق تقال في كبيرهم الراحل بالفضائل والمنن.
أما الوزير الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله أبا الخيل فقد حمل وصية والده الوجيه الكبير على أتم وجه وأداها على خير صورة؛ وإن كان إخوته يذكرون له وقفاته ومآثره فإن له مع أخواته خير مسيرة حينما تزوجن على يديه رجالًا من الوجهاء بعلم أو أدب أو منصب أو جاه. كذلك فإن للشيخ الوزير ورئيس مجلس الشورى محمد بن إبراهيم بن جبير أعمالًا جليلة تجاه إخوانه وأخواته استمرارًا لبره العظيم بأبيه، وما أشد تطاوعه لبني أبيه وبناته وسعيه فيما يرضيهم ويسرهم.
ولست بناس حنان الأخوات على أخواتهن وإخوانهن؛ فكم من امرأة ضمت تحت جناحها مسؤولية أخت أو أخ بعد رحيل الأم أو الأب، وكم من ضياء تسبغه الأخوات الحنونات على ظلمة الحياة وظلماتها، فهن أثر من آثار الأم، فيه الرحمة والرأفة، وإليه الملتجأ ساعة الضيق والكدر. وأتذكر في هذا السياق ما أورده الأستاذ منصور الخريجي عن شقيقته الكبرى من حضور جميل بنكهة الأم الرؤوم. ولولا وجود هذه النسمات الطاهرة العلية العذبة لما كان للحياة مذاق حسن، ولا طعم يستطاب، فعلى الله جزاء أخت رفقت بأخواتها وآوتهن، وعند الله أجر أخت جمعت على المودة والمحبة إخوانها.
لذلك فليس بكثير أن يقول كل أخ لأخيه مقالة الصديق يوسف -عليه الصلاة والسلام- لأخيه منفردًا: لا تبتئس، ولإخوانه مجتمعين: لا تثريب عليكم، وليس بعجيب أن يتحزن الفاروق عمر على رحيل أخيه زيد -رضي الله عنهما- ثمّ يخفف عنه مالك بن نويرة الذي تفجع على أخيه مالك بالشعر الكثير حتى لكأنهما لطول اجتماع ماباتا ليلة معًا! ويضيف ابن نويرة مخبرًا الخليفة الراشد بأن عينه العوراء دمعت حزنًا على أخيه وهي التي جفّ ماؤها منذ زمن بعيد، وإن ديوان المراثي ليشهد على عمق هذه العلاقة الأخوية بما مثله يبكي القلب قبل العين.
ومن هذا الباب لا نستغرب أن يطلّق دريد بن الصمة زوجته حينما شتمت أخاه، ولا نعجب لامرأة اختارت نجاة أخيها من بطش الحجاج دون زوجها ونجلها؛ فالزوج موجود بديله، والابن مولود غيره، وأما الأخ فلا عوض له، ولا نستعظم مواقف مهلهل وكعب الغنوي والخنساء حمية لإخوانهم وتوجعًا على فراقهم. وفي عصورنا المتأخرة أصدر الشاعر العراقي صلاح نيازي ديوانه الأول “كابوس في فضة الشمس”، وكله رثاء لأخيه في قصيدة طويلة، ولا تخطئ عين القارئ حزن الاقتصادي والكاتب المصري د.جلال أمين على رحيل إخوانه في سيرته خاصة في الكتاب الثالث منها.
أشير قبل الختام إلى أن وجود “الأخ الوالد” و “الأخت الوالدة” قد يتصاحب مع حياة الأبوين وغالب ما يكون بعد رحيلهما، وترافقه مع حياتهما يدفع إليه عجز الأبوين أو انشغالهما وربما إهمالهما أحيانًا. كما أن الذي يحمل هذه الصفة في جل الأوقات هو الأخ الكبير والأخت الكبرى، ولربما حملها غيرهما، ففي قصص ووقائع أضحى الصغير هو الذي يحمل إخوته ويجبر خواطرهم، وأيًا كان فليبارك الرب العظيم كل أخ وأخت يعطف على إخوانه ويتطامن لهم، ويجتهد فيما يسعدهم.
فيا أخي ويا أختي، يا أجمل علاقة وأرقى صداقة، يا أمضى سلاح وأثبت جدار، يا حبل الصلة الذي لا ينقطع لأنه ملتصق مع والدي ووالدتي: غثُّك-إن وجد- خير من سمين غيرك، وقربك أحب وأولى من تقارب أيّ أحد سواك كائنًا من كان، اغفر زلاتي وتقصيري، وهي منك معفو عنها-إن وجدت- ومغمورة في بحر إحسانك وأفضالك. والله يديم العلائق الأخوية ويقوي الوشائج الأسرية؛ فتلك لعمركم سلسلة يقوى بها المجتمع، وتتوالى منها خيراته وتصمد قيمه، فتصبح عروته وثقى لا تنثلم ولا تنكسر، وشبكته متينة الخيوط تعجز عنها أنياب القوارض وأسنانها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 10 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443
15 من شهر نوفمبر عام 2021م
2 Comments
بارك الله فيك الكاتب الفاضل احمد . مقالة قيمة وجديرة بالقراءة والاستفادة منها .وصفا جميلا لمكانة الاخ والاخت . سرني عمل ابن اختي اليتيم توفى والده وهو بعمر 3 سنوات واختين اكبر منه قليلا . ولم يترك لهم مالا . وانتقلوا للعيش في منزل والدي . وبعد وفاة جدهم لاابيهم كان من الضباط القدماء ترك لهم تقاعديته . توفقوا الايتام , وهاهو يجلب اختيه للعمرة . هذا الموسم وهو الاصغر ولكن يعاملهم كاب ويلبي كل طلباتهم . عمله سر قلبي . وذكرني ان الدنيا لسه بخير . اللهم بارك بكل الاخوان والاخوات الطيبين
اللهم آمين.