رواد التعليم من عنيزة
قائمة الشرف مهما تزاحمت فلن تضيق بأهل العلم؛ فللعلم من السمو مالا يدانى، ولذلك يتسابق المؤلفون منذ قديم الزمان لحفظ سير العلماء مفردة أو ضمن طبقات وأعلام قرون أو فنون. ومن هذا الباب الكريم كتاب حديث الصدور عنوانه: رواد التعليم من عنيزة من عام 1344 حتى 1380، تأليف: عبدالرحمن محمد المانع، صدرت طبعته الأولى عام (1443)، ويقع في (512) صفحة مكونة من إهداء وتقديم بقلم المؤرخ الأستاذ خالد الخويطر فمقدمة يعقبها ثمانية فصول، وفي الكتاب صور ووثائق وإحصاءات كاشفة.
يُعدّ هذا الكتاب وفاء رباعيًا، فهو وفاء من المؤلف لوالده المعلم الذي ترجم له وأهداه الكتاب، ووفاء لمهنة التعليم الجليلة، ووفاء لبلدته الجميلة عنيزة، ووفاء لعلم التوثيق والترجمة والسير، والله يعظم الأجر على قدر النية. وقد لاحظت أن العلم والتعليم في عنيزة يدور حول حلقات المشايخ القاضي والسعدي والعثيمين، وكتاتيب الشيخين الدامغ والشحيتان، ومدرستي الأستاذين القرزعي والصالح، دون غمط جهود الآخرين، ويالها من مفاخر تبقى وآثارها تنمو.
ومن لطيف الخبر الإشارة إلى ارتباط التعليم في المملكة قاطبة بشخصيتين من أهل عنيزة هما الشيخ ابن مانع الذي تولى المسؤولية عن التعليم قبل أن يصبح وزارة، والوزير الدكتور الخويطر ثالث مسؤول عن إدارة جامعة الملك سعود، ورابع وزير للمعارف، ولذا ابتدأ الكتاب بسيرتهما، وليت أن المؤلف ضم إليهما سيرة الحبرين ابن سعدي وابن عثيمين لعظم أثرهما الذي يتجاوز المملكة، ومسيرة الأساتذة من آل القرزعي وآل الصالح، حتى لو كانت سيرهم موجودة فيما بعد.
ثمّ إني أبصرت هبّة أهل عنيزة لخدمة بلدتهم في العلم من خلال التدريس، ونسخ الكتب، وجلب الأدوات واللوازم، وفتح المكتبات، وابتداء أول مدرسة ليلية سعودية لمكافحة الأمية، وتزكية الأمير والأهالي للمؤهل من أبناء البلد لإدارة المدارس والمعاهد، والسفر لتحصيل علوم ومعارف وخبرات تنفع البلد في الإدارة المدرسية، والتعليم الجديد. ولم تقف خدماتهم عند هذا الجانب بل شملت مناحي أخرى مع التعليم مثل افتتاح أول مستوصف وأول سوق تجزئة، والمبادرة للعمل الأهلي والمجتمعي عبر مجالس الأحياء وجمعيات البر مع بناء المساجد ويكفي أن واحدًا منهم شيّد أربعة عشر مسجدًا.
مما لاحظته أيضًا ارتباط الحركة العلمية في عنيزة بعلوم الشريعة واللغة والشعر والأدب، وترشيح كثير من المعلمين للقضاء والتدريس المسجدي، والتزام بعضهم بإمامة الصلاة لمدد تصل إلى نصف قرن، وارتباط شخصيات شهيرة منهم بالمرجعية في العلم والفتيا، وبمناصب الوزارة وإمارة عنيزة، مع ظهور التعلق بالمساجد والصلاة حتى لدى من أدركه أرذل العمر. ويغلب على أكثر المحفوظة سيرهم طول العمر رحم الله راحلهم وحفظ الأحياء على سعادة وطاعة، وهذا لا ينفي وجود آخرين قضوا في بواكير العمر عوضهم الله برضوانه في جنانه. ويرجع العلماء والأساتذة المذكورين لأسر عديدة مما يدل على أن جلّ بيوت عنيزة مستغرقة في العلم حتى مع الكدح وقلة ذات اليد، ومن راجع علماء نجد للشيخ البسام، وشعراء نجد للأديب ابن دريس، فسوف تقع عينه على كثر من المترجمين في هذا الكتاب.
كما نرى في الكتاب انتشار المعلمين من رجالات عنيزة في عدة مدن سعودية، بل وفي غيرها من بلاد الخليج والجزيرة، ونلمح مشاركة عدد غير قليل منهم في أجهزة حكومية متنوعة مثل الديوان الملكي ورئاسة مجلس الوزراء، وفي مصالح مدنية وعسكرية وشركات وجامعات، بل ورد اسم أحدهم ضمن المجاهدين في حرب فلسطين. ويحوي الكتاب سير رموز من أهل عنيزة مثل -مع حفظ الألقاب- عبدالله النعيم وعبدالرحمن التركي وعبدالرحمن العليان وعبدالرحمن البطحي الذي وددت لو حفظت مطارحات مجالسه الثقافية أو سيرته كاملة، وعبدالله العثيمين والأعجوبة عبدالله الفالح وصالح البسام وغيرهم كثير.
واستطاع بعض المترجمين إجادة لغة أجنبية مثل الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية، وترجمت كتب بعضهم إلى لغات إسلامية مثل الأردية، ومنهم من نال جوائز محلية كبيرة مثل جائزة الملك فيصل، وفيهم من كانت له خدمات دولية أو إقليمية، ونقل المؤلف أعاجيب قوة حافظة بعض المشايخ والأساتذة. ونبغ عدد منهم في الأداء الصوتي وقراءة القرآن الكريم للإذاعات، وإعداد البرامج الإذاعية والتلفزيونية الهادفة مثل الأستاذ عبدالله الزامل، أو الفقرات الماتعة مع اشتمالها على القيم مثل أعمال الأستاذ المتفنن عبدالعزيز الهزاع، بينما كتب الأستاذ الأديب إبراهيم الحسون سيرته الذاتية في أربع مجلدات مستعذبة لا تلحقها ملالة ولا تكاد.
علمًا أن هذا الكتاب يحتوي على (153) ترجمة أكثرهم في عشر السبعينات (86) ترجمة، واقتصر المؤلف على ذكر أهم أخبار كل شخصية كي لا يتضخم الكتاب، وليته أن يجهز الطبعة الثانية مع الإضافات لتصبح أشبه بسير أعلام أو مسيرة تعليم حتى لو بلغت عدة مجلدات ففي أهل عنيزة بركة إن بالتفاعل والزيادة أو بدعم الطباعة. ومن الأفكار المهمة ضرورة إضافة المعلمات من نساء عنيزة في الكتاتيب وهنّ معروفات أثابهن الله، وفي ذلك نفي لفرية رفض التعليم النسائي، وإثبات لأسبقية مدن القصيم بالتعليم الرسمي للبنين حتى قبل العاصمة الرياض.
إن مثل هذا العمل لجدير بالثناء والتسديد مع صادق الدعاء، ذلك أن أهل العلم والتعليم هم حملة الرايات التي يجب أن تظل مرفوعة دومًا، فبالعلم تنفتح العقول، وتزكو النفوس، وترتقي الهمم، ولو سألنا أهل الأرض قاطبة عن أسرار تقدمهم المادي في جميع المجالات لأشار الصادق الناصح منهم دون مواربة للمدرسة والكتاب وقبلهم ومعهم وبعدهم تكون الإشارة مع التوقير والتقديم للمعلم الذي حقه يتجاوز مجرد القيام والتبجيل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 08 من شهرِ ربيع الأول عام 1443
14 من شهر أكتوبر عام 2021م
2 Comments
وقريباً بإذن الله رواد التعليم في حائل .. العلم والمعلمين موضوعات جديرة بالإهتمام ..خاصة مع بدايات التعليم تلك الأيام التي كافح وجاهد فيها روادنا الأوائل رحم الله الميت منهم وابقى الحي على الطاعة .
هذا صنيع مبهج. وفقكم الله.