عبدالله بن إدريس كما نراه
في بلادنا المنجبة شخصيات عظيمة في العلم والفكر والأدب والعلم والحياة، ولا عجب أن تكون الصورة كذلك؛ فمن هذه الجزيرة انبعث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام بدينه المهيمن، وسار على هديه الصحابة ثم التابعون رضوان الله عليهم، وفيهم العلماء والعباد والفوارس والشعراء. وقبلهم انبثق من صحراء الجزيرة العربية شعراء المعلقات، وخطباء الأسواق، وأرباب الحكمة والبيان.
ثمّ أضحى تاريخ الجزيرة في قسمها الصحراوي شبه منطمس بعد نهاية الخلافة الراشدة حتى أضاء مع بداية الدعوة الإصلاحية وتكوين الدولة السعودية؛ ولذا برزت أسماء كبيرة جديرة بأن تصبح معروفة، والأمثلة كثيرة يحضرني منهم الآن في عصورنا المتأخرة -مع حفظ الألقاب وبلا حصر-: ابن باز والجاسر والحصين والصبان والجهيمان والقصيبي ونصيف والعبودي وابن عثيمين وجمع كبير سواهم يؤكدون النبوغ المعرفي والعلمي والقيمي في بلادنا، ويعيدون لها بسيرتهم مكانتها العليّة، وينفون عنها ما كان يروج من أقوام انتفخوا بغرور الماضي حتى أعماهم أو أعشاهم عن الحاضر بما فيه من أدب وفكر وعلم وتميز، والله يديمه على خير وبركات.
من هؤلاء النخبة الأكارم الشيخ الأديب عبدالله بن إدريس (1347-1443) الذي توفي في الرياض يوم الأربعاء الماضي التاسع والعشرين من شهر صفر الموافق للسادس من أكتوبر. وفي حياة الشيخ صدرت سيرته الذاتية وكتب مقدمتها نجله أ.إدريس الذي حدثنا عن والده كما يراه بنوه، وبعد رحيله كتب نجله د.زياد مقالة تأبينية لوالده ناقلًا لنا رأي الأبناء في الشيخ الذي ودع الدنيا بما فيها تاركًا أحسن الأثر من البشر والنثر والشعر، وكما تراه ذريته يراه الآخرون ويشاركونهم التوقير والتقدير؛ فللجميع من الشيخ نصيب لأنه شخصية عامة مؤثرة.
وإذا أردنا وصف ابن إدريس الأب فلنا أن نقول دون أن نجد معارضًا يُعتدّ به إن راحلنا كاتب وشاعر وأديب، وهو قبل ذلك عالم وفقيه وحكيم، ومع هذين الوصف فهو أيضًا مربٍّ صاحب منهاج تربوي منزلي أضفى على أبوته سمة العدالة في العطاء وفي الحنان، ويمكن لنا استجلاء هذه الملامح من إنتاج الشيخ، وسيرته، والمروي عنه من مواقف وكلمات، فما أكثر مواطن الشهادة التي تجلي الغيب حتى تكاد أن تنهي سمة الخفاء عن أيّ شأن بشري سواء بيقين يتناقله شهود عيان عدول، أو بظنٍّ يغلب بالاستقراء والتحليل، وفي الأمرين أفلح الشيخ وربح البيع بإذن الله.
وربما تعود هذه السمات إلى التربية الأولى التي تعرض لها كاتبنا في أول عمره وطفولته ويفاعته، ذلك أن الغراس الأول مؤثر وستبدو ثماره ولو بعد حين، ولن يزاحمه شيء مهما كانت سطوته؛ فله الرسوخ والبقاء والغلبة ساعة التنازع. وتتكون تربية الشيخ الأولى من جهود بيتية من قبل أبويه، وعناية أسرية من محيطه القريب، وأعراف مجتمعية مقبولة في بلدته وبيئته، وآثار مسجدية ومشيخية عبر دروس العلم والمساجد والمعاهد والكليات والصحبة بقيت حاضرة مع الشيخ في علاقته بالمصحف والمسجد والعلماء، وما أعظم التربية ونتائجها، وما أولاها بالالتفات تنظيرًا وتطبيقًا وتدريبًا.
لأجل ذلك صبغت جميع هذه المدخلات شخصية الشيخ الأديب، فهو الجاد في الطلب وفي العمل والتأليف، حتى أن كتابه عن شعراء نجد الذي صدر وهو في أوائل عشر الثلاثين من عمره صار مرجع مهمًا عن شعراء منبع الشعر العربي ودوحته الأصيلة، وتسارعت إليه أقلام كبار الأدباء والكتاب ففي خارج الحدود تعطش لمعرفة ما في الداخل؛ وليت أن كلّ رائد لنا ومعبّر عن ثقافتنا يغدو مثل ابن إدريس الذي سمت لشراء ديوانه وتوزيعه همم مسؤولين في الديوان الملكي ومجلس الوزراء وغيرهما من الأجهزة الحكومية، وليت أن الموارد الثقافية التي استقاها أديبنا من الكتاب والحوار والمجلس الأسبوعي والمشاركات الفاعلة تصير منهجًا لناشئة الأدباء وشداة الكتابة كي يكونوا أحسن نموذج لبلادهم وأهليهم.
كذلك كان الشيخ أديبًا وشاعرًا في موضع يستلزم الإحساس والخيال دون خدش تكوينه المشيخي، وكان الأديب شيخًا رزينًا دون أن يخنق الوقار ما يتطلبه عالم الكلمة من رشاقة وطلاقة. كما أنه عبر بأفقه الرحيب رمال الصحراء وصخورها إلى البحار وما فيها من شواطئ وزوارق وأمواج فلم يغرق وظلّ شعره يتنفس وينبض بالحياة، وأبصر شاعرنا الرحيل والفراق وهو يخطو على الأرض ويخطر بين أهلها؛ فلم يزهد بطيبات الحياة الدنيا الحلال، وإن استمر يرقب الموعد لأنه يعلم علم اليقين أن الفراق آت ولا مناص من ترك ظلّ الشجرة وإكمال طريق السفر، والله يجعل المستقر في جنان عدن.
وفي مسيرة الشيخ محطات كثيرة يجمعها شرف العلم، وبهاء الكلمة، وسمو الوعي، إذ عمل في حقول التعليم والإعلام والأدب والثقافة والتاريخ والتراث موظفًا ومسؤولًا ومرجعًا وعضو مجالس، ولذا نال التكريم الرسمي والشعبي إضافة إلى إجلال أسرته العريقة لرمزيته ومكانته. وتجاوز أديبنا المكاره والمنغصات ووحل التصنيف والتهم التي يسهل سوقها بلا خطام ولا زمام، ولم يكلف نفسه الواثقة دفعها أو ينشغل بصدها، فالمتهاوي من الدعاوي والبلاوي سيهوي تلقائيًا ولو بعد حين.
كما أن لشيخنا يدٌ على أبناء الصحراء ورجال نجد على وجه الخصوص؛ ذلك أنه أبان عن “عشقه” الكبير لزوجه ورفيقة الدرب وهي في عشر السبعين ثمّ في عشر الثمانين- أمد الله في عمرها على طاعة وبر وسرور- وهو إعلان تكرر مرتين عبر قصيدتين ذائعتين بعنوان: “أأرحل قبلك أم ترحلين”، و “مري علي”، ولنا في هاتين القصيدتين ملامح منها أن ابن إدريس قالهما وهو شيخ كبير ليؤكد أن الحب متجذر وليس صبابة أو أمرًا خاصًا بالشباب وشهواته، وصاغ خلجات قلبه شعرًا وهو من الكلام النفيس الذي يحبه ويجيده، ثم إنه قول سيجد طريقه للذيوع والانتشار ولا مجال للكتمان فيه، فباسم رجال الصحراء المظلومين قاطبة: رحمة الله عليك يا ابن إدريس!
هذا هو الأديب الشيخ كما نراه، عَلَم في الوعي من خلال مؤلفاته وأعماله الفكرية، وأستاذ في الحرية إذ طبع كتابه الأهم على حسابه كي لا يُملى عليه شيء لا يرتضيه مع ترحيبه بالنقد، وخبير في التربية من خلال ثماره الظاهرة في أنجاله البارزين ثقافيًا وإعلاميًا. وهو قدوة من خلال شبكة علاقاته الواسعة داخليًا وخارجيًا، وإمام في إبراز الوجه المشرق لثقافتنا وإنسان بلادنا الأصيلة، وهو رمز حقيق بالاحتفاء حينما سارعت وزارة الثقافة -مشكورة- لعقد لقاء عنه غير مجدول ضمن ندوات معرض الكتاب بعد أن غادر دنيانا إلى عالمه البرزخي تشيعه الدعوات والثناء والذكر الحسن.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 06 من شهرِ ربيع الأول عام 1443
12 من شهر أكتوبر عام 2021م
2 Comments
رحم الله الشيخ الفاضل عبد الله يا ابن ادريس .وطيب ثراه . واكرم مثواه .واجعل الجنة مستقره وماواه . ولزوجته ولااولاده الصبر والسلوان. مقال قيم جامع اتمنى لكل اب وزوج قراءة المقال والاقتداء به . وللاخت الفاضلة لزوجته ورفيقة دربه اقول هنيئا لك ايتها الاخت الفاضلة.هذا الزوج الصالح والاب المثالي . لقد استحقيت حبه عن جدارة . اجمل ما قرات وشهدت وسمعت في حياتي من حب صادق ووفاء وشعر. وانا اجوب القارت كالسندباد . امد الله في عمرك واتم عليك الصحة والعافية وراحة البال .
اللهم آمين.