ثقافة المربي في عصر مختلف!
التّربية عمليّة مستمرة في كلّ وقت، سواء بوعي وتخطيط، أو بدون وعي وكيفما اتفق، حيث يؤديها آحاد النّاس، وجزء لا يستهان به من مؤسسات المجتمع، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولا غرابة أن تنال الاهتمام الكبير، حتى افتتحت لها الأقسام والكليات، وسميت بها وزارات وإدارات.
وقبل عشر سنوات تقريبًا، دعاني ثلّة من الأصدقاء للحديث معهم حول ثقافة المربي، وبعد فراغي من ذلكم اللقاء الثّري، كتبت مقالة ونشرتها بعنوان: كيف يبني المربي ثقافته؟ وقبل شهر تقريبًا، طلب إليّ زميل عزيز طرح هذا الموضوع مرّة أخرى، فاستجبت له، ومن بركات هذا اللقاء الجميل، أن جدّد الصّلة بزميلين تعرفت إليهما عبر برنامج تدريبي طويل، يصنع ألفة بين المشاركين فيه.
وللتّربية أهداف داخل المتربي، وأهداف خارجه، ومن البصيرة أن يستشعرها المربي؛ كي يبني ثقافته على ما يعينه لبلوغ هذه الغايات النّبيلة بإتقان، وكمال، ورسوخ، ذلك أنّ عمل المربي يشبه مهمّة الرّماة في معركة أحد، ومن الواجب ألّا يترك حراس المجتمع ثغورهم، ومن التّوفيق أن تحمي جهودهم سائر مجالات المجتمع ومناشطه من أن تنال بسوء، أو تعطيل، تحت أيّ مسوغ، وما أنفس التّربية من عملية، وما أصعب ممارستها على من لم يرجو ثمارها، أو غفل عن آثار إهمالها.
ويشمل هدف التّربية في داخل الإنسان أمرين كبيرين، أوّلهما: إتمام مكارم الأخلاق فيه، وغرس الفضائل في شخصيته، والثّاني: رفع مستوى الوعي والفهم لديه. فالأول كفيل لصاحبه بأن يتسامى عمّا يشين، ويبتعد عن المحرّم والضّار، ومن خلال الثّاني ينأى المتربي عن قبول الزّور، أو المشاركة في البهتان، ويحفظ نفسه من جعلها مطيّة أو جسرًا.
وأما هدف التّربية الظّاهر في خارج الإنسان فيقع في ناحيتين، الأولى: إكساب المتربي قدرًا من المعارف، والمهارات، والقدرات، التي تسهّل عليه تحقيق ذاته، وتسانده في النّاحية الثّانية وهي الفعاليّة، فلا يكون خاملًا، ولا يحتسب عبئًا، ولا يصبح كلّاً، ويغدو عضوًا فعّالًا منجزًا.
ومحصّلة الهدفين لهما ارتباط وثيق بالفرد والمجتمع، فبهما ينجو الفرد بعد فضل الله من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، ويحجز لنفسه موقعًا في أعمال خالدة، ومشاركات إيجابيّة، ومواقف مباركة، وإذا كان جلّ أفراد المجتمع كذلك، صار مجتمعًا سعيدًا، منتجًا، قويًا، آمنًا، فلبناته متماسكة، متينة التّرابط، كثيرة المزايا، وهذا التّأسيس يجعل المجتمع وأفراده على أهبة الاستعداد للبناء، والنّماء، من أجل مستقبل أجمل.
والثّقافة علم وعمل، معرفة وسلوك، هُويّة وأخلاق، وقمين بالمربي أن يلاحظ نفسه في جميع أحوالها، ففعله أبلغ من قوله، وسمته أصدق من لفظه، والموّفق من امتنّ الله عليه بصلاح الباطن، وسلامته، وطهارته، مع استقامة بادية، وصدق لهجة، ونقاوة لسان، وحسن طباع.
وتتكون ثقافة المربي من ثقافة أساسيّة، ينهل لتحقيقها من علوم الدّيانة، واللغة، والتّاريخ، بما يرفع عنه الجهالة المشينة، فأيّ نقص يحمله المرء حين لا يعرف المعلوم من الدّين بالضّرورة، كأركان الإيمان والإسلام وأحكامهما الرّئيسة؟ وما أحوج التّربية إلى أناس يتقنون لغتهم، وينزلونها في موضع مقدّس، فاللغة أول أهداف المحتل البغيض؛ ليكسر العمود الفقري لثقافة المجتمع، وسيكون التّاريخ خير رافد للمربي في مسيرته لإصلاح نفسه وغيره.
وإذا أصبحت القاعدة الثّقافية الأفقيّة للمربي متينة بهذه الأسس، ناسبه أن يزيد من ثقافته التّخصصيّة في المجال التّربوي، لأنّها ميدانه الخصب، وأن يولي العلوم الإنسانيّة أهمية في مساره الثّقافي، فيأخذ بطرف من علوم الإدارة والاجتماع والنّفس، ومن نافلة القول ألّا يحرم نفسه من الثّقافة العامة، فهي من طرائف الحكمة التي تقاوم الملل، وتلّطف الحديث، وتنّشط لمزيد من الجدّية بعدها.
والحمدلله الذي جعل قنوات المعرفة في عصرنا كثيرة جدًا، فمنها القراءة، والاستماع، وحضور الدّيوانيات والبرامج التّدريبية، والمشاركة في الفصول الدّراسية الحقيقيّة أو الافتراضيّة، كما يمكن متابعة مواد مرئيّة هادفة، والإفادة من شبكات التّواصل الاجتماعي، ومعايشة مربين أفذاذ، وتتبع سير عظماء التّربية، ومن بحث وجد، والحاجة مدعاة للحيلة.
وقد تحول عقبات تصرف المربي عن مشواره الثّقافي، كسرعة المتغيرات، والانشغال بالأعمال، والغفلة عن تطوير الذّات، والاتكاء على المواهب، وما قد يصيب الهمم من ضعف، ومن أعظم الصّوارف الانهماك في متابعة الأحداث اليوميّة، والأخبار السّياسيّة، وما أكثر عناءها، وأقلّ غناءها، والماجريات خير شاهد؛ والله يعجّل الفرج! ومن أبصر المراد؛ وسعى له، أزاح العوائق.
والثّقافة للمربي، زاد يصلح بها نفسه، ويسّد خلله، ويكمل نقصه، ويعالج عيوبه، وهي درع حصينة يقاوم بها الشّهوات والشّبهات، وهي أداة يستخدمها لأداء وظيفته في تزكية النّاس، وتربية الأجيال، وتقويم المجتمع، كما أنّها سلاح يردع به المجرمين المعتدين عليه، وعلى مجتمعه، وثقافته، وبلده.
وأكبر نجاح يصنعه المربون، أن تكون غايتهم العظمى تعبيد النّاس لربّ العالمين، وليس الانحياز إلى فئة، ثمّ جعل التّربية عملًا مجتمعيًا يعتني به الأكثرية، فيعسر انتزاعه، ويصعب تشويهه، وأخيرًا بناء العمل التّربوي على أساس ترسيخ المفاهيم، وإصلاح التّصورات، فسمو الروح واستقامة العقل، أولى من إيجاد علامات خارجيّة قد تخفي خواءً داخليًا، وإنّ فكرة صحيحة، مع طريقة تفكير سليم، أفضل من ألف معلومة.
وسيكون نجاح المربي على نور من الله وهدى وبرهان، حين يلتصق بالقرآن الكريم، ثمّ بسيرة النّبي الأكرم صلّى الله عليه وسلم وسنّته، مع رجوع دائم للعلماء الرّبانيين، وبمقدار ابتعاده عن هذه المصادر، أو عن العالمين الأمناء بها، يكون خطله وضلاله وأثره السّيء، وحاشا من صرموا الأعمار لله، وصرفوا الأوقات لخدمة المجتمع، أن يميلوا عن الصّراط المستقيم.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 29 من شهرِ رجب الحرام عام 1439
15 من شهر أبريل عام 2018م
One Comment
جزاك الله خيرا اخي الفاضل على هذه المقالة والتحليل والوصف الدقيق للمربي والمربية الذي يصلح لكل زمان ومكان ونفعه الذي يعود لااهله وطلابه ولمجتمعه . سالتني صديقة استرالية قبل سنوات عندما راتني اقرا في كتب التربية . وقالت لي ماذا تستفادين من كتب التربية واولادك قد كبروا . اخبرتها صحيح ان اولادي قد كبروا ولكن احب ان اقيم جهودي السابقة من كنت معلمة وربيت اجيالا وكذلك اولادي لااسعد ان كنت قد اديت امانة المربي باخلاص قدر استطاعتي . فنحن نطلب ثواب الدنيا والاخرة . اسال الله العلي القدير ان يجازيك في كل حرف خطته يداك دنيا واخرة . وفقك الله لما يحب ويرضى