سير وأعلام شريعة وقانون

الشيخ سليمان المهنا: رأس في الحكمة ورئيس المحكمة

القضاء كلمة مهيبة فخمة، ونهج من الرشد لا تستغني عنه دولة أو أمة، وهو من عوامل الاستقرار والسكون، فإذا ما خاف امرؤ على نفسه أو ماله أو عرضه أو حقوقه أو حاجياته أو مصالحه عمومًا، فسوف يسكن خاطره، وتهدأ ثائرته وتخبو نزغات شياطينه، إذا عَلِم عِلْم اليقين أنه سيؤوب إلى قضاء عادل ناجز منجد مستقل، وأن الحقّ عالٍ لا يطاوله شيء مهما كان، ولا يتجاسر عليه أحد أيًا كان، وأن الباطل مدفوع مرفوع من الواقع وموضوع حيث يجب. ولهذه المعاني التي لا مساومة عليها اتخذ الرواق العدلي الميزان شعارًا في كثير من الدوائر والبلاد، فالعدل هو الذي يؤسس الملك ويوطده، وبه قامت السموات والأرض.

لأجل هذا، شرعت بالكتابة عن عدد من القضاة والعاملين في الحقل العدلي بالمملكة العربية السعودية، لأسباب منها تخليد ذكر أولئك الفضلاء، ونشر شيء من سيرتهم وأخبارهم، مع التعريف بمرفقهم الذي استقام عموده على الشريعة في النظر والحكم، ومضى عليه شأن البلاد في زمن التأسيس بما فيه من إرث وحرج، وعقود التنمية بما فيها من تسارع وتداخل، والله يديمه على مزيد استمساك بالهدى الرباني وإصابة للحقّ الذي يوجد به العدل والفضل والرحمة، مع الوضوح والتطوير الذي يقضي على التأخير، ويمنع سوء التفسير، ويساعد على حسن التدبير.

وهاهنا تعريف بأحد قامات القضاء في بلادنا، وهو رمز لجيل وقع بين جيلين، فهو ليس من جيل القضاة الذين جلسوا في المساجد أو في بيوتهم للفصل بين الناس، وليس من جيل مارس القضاء وحسم المنازعات عن بعد بوسائط تقنية حديثة. إنه الشيخ سليمان بن عبدالله بن سليمان بن مهنا آل مهنا الذي يعود نسبه إلى قبيلة شمر الطائية الكريمة محتدًا ومخبرًا، وينتمي إلى مدينة البره من إقليم المحمل شمال غرب الرياض، وهي مدينة لها ذكر قديم وفي تاريخ الدولة السعودية الثانية، وذات أسر عريقة في العلم والفضل والتجارة والاحتساب.

ولد الشيخ في بلدته البرة ضمن بيئة متدينة عام (1354)، فوالده الشيخ عبدالله طالب علم وداعية ومحتسب وخطيب، ووالدته طرفة بنت عبدالعزيز آل ملحم امرأة صالحة قانتة سريعة في طاعة ربها ورضوانه سباقة إلى المعروف وتربية الأبناء كما يحب الله، وعمه الشيخ محمد بن سليمان من أهل العلم والقضاء. ثمّ تعلّم في كتاتيب بلدته مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ شيئًا من سور القرآن العزيز على يد الشيخين محمد بن عبدالله الماجد، وسعد بن عبدالعزيز العيد، وإن آثار هذه التربية المنزلية والمسجدية العميقة لبادية على الشيخ القاضي، وعلى شقيقه الصالح الشيخ محمد، وابن عمهما الرضي البهي الشيخ محمد بن سعد المهنا أمتع الله بهم جميعًا.

عقب ذلك واصل شيخنا دراسته النظامية في معهد إمام الدعوة، والتحق بكلية الشريعة وتخرج فيها عام (1388) وكان من العشرة الأوائل، ولم يترك طلب العلم مع توافر الوظائف إذ ذاك، فسجل في المعهد العالي للقضاء بيد أن العمل في المحكمة الكبرى بالرياض أخذ منه زبدة وقته وجلّ اهتمامه فلم يواصل الدراسة وإن لم ينقطع عن القراءة ودروس العلم والمذاكرة والتدريس كما سيأتي. ولعله أفاد من الملازمة القضائية في مكتب الشيخ القاضي محمد بن سليمان البدر، وإن المصاحبة والمعايشة لخير من كثير المحاضرات، وأجدى من الشهادات ذوات البريق، وظلّ الشيخ المهنا قريبًا من شيخه البدر في المحكمة الكبرى بالرياض، وفي المجالس القضائية العليا، ومن وفائه أن كتب كلمة منشورة في رثاء شيخه عقب وفاته عام (1438)؛ معترفًا بفضله، مثنيًا على كريم خصاله.

وبعد سنوات الملازمة أصبح الشيخ سليمان قاضيًا في بلدة العيون بالأحساء (1391-1399)، وهناك كان القاضي، والمدرس لعلوم الشريعة في مسجدها، والخطيب لجامعها، والمرجع لأهلها، وفوق ذلك ألقى محاضرة في نادي ابن المقرب في الأحساء وكانت ذات حضور كثيف من المثقفين والأدباء، وما أجمل توافق الشيخ والمثقف. وفي تعيينه بالأحساء ملمح مهم، فالأحساء بلدة ذات علم وحضارة وتنوع فقهي ومذهبي، ولا يصلح لها إلّا القاضي العالم الصبور الواسع الأفق، وهذا يصدق على جيل من القضاة عملوا في الأحساء سبقوا الشيخ المهنا أو جاءوا من بعده، مثل الشيخ صالح بن غصون، والشيخ سليمان الماجد، وغيرهم.

ثمّ آب الشيخ إلى الرياض في محكمتها الكبرى عام (1399)، وتدرج في العمل القضائي فيها حتى أصبح رئيس المحكمة الكبرى، والمدير لقضاتها وقضاياها بين عامي (1407-1433) حتى بلغ درجة رئيس محكمة استئناف وصار عضوًا في المجلس الأعلى للقضاء إضافة لرئاسة المحكمة. ومع قلة عدد القضاة والباحثين، وكثرة القضايا في عاصمة نشيطة اقتصاديًا فضلًا عن الأوقاف وشؤون الناس المعتادة، فلم يتبرم بشكوى، ولم يأتفف من عمل كثيف كثير الأشواك ويستلزم ألف توقيع وثلاثة أقلام حبر يوميًا.

هذا غير كثرة الداخلين إلى مكتبه فمنهم من يشكو أو يسأل أو يستجير، أو يطلب توثيق ورقة أو ختم عقد كما حدث معي فاستقبلني بلطف وبشاشة ودعاء أبوي، ولم يمنعني حاجب على بابه من الدخول إليه، وهكذا تواترت شهادة المحامين والمراجعين- وقلّما يكون الرضى متبادلًا بينهم وبين القضاة- على قبوله للسماع بلا مقاطعة، ونزوعه نحو التيسير، ومنح الخدمة لطالبها دونما عناء، وإعانة صغار الموظفين على إكمال تعليمهم وتجويد مستقبلهم، مع قلة الكلام ووضوحه وهدوء نغمته التي تصف التؤدة والرفق.

أما القضاة في المحكمة فأحبوا في شيخهم ملكته الفقهية البارزة، وأدبه الكبير معهم، فهو أخ للداته، أب للشباب، يسوق التوجيه والاستفسار بالطريقة المناسبة، ويذكر المقترح بهيئة تحول دون رفضه أنفة أو تعززًا، فيحفظ للقاضي هيبته ومكانته، ويحول دون التدخل بأحكامه واجتهاده إلّا من سبيل قضائي، ويقف حاجزًا أمام ذلك كما حدث مع أحد موظفي الإمارة، وبالمقابل لا يحرم المتقاضي من حقه الشرعي والنظامي بالتظلم والشكوى، وتطلّب العدل أو الإحسان، ولربما أن التوفيق قد صاحبه في ذلك؛ حتى قيل إن قضاة المحكمة دون استثناء يحبونه ويجلونه، ومن إعجابهم عرفوا لبسته للعباءة ونسبوها إليه فقيل “لبسة ابن مهنا” كما ذكر القاضي الشيخ الأديب ناصر آل طالب في مقالة جميلة له عن الشيخ بعنوان: آخر المخضرمين.

ومن اللافت في سيرة الشيخ سليمان أن علاقته بالقضاء لم تبدأ بعد نيله شهادة البكالوريوس في الشريعة، بل قبل ذلك بخمس سنوات حينما أوفده رئيس القضاة بل رئيس الشأن الديني كله المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ليصبح قاضيًا مع جباة الزكاة في البوادي وهو في الصف الثالث ثانوي، والشيخ القاضي المفتي رجل بصير ثاقب النظر ولن ينتدب لهذه المهمة العسيرة الملتبسة إلّا من يثق بأهليته وحكمته على صغر سنه إذ ذاك، ولأنه نجح في مهمته استمر قاضيًا يجوب البلاد مع اللجان طوال سنوات دراسته الجامعية، ولم يؤثر ذلك على تحصيله وجديته فكان من أوائل دفعته.

ومما يستوجب التوقف أن الشيخ قضى عمله العدلي في مكتب بعيد عن الأبهة في الأثاث والتراتيب، وداخل مبنى عتيق ذي عراقة وتاريخ وزحام، مع أن عمله يتقاطع مع الأثرياء والوزراء والأمراء والعلماء والقضاة، وتدخل يوميًا أوراق قضايا في أحشائها المليارات المتراصة، وهي حسنة تحسب للقضاة من باب البعد عن الترف المادي والبذخ المبالغ فيه الذي يقع فيه بعض المسؤولين بمجرد تعيينهم في منصب، وإن كان تحسين بيئة المحكمة والمرفق القضائي مطلب أساسي فهم أولى من غيرهم، وهو ما حدث في أواخر سنوات عمل الشيخ.

كما بنى رئيس المحكمة الكبرى ورجل الدولة البصير علاقات وثيقة مع الأجهزة الحكومية دون أن يكون تابعًا إلّا لمرجعه القضائي، وفي سنوات رئاسته توافد على المحكمة مسؤولون من مجالس قضائية وشورية، ووزارات وإمارات وهيئات، وكان الشيخ مع بعض القضاة في استقبالهم والحوار معهم، وآل هذا الأمر إلى علاقات متعاونة مع الجميع، حتى روي عن الملك سلمان قوله حينما كان أميرًا للرياض: طوال العمل مع الشيخ سليمان المهنا لم نكن نعتبر المحكمة والإمارة إلّا جهازًا واحدًا، وهذا تعبير عن التعاون دون تداخل الصلاحيات والاختصاص.

أما حكمة الشيخ فتبدو جلية في مواقف داخل المحكمة وخارجها، ومن أسماها وأشجعها أن رؤساء المحاكم عقدوا اجتماعهم الخامس في المنطقة الشرقية، وتزامن مع اجتماعهم الإعلان عن القبض على خلية إجرامية في مدينة بقيق النفطية، فاقترح بعض الحاضرين إرسال برقية لتهنئة ولاة الأمر بهذا المنجز، ووجد هذا المقترح استحسانًا وقبولًا من المشاركين أو من أكثرهم، فطلب الشيخ سليمان الكلمة وقال كلامًا معناه: نحن قضاة يجب علينا التحري، وهؤلاء سيعرضون علينا في يوم ما، وليس من العدل ولا من الملائم تجريمهم والحكم عليهم بمثل هذه البرقية مسبقًا قبل العرض علينا والوقوف على الوقائع والوصول لحكم تبرأ به الذمة، فتحول موضوع البرقية إلى دعاء بالأمن والحفظ للبلاد والعباد.

ومن حسن إدارة الشيخ المهنا وترفع نفسه عن الصغائر أن محكمة أخرى شاركته في مقره المزدحم أصلًا بأهله ومراجعيه فما ضاق بهم ذرعًا لا رئيسًا ولا قضاة ولا موظفين ولا مراجعين، ومن همته استمراره في الخطابة للجمعة والمواسم بعدة مساجد للرياض حتى أعجب الشيخ الفقيه القاضي عبدالله بن عقيل بخطبه وشكره عليها. ولم ينصرف عن أداء زكاة علمه من خلال دروس فقهية في المساجد المجاورة لمنزله.

وعندما تقاعد الشيخ بعد قرابة نصف قرن من العمل القضائي، آب إلى أسرة يحفها الصلاح والنجاح في البنين والبنات والأحفاد والأسباط، ومنهم دكاترة وحفاظ وقضاة وأئمة للحرم والمساجد وأساتذة للغة العربية ومحامون ومهنيون وشباب نابهون في العلم والدراسة والحياة. ويقضى الشيخ الوقور وقته الآن ما بين قراءة شرعية وأدبية، وزيارات اجتماعية، ومشاركات في المناسبات؛ إذ رأيته يومًا في حفلة زواج، ومرة قريبة في الصلاة على أموات، إضافة إلى تمضية زمن ماتع في المزرعة بعيدًا عن الضوضاء. وليت أن شيخنا وغيره من القضاة المتقاعدين يبادرون لتسطير تجاربهم، ومقترحاتهم، فإن هذا العلم وتلك الخبرة لإرث ثمين تخلده الرواية المكتوبة أو الصوتية على أقل تقدير، ولربما يكون مستندًا للدفاع عن حقبة، أو كشف الشبهات، ودفع الإيهام، ودرء التلبيس.

 ahmalassaf@

الثلاثاء 21 من شهرِ صفر عام 1443

28 من شهر سبتمبر عام 2021م

Please follow and like us:

One Comment

  1. توفي الشيخ سليمان المهنا مساء اليوم الأحد 19 من شهر رجب عام 1443= 20 من شهر فبراير عام 2022م، وستكون الصلاة عليه عصر غد الاثنين في جامع الجوهرة البابطين شمال الرياض. رحمه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)