معرض الكتاب: قيمة وقيم
تسابق محمود ذاك الذي نشهده عربيًا وعالميًا لإقامة معارض للكتاب؛ فالكتاب في أصله شأن فخم، فإذا كثرت مكتباته ومعارضه حتى أصبحت دارًا محلالًا وطريقًا مئتاءً فالعاقبة ستكون حميدة على المجتمع الذي ينشغل جلّ أهله بالعمل والقراءة والحوار المثمر والإنتاج المستمر، ويبتعدون عن توافه الأمور والمناوشات التي تضيع الجهد وتقطع الصلة دون عائدة ترجع على أحد بمصلحة.
ولهذه المعارض قيمة مادية واضحة في البيع والشراء والتسويق، وفيما يترتب عليها من تشغيل مباشر وغير مباشر، وتوظيف دائم أو مؤقت، إضافة إلى قيم أخرى مثل التعريف بالبلدان وأهلها، وزيادة الأنس والمحبة والعلائق بين الشعوب، والجرأة على السفر والزيارة والتجربة، وحساب قيمة الزمن، ومعرفة تفاوت الأسواق والأذواق، ورفع حضور البلد ثقافيًا ومعرفيًا، وفتح العيون والعقول على مخرجات البلدان الأدبية والفكرية والعلمية، والانفتاح على البارعين في العلوم والفنون من أهله.
أما على الصعيد الشخصي فثمت قيم يزرعها معرض الكتاب في زوّاره، ومن الحسن الانتباه إليها لتعزيز أفضلها، وضبط ما يحتاج لضبط منها، وهي ذات أثر ظاهر وخفي على سلوك روّاد المعارض، ومنها:
- الحرية؛ فأنت حرٌّ فيما تشتريه وتبعًا لذلك فيما تقرؤه، والحرية قيمة عليا مع ضرورة تأطيرها بشرائع المولى ثمّ بأنظمة الحكومة وأعراف المجتمع.
- المسؤولية، فالقارئ مسؤول عمّا يشتري وعمّا يقرأ وعمّا يفهم، فهذا من كسبه وعمله.
- السعادة؛ ذلك أن القراءة أحد جوالب السعادة، وسعادة الإنسان بيده غالبًا، ومنبعها داخلي أكثر الأحيان، والعكس-أجارنا الله وإياكم صحيح-.
- الانفتاح؛ ففي المعرض أصناف وأجناس من الكتب والبشر والأنشطة لا يحصيها إلّا الله، وإن الحصيف ليصنع من مثل هذا الحدث فرصة.
- التنوع؛ فالحياة رتيبة عندما تكون على نمط واحد، وما أعظم أثر التنويع في دفع السآمة، والقدرة على الإبداع، وتجديد المدارك وزوايا النظر، وإعذار الخلق، وتسويغ المواقف.
- المرحلية؛ فلكل حقبة زمنية، أو مرحلة فكرية، ما يناسبها من كتب، فلا تعجب إذا وقفت عند كتب لم تكن ترفع بمثلها رأسًا، ولا تستغرب حين تتجاوز أخرى أطلت المكوث حولها زمنًا، فتلك سنة ماضية، والمهم ألّا تكون جنوحًا أو زيغًا.
- الاقتداء بهذه الأسماء المنجزة من المؤلفين والناشرين والمديرين، فلو كانت حياتهم لهوًا لما رأينا ذلكم الكم الهائل من المطبوعات.
- الوعي هو أعظم نتيجة للقراءة وليس حشد المعلومات وحفظ الأخبار والأرقام، فكن واعيًا حين تشتري، وواعيًا حين تقرأ، وأحسن توظيف المعلومة بعد تحليلها وإعادة تركيبها.
- الفردانية فما يعجب غيرك قد لا يناسبك، وما يروق لك ربما لا يهتز له صاحبك؛ فلا تقلّد وكن مستقلًا، وهذه الاستقلالية لا تنفي الاقتداء الصحيح، ولا تعني التمرد، ولا تشجع على السلبية بحال، وكن على حذر من القوائم والنصائح.
- إيقاظ الرغبة ودفع العقل نحو التفكير ثمّ الكتابة أو الحديث؛ فإذا قرأت وفهمت ووعيت وفكرت فاكتب أو تحدث أو بث أفكارك في محيط ملائم، وهذا من زكاة علمك وواجبك تجاه مجتمعك.
- الخلود مطلب إنساني -وشيطاني- قديم ولأجل هذا كثر التأليف وزاد، ويمكنك تخليد نفسك بعمل صالح يبقى سواء في مجال الكتب أو في غيره، ومنها التأليف، ووقف المكتبة، والوقف على العلماء والمدارس، وغيرها.
- التنظيم صنع جميل، نراه في صفوف المعارض ورفوف العارضين، ونلمحه في فهارس الكتب وكشافتها، وتوحي لنا به كثرة المؤلفات التي لم تكن لتوجد لولا أن المؤلف والناشر قد نجحا في إدارة وقتهما وحياتهما.
- اللقاء في المعارض بالأصدقاء، والمؤلفين، والناشرين، والكتّاب، والعلماء، وغيرهم، جميل أنيق، ولتكن اللقيا خفيفة غير مثقلة ولا محرجة، وهي فرصة لتعلم فن الاكتفاء بالقليل.
- الحذر من الانخداع ببريق العناوين، ولوامع الأوصاف، مثل الأكثر مبيعًا، والطبعة المزيدة، أو التي تجاوزت العدد الفلاني، ولنتعلم التريث والتأني والتدقيق ومهارات الفحص السريع أو البطيء.
- لا للندم؛ فأيّ كتاب اشتريته ثمّ ندمت عليه يمكنك إهداؤه أو بيعه أو إنظاره لأجل آخر ربما يطربك فيه، وأيّ كتاب فات عليك فيمكن إدراكه في مظانه، فلا تندم وزد إيمانك بالقضاء والقدر.
- كم من إنسان وشركة وإدارة تعبوا حتى أسعدتنا بافتتاح المعارض، وليس بكثير أن نتعب من أجل إسعاد الآخرين، ومن الطبيعي أن يؤول ذلك إلى مكاسب لنا معنوية أو مادية، فالجهد عليها غير مستكثر.
- تنمية الجدية في النفس من خلال قضاء أوقات في المعرض والمشاركة فيما يصاحبه من ندوات ولقاءات علمية أو مهارية أو حضارية، وبتقليد ذوي المنجزات.
- بعث الحافز الذاتي لصناعة الفرق في يوم قادم وزمن آت وبطريقة مضمونة النجاح، والطريق لاحبة واسعة تنادي على السائرين.
- الذهاب المباشر إلى المصدر يختصر الوقت والجهد ويضمن المصداقية، ونتعلم هذه القيمة من بحثنا عن إصدارات كل ناشر في ركنه الخاص به.
- استيعاب رغبات الآخرين قدر المستطاع، فالكتاب يكون مطبوعًا طباعة فخمة أو شعبية، وربما يأتي على هيئة إلكترونية، أو صوتية، أو مرئية، أو بصيغة برايل، أو ملخصًا، وإن هذا المدار الواسع ليضمن الانتشار وطول موجة التأثير.
- الاعتراف بفضل ذوي الفضل من مؤلف وناشر وبائع ومنظم وغير ذلك حتى لو استفادوا ماديًا، فبعض الخلق مبتلى بصعوبة الشكر والثناء ونسبة الجميل لأهله.
- التدرب على التأمل؛ فالمعرض شارع عريض فيه من كلّ شيء تقريبًا، وإن التأمل والملاحظة وتسييل الذهن مما يساعد المثقف القارئ في حديثه وكتابته وحجاجه.
ومن الفرص المواتية في المعرض أن يُستقصى ماذا يقرأ أهل البلد من خلال أكثر الكتب مبيعًا حقيقة لا دعوى، وأن تكون العدالة والمصداقية والوضوح أساس في أعمال المعرض وخياراته كي ينجع وينفع، فليس الحجب من معرض بكافٍ لحجب شيء، فمن حيل بينه وبين المشاركة بنفسه أو بكتابه أو بداره دون وجه حقٍّ سيجد في الأرض سعة ومنافذ للوصول إلى المتلقي عبر وسائل عديدة، والمعرض من اسمه مكان فيه عرض وطلب، ورواج وكساد، ونشاط وخمول، والله يجعل هذه المواسم والمعارض فرصة لكل مأثرة حميدة، وحسنات متوالية.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 20 من شهرِ صفر عام 1443
27 من شهر سبتمبر عام 2021م
One Comment
رغم أن اليوم كئيبٌ ثقيل جدا على صدري، إلا أن مقالتك مسكتني بشدة مع قميصي لأعلق تحتها، لقد كُتبت قبل عشرة ايام بلياليها عن أهم حدث عالق في ذاكرتي منذ العام الماضي، مشاعر متناقضة تعبث بي، أرزح تحت وطأة الفراغ و أعبث بالقصائد الهزلية، أثقلتني هموم الكتابة، مشاعر الوحدة الغائرة تجعل كل الأمكنة المأهولة فارغه أمامي، من يحررني من قيد المسافات الواهمة، ويساعدني من الانعتاق من قيودها التي أثقلني، بينما اقرأ مقالتك استوقفتني قيمة يزرعها معرض الكتاب في زوّاره، من بينها” اللقاء في المعارض بالأصدقاء، جميل أنيق، ولتكن اللقيا خفيفة غير مثقلة ولا محرجة”
كان اللقاء الأهم والأجمل والأكثر حرجاً في حياتي كلها، العام الماضي تحديداً في السابع من اكتوبر ٢٠٢١..في تمام الساعة الخامسة ومحتضراً عند السادسة مساء..
”ما زالَ في قلبي رَحِيقُ لِقائنا
مَن ذاقَ طعمَ الوصل فلا يَنساهُ!”
كان لقاء جريرياً، و حدث يؤرخ في رفّ الذاكرة، لقاء ومعرض، وموقف كان كله انزعاج وبداية انقطاع وعتب، خرجنا بخيبة أمل، رغم كل ماحدث إلا أننا لم نقبل الهزيمة، او حتى التراجع في المضي نحونا،
مضى ومضيت، ثم بعدها التقينا..
لقائنا ضمّ الشاي المحبب إليه، كانت المرة الأولى التي احتسي بها شاي بهذا الطعم، وبهذا الإتقان، وبهذه المؤاساة العظيمة لعقلي وقلبي، عُدت للفندق ومازال التعب يسكنني، وأصبت بالأرق حتى انبلج نور الصباح، اعتقدت أنه تجاوز الموقف.. لكنه لم يبعث لي رسالة!
كنت أتهجئ الانزعاج الشديد في نفسه، نمت بينما تفكيري وعقلي حينها معه لم ينم! انتهى يومنا بمأساة حقيقية، إلا أنني كنت الطرف الأقوى الذي لا يقبل الانهزام، او الابتعاد او حتى ترك الأيدي دون جواب!
الآن.. معرض الكتاب الثاني على الأبواب اشعر بأنه كئيب، كل شيء لا معنى له إلا معه!
إلا أني لم أعد امتلك الرغبة بالتمسك اكثر!
حاصرتني الحياة بغصتها، وأمام نوباتها العاتية انكسر، مخنوقة كلماتي، تحتضر حروفي، أحاول أن اقتلع جذور المحاولات الفاشلة، اتعبني الانتظار، انتظرته كثيرا.. تصور يا كاتبنا العزيز، أنه فوّت أربعة مواعيد من الانتظار المُحرق ليكون خامسها وآخرها موعد الأمس،!
احباط شديد.. “إن الفرقة عمن نحب تجعل المرء كأنما يتنفس من خَرم إبرة”..