مواسم ومجتمع

مطازيز في بلاد القرغيز!

مطازيز في بلاد القرغيز!

تلقيت دعوة حبيبة للمشاركة في رحلة إلى دولة قرغيزستان، وكان يحيط بتوقيت السفر عدة صعوبات بيد أن الله يسرها بعد استئذان والدتي-شفاها الله وعافاها- للموافقة على السفر، ثمّ قدوم منتظر قبل وقته المحدّد بزمن يسير. ولذا قرأت عن الوجهة المقصودة، وخططت مع الرفقة لتمضية ساعات في الكويت بلد التوقف وزيارة بعض مكتباتها، بيد أن حواجز إجراءات الكورونا حالت دون ذلك مع أن تطعيماتنا مكتملة، وفحوصاتنا حديثة سليمة، والخيرة خفية.

أجواء سبتمبر في قرغيزيا خريفية نهارًا تميل إلى البرودة ليلًا خاصة في جوار البحيرات والأودية التي تشبه الأنهار، وقد زرنا خلال رحلتنا أماكن سياحية برية وجبلية ومائية في العاصمة “بيشكك”، وفي المدينة الجنوبية المهمة “أوش” التي يكثر فيها ارتداء الكمامة وحجاب النساء ويقال بأن أهلها أكثر تمدنًا، وأمضينا أيامًا حول بحيرة “إيسيك كول” الواقعة شمالًا، وهي بحيرة عظيمة الخصائص حسبما أخبرنا أحد الزملاء ونحن في الطريق إليها، وهو طريق طويل يعبر أحيانًا بحدود كازاخستان الطبيعية والصناعية، ويمكن للقارئ الاستزادة عنها عبر البحث الشبكي.

في تلك الرحلة التي استمرت تسعة أيام تعرفت إلى كرام ذوي مناقب ومهارات، وقرأت ثلاثة كتب من الستة التي صاحبتني، وأنهيت كتابة ثلاث مقالات، ووضعت أفكارًا طرأت خلال سماع الأحاديث والحوارات، وحال التنقل والتأمل. ولعلّ فارق التوقيت مع السعودية الذي لا يتجاوز ثلاث ساعات قد نفعنا لاستثمار الوقت، إلّا أنه أضاع النوم المبكر خاصة حينما يصرّ أحدهم على نقاش أمر يمكن تأجيله إلى ما بعد العودة والحديث حوله مواجهة، وإن صاحب الحاجة لملحاح لا يراعي فوارق التوقيت أحيانًا، ومجانية الفيس تايم حجة تكفي عند بعضهم؛ مع أن المسألة أعظم من مجانية اتصال إذ أن قيمة الوقت واستصحاب الحال أمران لهما تقدمة وأهمية.

لاحظت في قرغيزيا عودة صادقة إلى دين الله، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم السنة المحمدية الشريفة التي ظهر أكثر حفاظها من تلك الديار. وفيها انجذاب شعبي نحو اللغة العربية وحرفها الذي كانت تكتب به لغتهم قبل خمسة وسبعين عامًا، ولديهم حرص على الدعاء الذي يجري على الألسنة دونما عناء ويفرح به سامعوه. ولفت نظري سعيهم للابتعاد عن كلّ ما يذّكر بالروس والحقبة السوفيتية المظلمة، وإن الطريق لطويل حتى يستعيد القوم هويتهم التي سعى مجرمو البلاشفة لطمسها بالقهر والتنكيل فلم ينجحوا، ولو أطلّ لينين وستالين اليوم على هذه البقاع من قبورهم لقالا: ليتنا كنا مسلمين، أو ماتا كمدًا وغيظًا!

ويعود الفضل بعد تقدير الله إلى جهود عديدة على رأسها احتضان الجامع الأزهر لعدد من طالبي العلم القادمين من تلك البلاد، ونشاط المصريين في التدريس بمعاهد الشريعة واللغة هناك وهي قوة ناعمة تحسب لمصر ولمن سبق إليها فهي متاحة مشرعة أبوابها. ويضاف لهذه الجهود أعمال مباركة قديمة تُنسب لرابطة العالم الإسلامي وعسى ألّا تندثر أو أن تجد من يكمل مشوارها من أخيار أيّ بلد. وللسعودية حضور بواسطة منح الجامعات وليتها أن تزيد، وكذلك الشأن بالنسبة لماليزيا وتركيا والكويت التي اختط الخيرة من أهلها لهم مسارات عمل بديعة في قرغيزيا.

بينما يسعى الجوار القرغيزي عبر كازاخستان شمالًا وأوزبكستان جنوبًا للتعاون مع البلد المقبل على الحياة والتنمية، خلافًا للحال مع الصين الجارة الشرقية الكبيرة التي تضطهد مواطنيها مسلمي الإيغور وتؤذيهم في ذات الله؛ ولذا تخشى من جوار إخوانهم في الدين والعرق واللغة والتاريخ والله يعجل لهم الفرج والظفر. وبالمقابل تنظر قرغيزيا بعين الحذر والريبة لأيّ محاولة استثمار تجاري صيني في بلادهم؛ ذلك أن النهج الصيني التجاري اكتساحي يمتصّ الخيرات حتى آخر رمق أو قطرة.

وفي قرغيزيا سفارة سعودية مشهود لها بالتعاون وجميل التعامل، ومساجد قديمة وحديثة يغلب عليها النمط العثماني، وحدائق كثيرة مليئة بالشجر والورد، ويحيط بكل واحدة ممشى جميل. وفي نهاية الأسبوع تزداد احتفالات العرس والختان في صالات مغلقة، وهي بالطبع تختلف عن وقار مجالس العزاء المقامة في الهواء الطلق. وفيها مزارع ذات فواكه تتدلى حتى لكأنها تقول للسائرين بجوارها التقطوني! ومما سمعناه من بعض العرب أن المزارع تباع لغير المواطن بأسعار مناسبة وحركة الشراء تتجه نحو النمو. وفي هاتيك البلاد خيام قرغيزية مميزة، وعسل بأنواع مختلفة، وأسعار تفضح الجشع في العسل وغيره من البضائع، وبعض العسل القرغيزي مشهور بمعالجة ضيق التنفس عند مرضى الحساسية والربو، ومنه ما يجلب المسرات إلى النفس والخاطر، ويكفيك من طعم حلاوته، ومن دعوى آثارها الحقيقية أو المتخيلة!

أما الشعب القرغيزي الذي يعود لعرقيات أغلبها تركية ولذا فلغتهم لهجة متفرعة من التركية، فيمتاز بحسن التعامل فما أكثر قولهم “رحمت” التي تعني شكرًا، إضافة لترديد جملة طويلة تشتمل على الدعاء بالرضى من الله. ومن سماتهم الهدوء، وعزة النفس، وقلّما يظهر شباب البلد من الجنسين بملابس فاضحة أو مناظر مقززة قياسًا على عقود عاشتها بلادهم تحت جور الروس الشيوعيين من ناحية، والأرثوذكس المتعصبين من ناحية أخرى. وتمتاز قيادتهم للسيارة بالانتظام والسكينة حتى مع ضيق الشوارع وكثافة الحركة المرورية أحيانًا، ولفت نظري أن جندي المرور أوقف سائقًا وأمره بلبس حزام الأمان دون أن يفرض عليه غرامة مالية مع أن البلد غير ثري، والأمن مع الهدوء سمة بادية في ديارهم أدام الله لهم الأمن والإيمان ولجميع المسلمين.

وهم يحبون العرب خاصة أولئك القادمين من جوار مكة والمدينة، ولا يستغربون من الأزياء الخليجية، ويسعون لجعل بلادهم وجهة سياحية للعرب والمسلمين، خصوصًا من محبي الطبيعة والبراري والصيد، الباحثين عن المتعة الحلال، والبهجة البريئة. وأتصور أن المستقبل سيشهد طفرة سياحية إذا أحسنت حكومتهم الاستعداد لها بالمساكن وألعاب الأطفال والمرافق الأخرى، علمًا أن النقل متوافر عبر تطبيقات محلية وشركات السياحة وحافلات تسير الهوينا على الكهرباء وترتبط بأسلاكه، ومطاعمهم نظيفة المكان لذيذة الطبخ عديدة الأصناف.

لذلك سيجد المسافر اليغمش والمنتو على أصولهما، وقد يتذوق الجريء طعم لحم الحصان وحليب الفرس، واللحم مستساغ نوعًا ما، وأما الحليب فخلاف ذلك ولا أظن إقبالهم عليه إلّا رجاء ما ينسب له من دفق طاقة وحيوية ونشاط! وللخبز القرغيزي الدائري الحار إغراء لا يقاوم، ومن المؤكد أن للعسل القرغيزي الوفير والرخيص حظوة لدى الذواقة، وأما اللحم فهم أكلة لحوم حتى شاعت لديهم مقولة فحواها أن القرغيزي ثاني آكل لحم على الأرض بعد الذئب!

في تلك الرحلة ظهرت مهارات الطبخ والتعامل مع المطبخ، فمن قهوة آسرة مهيلة كانت أم غير ذات هيل، إلى ذلكم الشاي المصنوع على حطب بمذاق يسقط أيّ منافس، علمًا أن شعب القرغيز دأبوا على شرب الشاي في وعاء الشوربة، وهو مثل الشاي المعروف لدينا، وعندهم شاي أخضر من زهور. وأما فطورنا فمتنوع وإن نسى بعض الصحب أنهم أكلوا الشكشوكة وقسموها -شكشوكة بالدارج السعودي لا السوداني-، وختام اليوم يكون مع الفاكهة الطازجة التي يجد الفم لذاذة طعمها، والأنف زكاة رائحتها، وتخطف العين مناظرها، وتأنس اليد بتقليبها، ولربما شاركها شيء من المكسرات والصنوبر وحبَّ القرع، وللقرع والبطيخ بأحجامهما الكبيرة حكاية في رحلتنا، والحمدلله أن جعل لهما إلى البطون طريقًا بعد عناء الانتقال من مكان إلى آخر!

ومن وجبات السفر التي أعدها بإتقان قسم من فريق الرحلة بقيادة الأكبر سنًا وقدرًا وجبة “المطازيز”، وهي وجبة سعودية نجدية شهيرة، ولها عند بعض الديار اسم آخر هو “القبابيط” مع أن الأول أوسع استخدامًا، ولها أخ اسمه “المرقوق” وبينهما فروق. وما أطعمها من وجبة فوق بساط أخضر، وبجوار شجر كثيف منه يحتطب، وعند نهر من الماء يجري، وترى خلفك الجبال بقممها الثلجية، ويحيط بمجلسك دائرة مشتعلة على حطب فيها لهب وجمر ورماد.

ثمّ يسامرك قوم أحاديثهم شفاء، وتعليقاتهم لا تعاب، ومشاركاتهم لا تنقطع ولو بإذكاء النار نفخًا من ثوب أو بقطعة من ورقة مقوى، وتعبر أمامك بين فينة وأختها مجموعات من الخيل الآسر مشهدها، وقطعان من البقر والضأن، ولا تجد للحشرات أثرًا، ولعل السر يعود إلى برودة الجو مع حرص الشعب الراقي على تنظيف أماكن النزهة قدر المستطاع، ونحمد الله أن حمانا من الحيوانات المفترسة التي تكافئ الحكومة من يقتل أيّ ذئب منها بستين دولارًا، وهو ما يعادل خمسة الآف سوم في عملتهم المحلية تقريبًا.

من طرائف المطازيز التي سمعناها ونحن نستعد لالتهام تلك الوجبة الساخنة مع الأجواء الباردة أن رجلًا كريمًا من القصيم ذهب لبيته في سورية ذات إجازة، فدعى جمعًا من سراة المنطقة التي يسكنها إلى العشاء، وصنع لهم بنفسه قِدرًا كبيرًا من المطازيز مع الخضار واللحم، ووضعه في آخر السفرة العامرة بالطعام الشامي المستطاب، بيد أن ضيوفه انجذبوا لشكل الوجبة الجديدة ورائحتها وأدخنتها التي تنم عن سخونة شهية، فانقضوا عليها تاركين وجباتهم المعهودة، وبعد الفراغ منها حتى كأن لم تغن قبل ساعة سألوا مضيفهم عن اسمها معبرين عن استمتاعهم بأكلها، فقال لهم: اسمها مطازيز! فتناظروا مستغربين حتى قال أحدهم بلهجته المحلية: شو ما أطيب طعمو وما أبشع اسمو!

يا رعى الله تلك الأيام والليالي بل تلك اللحظات والدقائق التي مضت في الواقع ولما تزل راسخة في الخيال والذكرى، فما أبهى الرفقة مجتمعة أو منفردة بجميل الأحدوثة وعذب الشعر الذي يلهمه المكان والشوق والسمر وشروق شمس الصباح أو غروبها بعيد الأصيل، فكيف إذا كانوا ما بين حافظ وشاعر ومسفار وخبير وذي معارف وصاحب مرويات وأديب وذوو خدمة وسماحة نفس وسجاحة روح، حتى قفلنا إلى مرابعنا بعود ميمون، في رحلة رجالية صرفة وإن شاركتنا بخبرها شخصية وهمية محسنة مصلحة اسمها أم أحمد!

وما أطعم الحكاية بعد تذكرها، وتلك الضحكة الهادئة المنبعثة من أعماق قلب طاهر، أو المجلجلة من وجدان يتفاعل بلا تواقر مصطنع ثقيل، وما أحلى لهجة حائل وهي تروي وتخبر، وآنق قولهم “عز الله” و “سمعت أو لا”، وما أحسن تلك الكفّ المرفوعة لتعانق أخرى على سبيل الموافقة، وما أوقع الشعر وهو يُلقى، وما أثمن الصور المتداولة ثابتها ومتحركها، والتسجيلات الصوتية المرتبة أو العفوية، وتلك القفشات التي تؤكد على أن الامتزاج كان في درجة عالية بين أقوام لم يعرف بعضهم بعضًا قبل أيام القرغيز سقاها الله بكلّ أمن وسكينة وخيرية وجميع ديار المسلمين والمسالمين. 

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الجمعة 17 من شهرِ صفر عام 1443

24 من شهر سبتمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)