صلاح الحجيلان: المحامي الأول
لست أحدّثكم عن رجل سمعت به أو قرأت عنه فقط، بل عن إنسان جلست إليه ساعات متوالية في ليالٍ عديدة، مستمعًا لما يقوله مستمتعًا به ومستفيدًا منه، أو متحاورًا معه على انفراد أو بحضور آخرين. وخلال هذه العلاقة التي لم تتجاوز سنّ الفطام قرأت عنه، وسألت عارفيه منذ القدم، وتابعت لقاءاته الصحفية والتلفزيونية وما كُتب عنه من أخبار، والله يعلم أنه رحل حين رحل وأنا لما أبلغ مرحلة الفطام والاستغناء عن إكمال تلك المسيرة معه بعد؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ذلكم هو المحامي الرمز، والرجل الكبير الأصيل، الشيخ النبيل صلاح بن إبراهيم الحجيلان ( 1359-1442=1940-2021م)، الذي ولد وعاش سنوات عمره الأولى بمصر، ومنها تحصّل على درجة البكالوريوس في الحقوق، وزامل عددًا كبيرًا ممن أصبحوا من رجال الدولة في المملكة وغيرها. وحين عاد لبلاده عمل في ديوان رئاسة مجلس الوزراء في منصب رفيع، ومسمى وظيفي فخم، وقرب لمثله يُسعى، ومستقبل مضمون؛ فكلّ الذين معه غدوا من الوزراء، ولبعضهم حضور ضخم مثل الشيخ أحمد زكي يماني، والدكتور مطلب النفيسة، وغيرهما.
مع ذلك كان الشاب القانوني يجد في نفسه انجذابًا تجاه المهنة التي درس علومها، وانغرس شغفه بها منذ أن رأى أخاه الأكبر الشيخ جميل عاكفًا في منزلهم بمصر على كتب القانون ومدوناته، ثمّ أنصت له وهو يقرأ بصوت جهير فلفت انتباهه جرس النغمة، وبهره الأداء، وجذبته الكلمات والتعابير؛ فشعر بعظمة هذا الدرس، حتى صار أحد طلبة مدرج كلية الحقوق بجامعة القاهرة وهي الأشهر في العالم العربي حينذاك، وازداد تعلقه بموضوع دراسته من وجود الأسماء الكبيرة التي ألقت دروسها بنمط مسرحي رزين أمام مئات الطلبة، وكأنها تعزف بتناسق وترتيب، فتكامل أداؤها بإتقان لا يمجّه ذوق، ولا تتقحّمه عين، ولا تستثقله أذن، ويحار في إبداعه العقل.
لذلك قرر الاستقالة المبكرة من عمله العالي دون التفات للنصائح المشفقة ممن حوله؛ إذ كيف يترك وظيفة مرموقة تسير به نحو الوزارة في الغالب، ويذهب إلى بديل غير مضمون بل غير معهود ولا معروف في بلاده! ولكنه أخذ شرف المبادرة والابتداء، وخاض المغامرة بفروسية وعزم، حتى نال ترخيصًا انفرد فيه بالأوليّة، وبتوقيع ثمين من الملك فيصل، وشقّ له وللسائرين خلفه طريقًا ليس غير مطروق فقط؛ بل فيه عقبات، ومطبّات، وإشكالات راسخة وناشئة، بعضها معقولة وقسم منها غير مفهومة!
فكان من إلهام الله له وتوفيقه أن سلك منهجًا فريدًا داخل هذه المهنة الجديدة بذاتها، ويقوم منهجه هذا على المحاماة الوقائية؛ بمعنى اتخاذ إجراءات وتدابير استباقية في التعاقد والاتفاق تحول دون نشوء الخلاف، أو حدوث غبش في الفهم بين أطراف العملية التعاقدية. ولم يكتف المحامي النشيط بذلك بل إنه بعد حينٍ نهض إلى تكوين مجتمع عربي متماسك متعاون يتولى أعمال التحكيم، وربط بين دول عربية كثيرة وأخرى أجنبية في هذا المضمار الذي يريح المحاكم، وينزع فتيل الخلافات قبل اشتعالها، ويزيد في سرعة أعمال الرواق العدلي ورشاقتها.
أما خلال عمل الشيخ في مكتبه فقد أعانه الله على توظيف خبرات فيها الكبار والمتقاعدون من أساتذة القانون والفقه في مصر على وجه الخصوص، ثمّ توسع بشراكات أجنبية عالمية، وغدا مكتبه هو الأول، والأكبر، والأكثر في عدد المحامين، والوحيد الذي يعمل فيه محامون من بريطانيا وأمريكا وكندا وغيرها، وهو المنفرد بعقود دائمة مع شركات عالمية مؤثرة، وسفارات مهمة، وليس بكثير عليه عقب ذلك أن يصبح صاحب المرجعية الموثوقة المشتركة في الداخل والخارج من الحكومات والشركات ورجال المال والأعمال.
ثمّ إن الشيخ فوق ذلك استقطب في مكاتبه بالرياض وجدة والخبر عددًا من الشباب السعودي منذ نصف قرن وحتى يومنا هذا سواء بعمل دائم أو جزئي، والعجيب اللافت أن أحاديث القدماء منهم عن الشيخ صلاح وعن مكتبه لا تفترق في المضمون والدلالة عن أقوال المعاصرين، والأوائل منهم أشياخ تصل أعمار بعضهم إلى السبعين، والأواخر شباب دون الأربعين، مما يدل على منهجية واضحة التزم بها المحامي الحجيلان، وثبتها في مكتبه ونُظُم العمل فيه، ولم يجفل من افتتاح بعضهم مكاتب خاصة بهم بعد مدة من الزمن، بل سرّه ذلك وصار مكتبه منجبًا للمكاتب الأخرى.
ويشهد هؤلاء وهم أحياء متوافرون وسيقرأ بعضهم هذه المقالة -وأنا معهم من الشاهدين- أن الشيخ صلاح كريم للغاية، سخي دون تردد، والجلوس معه مفيد مثمر، والعمل تحت ظله يوازي الدراسة في الجامعة، إذ يسأل ويحاور ويجيب برقي وعمق وهدوء، والمغنم الحاصل بعد ذلك للأطراف المتعاملة معه يشمل علمًا وأسلوبًا ومنطقًا ولغة، فهو ينظم الكلام كما لو كان يصفُّ حبات لؤلؤ نفيس في خيط من نور، ولو اضطر لإيراد كلمة قوية فلن تعجزه طريقة اختيارها، ولا كيفية صياغتها، ولا سبل سياقها. وقد لاحظت تعامله الأبوي مع الموظفين الشباب في تحنانه ونصحه لهم فكأنهم أبناء له، بل صرف الأموال بلا منّة في سبيل دراستهم اللغة الإنجليزية، أو مشاركتهم في برامج تدريبية.
أيضًا مما قالوه أن الخلاف معه أحسن خلاف يمكن أن يكون، فإذا حصل خلاف فإنه يبدأ وينتهي بلا مخاشنة ولا إساءة، وتمر الأيام والسنون فلا يتغيّر الشيخ على خصومه إذا التقاهم، بل إنه وظف بعض أبنائهم وأحفادهم في مكاتبه، وتولى الدفاع عن قضايا لهم في حياتهم وبعد مماتهم. وسمة الوفاء ظاهرة في الشيخ صلاح حتى في أصعب المواقف، ويكفي ما رواه د.غازي القصيبي في سيرته، وملخصه أنه حين أُعفي أتاه عرض مفتوح من المحامي الحجيلان ليكون شريكًا له في مكتبه، وقلّما يفعل الناس ما هو أقل من هذا مع من يُقال من منصبه الكبير، علمًا أن القصيبي زميل دراسة للحجيلان في كلية القاهرة وإن كان من دفعة أسبق منه. ومن وفائه وحسن العهد لديه حبه الكبير للشيخ محمد النويصر، ولزميله في الدراسة والعمل د.مطلب النفيسة، وإشادته بمواقفهما معه.
كذلك كان من عناية الشيخ صلاح بمهنة المحاماة أن سبق إلى أوليّة ربما تكون فريدة، فكل نسله المبارك من المحامين سواء أولاده الثلاثة حسام وسلطان وفارس، أو ابنته الوحيدة حنين. وهو يعرف بنيه جيدًا، ويعي ما امتازوا به من خِلالٍ ومهارات، ولهم في قلبه وداد كبير ومحبة غامرة، ولأحفاده منهم الحب والسرور برؤيتهم وقضاء الوقت معهم. وأما حنين فلا يذكرها إلّا وهو طروب باسمها ولا غرو فكلّ كريم طروب، ويظهر الفرح بوجودها في حياته، ويعلن بلا مواربة شوقه للحديث المباشر معها ورؤيتها خاصة بعد توقف رحلات السفر على إثر نازلة كورونا.
بينما حظي الشيخ صلاح بعلاقات محلية وإقليمية ودولية واسعة جدًا، وله صور مع زعماء وأسماء كبيرة في العالم سياسية وثقافية ومجتمعية وتجارية فضلًا عن صلاته المتينة برجالات الفقه والقانون. ومن قائمة الأسماء غير المحلية الظاهرة في الصور معه رؤساء وأمراء لأمريكا وفرنسا وبريطانيا وما سواها من بلدان عربية وأوروبية. ونتيجة لجهوده الكبيرة منحته ملكة بريطانيا وسامًا رفيعًا، وهو أول عربي ينال هذا الوسام بعد موافقة الملك فهد ومباركته لقرار المنح من قبل الملكة.
كما اشتهر عن المحامي الشيخ صلاح الحجيلان كثرة الولائم والمناسبات الاجتماعية، ولذا فليس عجيبًا أن يكون لديه في منزله مطبخ عامر بطباخين مهرة متقنين، وأن تكون سيدة البيت بارعة بارزة في هذا الفنّ إضافة إلى غيره من المكارم الأخرى، ومن جلس على مائدة الشيخ ولو مرة واحدة يعلم ذلك علم اليقين. ومن أشهر مناسباته تلك التي كانت عقب إصلاحه بين الأمير طلال والدكتور القصيبي على إثر خلاف نشأ بينهما، لأن علاقته الوثيقة بالرجلين مكنته من أن يسعى مجتهدًا في الصلح، ولم يهدأ له بال حتى تحققت الغاية المبتغاة، وما أعظم أجور المصلحين.
وقد امتاز الشيخ صلاح الحجيلان برزانة عميقة، وبُعد نظر، وقدرة على التحليل والتنبؤ، مع وزن الكلام بميزان دقيق، وسوقه بلحن بديع في الحديث، ونغمة آسرة في النطق، وله فوق ذلك كلمات جامعة ربما أستعرضها في مقالة قادمة. كما أنّ له سيرة تحت التدوين لم تكتمل لأنه لم يوافق على الاستعجال بها كي لا يصدرها قبل صدور سيرة أخيه الأكبر الشيخ جميل الحجيلان توقيرًا له وتبجيلًا، وما كنا نعلم عمّا يخبئه القدر، والله يجعل الأمر إلى خير له وأجر وذكر.
أيّ حزن أحاط بي إحاطة الغلّ البغيض والقيد الموجع حينما بلغني عصر الجمعة خبر رحيله المفاجئ الفاجع صبيحة هذا اليوم؛ حتى فزعت لمن حوله فأكدوا لي النبأ وكنت آمل تكذيبه، والله يعلم أني شريك في الحزن والألم لعقيلته النبيلة صفية بنت سليمان الحمد السليمان، ولأبنائه الناجحين حسام وسلطان وفارس وحنين، ولأخويه الوزير السفير الشيخ جميل، والسفير الأستاذ محمد، ولأختيه الكريمتين نجدية ووداد، ولبقية أسرته ومحبيه وموظفيه، ولي غير هذه الشراكة نوع خاص من الأسى على انقطاع الأحاديث معه، ونهاية سماع سيرته ومسيرته وآرائه قبل استكمالها.
فلشيخ المحامين وعميدهم منّا وممن يقرأ الدعاء بالرحمة والعفو والرضوان مع ساعة الإجابة في يوم الجمعة وفي كل زمنٍ وآن، وله دعوات أخرى حينما نصلي عليه ظهر يوم غدٍ السبت قبيل دفنه في مقبرة شمال الرياض، فاللهم اغفر لأبي حسام وتقبّل منه أحسن الذي عمل، وتجاوز عمّا سوى ذلك، واعظم له أجر نقاوة القلب، ونفع الناس، والكرم والعون والتعليم، والحرص على العدل مع كلّ أحد، وفي كلّ حال، وبكلّ مكان، ولأي شأن.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 09 من شهرِ شوال عام 1442
21 من شهر مايو عام 2021م
4 Comments
قرات هذه المقالة عن هذا الشيخ الجليل المرحوم صلاح الحجيلان .رحمه الله وغفر له واسكنه فسيح جناته. واقول لااهله ومحبيه احسن الله عزاكم وجبر مصيبتكم . واعظم اجركم . وغفر لميتكم . انسان من نوعه يتوفاه الله . ولكن تبقى اعماله الجليلة حية لا تموت . كثر الله من امثاله .
اللهم آمين، غفر الله له.
إنا لله وانا اليه راجعون
اللهم اغفر له ورحمه و أبدله داراً خيراً من داره واهل خير من اهله . فعمل ابن ادم الصالح كفيل بفضل الله ان يكون سبب لمغفرة الله له . فجميع ما يقدمه ابن ادم من عمل صالح في هذه الدنيا لا يعادل نعمة البصر فكيف بأنعم الله جميعاً .
اللهم انا نسألك ان تعاملنا برحمتك لا بعدلك
اللهم آمين