سير وأعلام عرض كتاب

من ذاكرة عبدالله بن عبدالمحسن الماضي

من ذاكرة عبدالله بن عبدالمحسن الماضي

هذا الكتاب شاهد صدق لمجتمعنا، عنوانه: من ذاكرة الزمن، تأليف عبدالله بن عبدالمحسن بن محمد الماضي، صدرت طبعته الثانية عام (1436=2015م)، ويقع في (511) صفحة مكونة من إهداء ومقدمة للطبعة الثانية فتقديم ومقدمة ثمّ توطئة، يتبعها سبعة وعشرون عنوانًا تبين عن محتواها، وتختلف في أحجامها، وفي الكتاب صور ووثائق ومراسلات، وقد أهدى المؤلف كتابه لأبنائه وبناته وأحفاده، وخطّه متعبدًا لمولاه بالشكر على نعمائه وآلائه، وللمؤلف كتب أخرى يُروى أنها تُهدى لزوار مجلسه العامر في منزله المعمور، وبعضها ذو قيمة تاريخية ومرجعية عن زمن مضى، او عن تاريخ أسرته النابهة.

أشار المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية إلى أن هذه الطبعة مختزلة من مسودة تجاوزت ألف صفحة بعد حذف جزء، وحجب آخر، وتطوير الطبعة الأولى من الكتاب بالتعديل والإضافة. ثمّ قدّم للكتاب ابن عمه عبدالله بن سعد الماضي في بادرة تصف صلة الرحم ووداد ذوي القربى، وتُبقي على الألفة، وتقديمه رائق للغاية بصياغة من نجله مساعد. وفي التقديم إعذار للمؤلف وابن العم عمّا يجده القارئ من ثغرات بسبب الحجب الذي تمنى كاتب التقديم أنه لم يطل خبرته الوظيفية التي بلغت نصف قرن؛ فالخبرات والمواقف ثروة يستفيد منها القراء، وهو الأمر الذي تمناه المؤلف في مقدمته معتذرًا عن البتر الذي اضطر إليه من أصل المذكرات البالغ أربعة وأربعين فصلًا.

استهل أبو عبدالمحسن ذكرياته بالتعريف بأسرته العريقة ورموزها إذ أنهم أمراء “حَرْمَة” منذ تأسيسها قبل قرون، فتدوين المآثر مطلب ملح للأجيال، وفي آخر الكتاب توقف مع تجربة صندوق أسرة الماضي التي اقترحها، وسعى لإنضاج الفكرة، وتطبيقها، حتى صارت واقعًا بمثله يقتدى. ولأن الرجل يحب بلدته “حَرْمَة” خصها بحديث العاشق الصادق، العارف بتاريخ المحبوب ومكانه وأناسه ونخيله، والساعي في مصالحه العامة بماله وجاهه وفكره ووقته دون منّة أو كلل، وهو في هذا الأمر مثل الشيخ عبدالعزيز العبدالعزيز المنقور لحوطة سدير، والله يكثر فينا من يخلص لخدمة بلدته وأهله دون تعصّب؛ لأن المجموع بهذه الطريقة سيقوى بقوة آحاده، ويغدو مثل البنيان المرصوص.

ولم يكتف الرجل الكبير بخدمة البلدة التي ينتسب إليها، وإنما شملت مساعيه بلدة الأرطاوية أرض ميلاده وطفولته وصباه الباكر، وما أجمل الوفاء من خُلق ينبئ عن نبل ونفس أصيلة ومحتد كريم، ومع الأرطاوية امتدت جهوده لخدمة حفر الباطن التي استوطنها جمع من أقاربه وأهل بلدته، ولا أدلَّ على عظيم نهوضه المتتابع تجاه هذه المحافظة المهمة الناجحة تجاريًا من أنه أعطى لمحافظها الأوراق التي كاتب بها المسؤولين والوزارات لصالح حفر الباطن؛ فأصبحت هذه الأوراق خير معين للمحافظ ابن جبرين في مراجعاته الحكومية.

وفي الكتاب قصص أسرية من الرحمة والبر والصلة، تجاه الشقيقة والإخوة والأخوات لأب أو لأم، وتجاوزت هذه الصلة محيطه القريب لتعم الأسرة في أيّ مكان، ومن بدائع المرويات ما ذكره عن سفره إلى العراق عدّة مرات لاسترجاع أرملة ابن عمهم وابنتيه ممن سكنوا في “الزُّبير”، وهي رحلات مضنية متعبة، ولم ينس فيها الثناء على موقف الثري المحسن عبدالقادر المهيدب. ومن الموافقات أن يكتب الله له الاقتران بإحدى تلك الفتاتين بعد استفتاء الشيخ محمد بن إبراهيم، وتتزوج الأم والبنت الثانية من رجلين آخرين؛ مما أسعد ذوي المرأة المترملة حين زارتهم مع ابنتيها والمؤلف.

كما لا تخلو ذاكرة الأديب من أحداث موجعة، مثل بعض الوفيات المبكرة أو المرتبطة بالولادة أو بحوادث السيارات وهي كثيرة تفجع القارئ، ومن أعجبها أن رجلًا من أقاربه توفي في حفر الباطن، فسعى المؤلف لإخطار نجله في الدمام كي يشارك في تجهيز والده الراحل، ويا لهول الخبر الذي سمعه بأن هذه الابن قضى نحبه في حادث سيارة قبل ساعات من وفاة والده! وارتبطت بهذه الحوادث ذكريات علاجية داخل المملكة وخارجها، وسفر، وتعاون مع أمراء ومسؤولين لعلاج المصابين.

أيضًا أبان المؤلف عن طَرفٍ مما يجري لغالب الأسر من خلافات على الإرث أو بسبب جهالات الأطفال، والحقيقة أن بعض الشروخ العائلية-عند جميع الأسر- تنجم عن تشاكس أطفال يتراضون وينسون، أو بسبب تفضيلات نساء يتغاضين عن أيّ موقف صادر من أخواتهن ويقمن الدنيا ولا يقعدنها لو كان الفاعل من أهل الزوج، وليس الخطأ عليهنّ وحدهن، بل على الرجال الذين استأخروا عن مواقع القيادة، وتركوا الحبل لهنّ على الغارب بما حباهنّ الله من عاطفة فيّاضة، ونظرٍ قلّما يطول أو يستبصر المصير.

وعودًا لآل ماضي، فقد نجم بينهم كلام بسبب الإرث، فتدخل قاضي سدير الشهير الشيخ عبدالله العنقري، وبعث لهم أربعة رجال حكماء كي يصلحوا الأمر قبل استفحاله، ومنهم واحد لا يبدو من أهل العلم وإنما هو رجل مسنٌّ مصلح محب للخير، ومن درر ما كتبه الشيخ العنقري لهم ناصحًا إياهم بالتجاوز والملاينة: “والطفاس ما يعني أحد…من أراد الله له بركة اغتنى، ومن انتزعت منه البركة لو يجيه أودية تمشي ما نفعته”، وقد نفع الله بنصيحته المخلصة، وأتمت الأسرة تقسيم إرثها بوفاق واتفاق.

مما يلفت النظر ثناء المؤلف على أثر المجالس في تنشئة الصغار، وزيادة معارفهم وعلومهم، وتفتيح أذهانهم والتسريع بإنضاجهم، وله في هذا تجربة بملازمة مجالس أخيه لأمه محمد بن عبدالله العبدالكريم، وهو مجلس عامر بالأحاديث والأخبار، متنوع في الحضور والسمّار، حتى صار المجلس بما ومن فيه للطفل والفتى بابًا خفيًا لعالم كبير يختلف عن عالمه الصغير، وقللت من فرص اللهو مع الشباب، وهي لفتة مهمة للقادرين بأن يفتحوا مجالسهم، ولو يومًا بين العشائين دونما تكلفة، شريطة مشاركة الأطفال والشبّان فيها.

كذلك لا تغفل هذه الذكريات الماتعة عن مواقف تقدير حفظت لأصحابها ذوي الشيم، ومواقف انتقاص وغمز عبر من عندها المؤلف بما يُفهم من سياقه دون جرح مؤذٍ لمن تولى كبره ونفخ في كيره الكريه، وعرّج على وقائع طريفة من الصغر له أو لآخرين، ومن أعجبها قصة بين اثنين رفض المظلوم فيها العفو عن ظالمه عندما كانا صغارًا مع كثرة الشفاعات المبذولة لتحقيق ذلك، وطول العهد على المظلمة، بل وتمنى أن يموت هو قبل ظالمه كي لا يرق قلبه فيصفح عن ظالمه لو رحل من الحياة الدنيا أولًا!

كما يوجد فيها مواقف طريفة من عبث الطفولة أو ما بعدها، مثل تعاونه مع صديق له على إطالة الظلّ بوضع خشبة داخل مجرى المرزام، أو تبكير آذان العصر، كي ينهي معلم الكتّاب الدرس،  ومنها سيارته الخشبية التي أعطبها طفل ورفض الاعتذار حتى بعد مرور ست وخمسين سنة على الإعطاب! والسعادة التي غمرت قلب الطفل وهو يمتطي ظهر الحمار، واللباس الغريب الذي وفد على الأرطاوية فتمنى الطفل أن يحظى بنصيب منه؛ فحال الفقر دون حصول الأمنية، بيد أن الكريم ابن عم والدته وهب اليتيم “فنيلة” مجانًا.

ومن المواقف التي تحبس الأنفاس أن المؤلف دخل إلى ثلاجة ضخمة فانغلق بابها عليه، وظلّ مرتهنًا تكاد أن تختنق أنفاسه، وتُفتلت نفسه لولا أن الله ألهم رئيس العمال بفتح باب الثلاجة بعد أن سمع صوتًا مريبًا ينبعث منها، وكأن الرجل ينبعث من مرقده بعد فتح الباب. ومرة أخرى أنجاه الله من الموت على يد متهور يحمل الرشاش ويفقد جزءًا كبيرًا من العقل، ومثلهما ضياع طفلته حتى رآها إخوانها الصغار على شاشة التلفزيون. وفيها واقعة عجيبة إذ كُلف بحراسة سيارة متعطلة، فحاول إصلاحها حتى نجح، ثمّ تجرأ بتحريكها وإيصالها لمقر شركته دون أيّ خبرة سابقة في قيادة السيارات، ولذا استثمرته شركته في القيادة، وتعلّم ذاتيًا حتى استخرج رخصة قيادة في رمضان عام (1373).

أما مشكلات النقل آنذاك في السبعينيات الهجرية فأكثر من أن تحصى، فالسيارات غير مريحة، وتزدحم بالبشر والدواب والبضائع، والطرق رملية مرهقة كثيرة الغراز، وإذا تعطلت السيارة فربما يقضي الركاب أيامًا في صحراء موحشة ليلًا، وفي قيظ لافح أو زمهرير قارص نهارًا، ومع ذلك فضمن آلامها حكايات لا تنسى، مثل كسر المرآة الثمينة بسبب اتكاء المؤلف عليها، وانسكاب السمن على ثوبه الوحيد بعد انقلاب السيارة، حتى أبدله الله ثوبًا خيرًا منه وغترة أجمل.

ومن أعمق هذه الذكريات دلالة استرجاع مكانة الأسرة من خلال العمل على إسناد إمارة “حَرْمَة” لأحد أبناء أسرة آل ماضي الذين كانت فيهم الإمارة التاريخية للبلدة المنجبة بما فيها من أسر نابهة سردها المؤلف في موضع من ذكرياته وهو ثبت يمكن رجوع الباحثين إليه، ولا غرو فحب الديار ومن سكن الديار محمدة للمحبين. ويقع ضمنها المكاتبات بين أفراد الأسرة، والحمية للضعفة والنساء، وتسجيل التبرعات بأسماء الكبار تقديرًا لهم وتقديمًا وتوقيرًا، وهذا مسلك متجذر في العراقة والأصالة.

وتحوي الذكريات أخبار المساكن والتجارة بالعقار، والعلاقات الوثيقة برموز البلد، والتعاون معها للصالح العام، مع إفراد جزء من الذكريات للنادي الفيصلي الذي يمزج بين الرياضة والثقافة، وللمؤلف وأسرته عناية فائقة به وبأنشطته، وفيها بيان للجهود المضنية من أجل الجوائز العلمية، واقتراح إنشاء هيئة تطوير للمنطقة، والعمل على فتح فروع لأغلب الأجهزة الحكومية فيها، واستضافة وجهاء المجتمع لها ولحفلاتها مثل الشيخ عبدالله بن إدريس، والشيخ د.عبدالله التركي، ود.محمد الرشيد الذي كان للمؤلف معه معاتبة لطيفة لأنه يعتذر ويحضر مرارًا لدى آخرين، وأما أبرز اسمين وردا في مكاتباته لصالح بلدته هما الوجيهان الشيخ عثمان الصالح، والشيخ عبدالعزيز التويجري حيث استشفع بهما كثيرًا.

جزى الله الأديب الوجيه عبدالله بن عبدالمحسن بن محمد الماضي بكل مكرمة وخير حينما كتب بعضًا من مذكراته منذ أن أبصرت عيناه الدنيا في الخامس والعشرين من شهر صفر عام (1355)، وأورد فيها الأخبار والمواقف بقدر من الصراحة، ومزيد من الإمتاع، وزينها بقوله أن أعماله تطوعية لصالح مجتمعه، وانه حينما يسترجع أيامه وحياته بما فيها من آلام ومشاقٍّ لا يسعه إلّا أن يحمد ربه، ويثني عليه الخير كله، ثم يتدبر سورة “الضحى” التي تعبّر عن مسيرته عبر ثمانية عقود، وكانت له مسلاة ومواساة كما هي للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، والله يجعل الآخرة لنا وله ولمن يقرأ خيرًا من الأولى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الاثنين 21 من شهرِ رمضان عام 1442

03 من شهر مايو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)