رمضان: حكومة العام!
يقف شهر رمضان الميمون بين إخوانه شهور السنة، وكأنه حكومة صالحة لهم، اختاروه لمزاياه المتفق عليها، فهو راشد في ذاته، ورشيد في تصرفاته، وموفق في نتائجه، وعظيم في ثماره، حتى عمّت بركته ما قبله وما بعده، ولذلك سبقه شهران لهما قدرهما وإن غفل الناس عن الثاني منهما خلافًا لشهر رجب المرعية حرمته، ثمّ لحقته شهور الحج المتداخلة مع الأشهر الحرم المتتابعة؛ فصار موكبه مكونًا من ستّة يحرسونه بين يديه ومن خلفه، والحمد لله أن جعل شهرنا التاسع هو الأعظم المنتظر، وأودع فيه جمّ الفضائل.
ويقوم رمضان مقام الحكومة الناصحة في شؤون كثيرة، فهو شهر تعليم وتربية وتأديب، وشهر تكافل اجتماعي وتعاون بين فئات كثيرة، وبه تنتفع الصحة العامة بضبط المطعم والمشرب، ولا يخلو من تقوية النفس، ورفع مستوى الاعتزاز بالذات والهوية باسمه وهلاله وأيامه. وخلاله يرتبط الناس بكتاب ربّهم وبعلوم دينهم، وهي المصادر الأساسية لفهم الحقوق والواجبات التي لو التزم بها جلّ الناس لاختفت أكثر الإشكالات، ولمشت الخلائق على الأرض دونما رقيب، وفي ذلك توحيد لمصدرية التلقي، وهي صفة الحكومة بالنسبة لشعبها في الشؤون التنظيمية.
وفيه نفحات تصيّر الأرواح متسامية متآلفة بعيدة عن الخصام، وهذا من غايات الحكومات؛ فالأمن والسكون والتصالح مطلب أساسي. ومن إجراءات رمضان الأمنية مع إطلالته البهية، تصفيد المردة وإبطال كيد الشياطين، والتصفيد لمن يستحق من صلب مهمات الحكومات الموفقة لمافيه من ردع وضبط. ويرتبط بالأمن العفو عن الزلات والاجتهادات لمن تاب وأصلح من المخطئين، وهكذا تفعل الحكومات مع أبنائها؛ فتجعل من رمضان سببًا للمّ شملٍ تشعثّ من طول الغياب، ويا لها من سانحة جديرة بأن تبتدر.
أما شؤون المال فظاهرة في رمضان دون خفاء، فأسواقه رائجة في المآكل والمشارب والملابس والهدايا والأثاث، ولربما انتظرته متاجر من بين سائر الشهور، وفيه موازنات يعرف الأتقياء بها مقدار ما يجب عليهم من الزكاة، وما تجود به نفوسهم هبة أو صدقة، وما أجود أقوام يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، وهم أركان الضعف في المجتمع، وقبل ختامه يسعى جماهير الناس إلى دفع زكاة الفطر لتصبح بيوت الفقراء ذات طعام إبان موسم العيد وأفراحه، وهل الاقتصاد والمال إلّا أحد أركان العمل الحكومي التي لا مناص من رعايتها حقّ الرعاية!
كذلك ينفرد شهر رمضان بحتميّة ترائي الهلال في أوله وآخره، وإن كان الترائي لطرفي الشهر متكررًا في ذي الحجة، بيد أن آخره ليس في مقدار ضرورة أوله خلافًا لرمضان، وفي هذا الصنيع ترصد وترقب ثمّ إعلان، وهو فعل استشرافي من شأن الحكومات عند أيّ ظاهرة، ودوننا جائحة كرونا التي أشغلت الدول والناس في المتابعة والمعالجة، والله يعجل برفعها على خير ومسرة وعافية.
وفي رمضان حوافز تشجيعية مثل طريقة الحكومات عندما تريد تنشيط شيء، أو دفع الناس لأمر، أو حجزهم عن آخر، فمضاعفة الحسنات، وكثرة الغفران، وقبول الدعوات في أوقات وأحوال معينة، والعتق من النيران، ووجود العشر الأواخر وليلة القدر، وانتهاء رمضان بليلة صباحها عيد فطر سعيد، إضافة إلى الذكريات الرمضانية التاريخية العبقة وعلى رأسها نزول القرآن الكريم، كلّها تجعل هذا الموسم هو الأنسب للحوافز، وأما روادعه فمنها خشية المشفقين من فوات بركاته، وفرقهم من تعظيم السيئات، وحذرهم من رغم الأنوف بتضييعه، وإنّ باغي الخير ليقبل، ومريد الشر ليقصر، وذلكم مكسب نفيس.
كما يشبه رمضان الحكومة بأنه لجميع الناس وإن اختلفت أعمارهم، واهتماماتهم، وجنسهم، ومستوياتهم العلمية والمالية، ويماثلها بوجود المؤيدين المستبشرين به، والمتفاعلين معه إيجابيًا، الفرحين بقدومه، الوجلين من رحيله، وبالمقابل فلا مناص من أقوام امتعضوا منه، وشرٌّ من هذا الفريق أشقياء شرقوا به وعارضوه، فحاولوا تدنيس قداسته، وتفريق شمل فضائله، وإلهاء الناس دونه، وصرف التائبين عن بابه، وحرمان الكافة من نفحاته وإلهاماته، ثمّ يسوق أولئك الغششة كَدَرهم القبيح على أنه تفاعل مع رمضان، ولو صدقوا لما ناقضوا برنامجه الأساسي في استجلاب التقوى للقلوب، وتعظيم شعائر الله، وكم في دعاوى المصلحة والإصلاح من خداع ومآرب خفيّة!
أيضًا يبرز في رمضان منهج رشيد تسعى لمثله حكومات تبادل أناسها الثقة والمسؤولية، فالصيّام عبادة سريّة خالصة، والأطر العامة له واضحة، والمطلوب مشتهر، والممنوع بيّن، وما عداه فاجتهاد يختلف فيه وليس حوله أو بسببه الناس، سواء في أصناف العبادات والقربات، أو بطرق الفطور والسحور، أو بنوع المناشط التربوية، أو البرامج الأسرية، والإعلامية، والرياضية، إضافة إلى اغتنام الدقائق مع القرآن وصلاة التراويح، وتقسيم ساعات اليوم والليلة، وتحديد مواعيد الوجبات ومكوناتها، فإذا أصبنا الهدف المشروع، بعمل مشروع، خلال وقت مشروع، فتلك هي الغاية التي تجعل الحكومة مبتهجة بثمارها، مسرورة بالأداء كمًا وكيفًا وزمنًا وتكلفة وأثرًا.
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بشهر رمضان المبارك، الشهر الأجلّ، والموسم العظيم، بأيامه المعدودات، ولياليه العطرات، وما فيه من بركات وإنجازات على صعيد النفس الواحدة فما فوقها، ويالها من منجزات تستمر مع بعض المحظوظين سنواتٍ وربما أكثر، فرمضان حكومة العام وضابطه ومصلحه، ومن اهتبل فرصة الحياة، ونعمة الهداية، وتوافر القدرة، وهبة الصحة؛ فقد يعيش من فيئ رمضان ونوره وشذاه وبصائره فيما بقي له من عمر مهما امتدّ؛ فاللهم استعملنا فيما تحب، ولا تجعلنا من المفرطين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الإثنين 30 من شهرِ شعبان عام 1442
12 من شهر أبريل عام 2021م
2 Comments
اللهم آمين جزاك الله خيرا على هذه المقالة الشاملة لكل المعاني السامية لهذا الشهر الكريم ووفقنا فيه للعمل الصالح وان يبارك لنا فيه
اللهم آمين آمين