أن تكتب…
مع أنه نصّ قصير إلّا أنه عميق، بديع العنوان، ويحتاج لتكرار بعض المواضع منه حتى يحسن فهمه، وهو أشبه بسيرة مختصرة في الكتابة أو خلاصة تجربة طويلة من العمل الروائي والثقافي المختلط مع الحياة والسياسة والعزلة. عنوان الكتاب: أن تكتب.. الروائي والكتابة، تأليف: “مارغريت دوراس”، ترجمة وتقديم: أحمد المديني، ونشر أصل الكتاب عام (1993م)، وأما الترجمة العربية فصدرت عام (2016م)، عن أزمنة للنشر والتوزيع، وتقع في (54) صفحة.
غاية هذه الترجمة التعريف بشخص كاتبة بزغت في دنيا الأدب والمجتمع الثقافي، مع مالها من نشاط سياسي وحقوقي، ثمّ الوقوف على بعض مكونات عالمها الروائي، بعد أن قطعت حبل السرة مع شجرة العائلة بمجرد انتسابها لعالم الكتابة، وأمضت حياتها مدمنة على تعاطي الكحول حتى لا تكاد حقيبتها أن تخلو من قارورة خمر، ولا تنام قبل أن تسكر. ومع الكحول تقلبت بين أيدي العشاق، وآخرهم تعلّقت به وهي في السادسة والستين من عمرها، بينما كان هو في السابعة والعشرين، وهو خاتمة العشاق إذ غادرت الحياة وهي معه، والله يعيذنا من هذه الضلالات التي لا علاقة لها بالكتابة والإبداع، وإنما هي من أشواك خواء الروح، وشتات الأسرة.
إنها سيرة روائية غزيرة متنوعة، متعددة التجارب والأساليب، وفيها تعريج على النصّ الذي يمثل انطلاقتها في الكتابة الروائية، حتى ترسخ أسلوبها وكأنها تمزج الخيال مع الحقيقة في عمل أشبه بسيرة ذاتية، وفيه تبجيل للذاكرة مع استحضار قوي للزمن، وبعض شخصياتها تشكل عندها هاجسًا ملحًا كأنها تهذي بهم لدرجة التشويش وتفريغ المعنى، وعدميته والدوران في حلقات صغرى من الحياة الحميمية، ولكثرة علاقاتها الرجالية جسدت بعضهم في رواياتها، وتسلّل الشاب الأخير منهم من شغاف قلبها إلى نصوصها.
ثم وقفت على حافة الجنون في آخر عمرها بعد أن أنتجت أزيد من أربعين عملًا، وتملكتها حمى الرغبة الكتابية، فعبرت طرقات الحياة والكتابة، حتى انتهت لكتابة نصّ صعب فيه قوة ورهبة وعسر على الفهم أحيانًا، فهي من طراز الكتّاب الذين يستوجبون قارئًا خاصًا، ولأجل ذلك أحسن الأستاذ المترجم في عمله الذي كان منهكًا، وأجاد في كتابة المقدمة التي ينتسب إليها جلّ الكلام السابق، كي يكتشف القارئ الخيط الذي ينسج به نص “أن تكتب”، فيتتبعه القارئ النبيه، ويستضيء به للفهم والاستزادة، وهذا افتراض أساسي؛ لأنّ أسلوبها إيمائي مختزل مكثف؛ ومقصود المترجم أن يجتهد في جلاء المعنى وبيان اللغة.
ومما قالته هذه الكاتبة التي تُعدّ من نوابغ الأدب الروائي العالمي:
- أن تكتب هو أن تجد نفسك أمام فراغ هائل.
- الوحدة، والصمت، والانعزال، وكذا الفقر، هي الفضائل المثلى للكاتب! مع انها ماتت وهي ثرية، ومارست الكتابة أحيانًا لتلبية حاجات مالية متزايدة.
- نادرًا ما حسبت الوقت الذي قضيته في الكتابة.
- أحمل كتابتي معي حيث أذهب.
- بدون وحدة من أجل الكتابة لا ينتج الكاتب أيّ عمل.
- الوحدة تقود إلى شيء يشبه الاختلال والمسّ؛ فلا يوقف الكاتب شيء في هذيانه.
- ينبغي أن ينعزل الكاتب عن الأشخاص المحيطين به.
- اكتشفت خلال وحدتي أن الكتابة هي ما يجب أن أفعله.
- قال لي الناقد الفرنسي “ريمون كينو”: لا تفعلي شيئا آخر غير هذا، اكتبي.
- غرفتي ليست سريرًا بل نافذة، ومنضدة، وعدة أنواع من الحبر الأسود، وكرسي.
- لا ينبغي لي اطلاع الرجال وعشاقي خصوصًا على ما أكتب.
- نحن لا نجد الوحدة وإنما نصنعها من أجل الكتابة.
- أصبح مكان وحدتي هو بيت الكتابة الذي تخرج منه كتبي.
- لا يتحمّل الرجل امرأة تكتب فهو أمر شاق عليه.
- بوسعي قول كل ما أريد لكني لن أجد جوابًا عن: لماذا نكتب ولا كيف نكتب؟
- الوحدة تعني الكتابة أو القراءة.
- أخيرًا صار لي بيت أختبئ فيه لأكتب.
- أحسب أن الشخص الذي يكتب لا يتوفر على فكرة مسبقة عن الكتاب.
- لا يعرف عن مغامرة الكتابة سوى الكتابة والكتّاب.
- في الكتابة يصبح كلّ شيء عرضة للشك.
- تعسر الكتابة على كثير من الأشخاص لصعوبة الشك عليهم.
- الخوض في الكتابة أصعب نوعًا ما من الخوض في الحياة.
- الكتابة هي شفائي الوحيد من الكحول.
- الكتابة توحّشك وتوترك.
- لا نستطيع الكتابة بدون قوة الجسد.
- ينبغي أن تكون أقوى منك للإقدام على الكتابة حتى تصبح أقوى مما تكتب.
- تأخذك الكتابة بعيدًا.
- كل شيء يأخذ بغتة معنى ما بالعلاقة مع الكتابة.
- شأن الكاتب مثير ومتناقض أحيانًا.
- أن تكتب يعني أن تصمت ولا تتكلم وهذا مريح للكاتب ويجعله كثير الاستماع.
- يجب أن تواصل الكتابة وتتغلب على اليأس.
- ما يسبق الكتابة هو تبديد لها.
- فيما بعد تصبح الكتابة نمطية نوعًا ما ومنضبطة.
- لقد كانت الكتابة دومًا بلا مرجعية.
- ثمة ثمن نؤديه لأننا جرؤنا على الكتابة.
- الوحدة موجودة في وظيفة الكتابة.
- ليس في حياتي ولا في كتبي أيّ برمجة مسبقة ولو لمرة واحدة.
- لم أكذب في حياتي إلّا على الرجال!
- كتابتي تتم كل صياح.
- يقوم الكاتب بوظيفة المراجعة فهو شرطي نفسه.
- اجعل كتابك ينقش في التفكر والتفكير.
- لكل كتاب وكاتب معبر صعب لا يمكن اجتنابه، وعليه اتخاذ القرار بترك أيّ خطا.
- قراءاتي الكبرى هي التي كتبها الرجال فقط.
- من الجيد كتابة المحن والصعاب.
- الكل حولنا يكتب هذا ما ينبغي إدراكه وإن اختلفت سبل الكتابة.
- الذبابة تكتب على الحيطان وقد نستطيع فك شفرتها يومًا ما، وقد أسهبت عن كتابة الذباب.
- من الترف أن نملك القدرة على الكتابة ليلًا أو في أيّ وقت بلا أوامر ولا مواقيت عمل.
- يشعر الكتّاب بالخجل أحيانًا من أعمال سياسية، ومن جحيم الحياة الذي ينبغي التكيّف معه.
- البكاء ينبغي أن يحدث أيضًا من الكاتب وفي بعض عمله.
- ثمة جنون للكتابة في أنفسنا وهو جنون أحمق.
- نكتب لشخص آخر موازٍ لشخصياتنا، يظهر ويتقدم غير منفصم، وهو موهوب الأفكار، معرّض للغضب والهلاك.
- الكتابة هي المجهول فقبل أن نكتب لا نعرف شيئًا عمّا نكتب.
- لو كنا نعلم شيئا عمّا سنكتبه قبل الشروع في الكتابة فلن نكتب.
- السؤال عمّا سنكتب هو الأكثر خطورة وجريانا؛ لأننا لا نعرف جوابه إلّا بعد النهاية.
- الكتابة تحصل كالهواء، هي عارية، هي الحبر، وتمر مثل أيّ شيء في الحياة.
وفي نصها القصير المحتشد بالخبرة والذكريات والأفكار، يظهر كرهها العميق للألمان، ولا غرابة في ذلك وهي التي تحولت شقتها إلى عنوان مثير خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، ومن زوارها الدائمين المرتبطين معها بعلاقة ثقافية وفكرية دائمة الرئيس الفرنسي فيما بعد “فرانسوا ميتران” الذي اتخذ من “إلياس مورلان” اسمًا حركيًا له خلال مشاركته في المقاومة، وفي صنيعها ونشاطها هذا تجسيد لوثيق الصلة بين الكتابة والسياسة، ولو كان الكاتب يظنّ أنه أبعد ما يكون عنها!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 28 من شهرِ شعبان عام 1442
10 من شهر أبريل عام 2021م