مع الأسماء مرة أخرى
في يوم جميل من عام (1414=1994م)، كنت في جلسة برية مع شباب حديثي عهد بزواج، وجميعهم أكبر مني بسنوات، فذكر أحدهم بأنّ زوجه حامل في شهورها الأخيرة، وأنه فكر في اختيار اسم لطفله غير متكرر في بلدتهم الصغيرة الجميلة، ولا يرغب أن تكون كنيته تكرارًا لكُنى إخوانه، فاقترح عليه الحضور جملة من الأسماء الحديثة والقديمة، وهو يجيب بأن الاسم موجود في البلدة، أو لم يعجبه؛ وحينها تذكرت زميلًا لي في الجامعة، فقلت من فوري: لم لا يكون أسامة!
أطرق الرجل قليلًا كأنه يروز نطق الاسم مع اسمه، ويقيس تناسبه مع لقب أسرته الكريمة، ثمّ نبش ذاكرته بحثًا في أسماء أبناء البلدة، حتى لمعت عيناه جذلًا؛ فالاسم مناسب، وليس شائعًا في مقر إقامته. وبعد سنوات من هذه الواقعة، أي في سنة (1423=2002م) -أو قريبًا منها- اتصل بي صديق وأنا في زحمة طريق الملك فهد، وبشرني بأن الله قد رزقه بمولود، ثمّ شاورني لأننا منذ عرفناه وهو يُكنى بأبي أسامة، فنصحته بأن يبتعد عن هذا الاسم لحراجته في ذلك السياق الزمني، وخشية من سوء الظنّ الذي يبرع به فئام من الناس، ولا أدري هل اقترحت عليه البديل، أم أنه سألني عن رأيي فيما ذهب إليه، والله يحفظ أسامة ذي الثلاثين عامًا، وفارس الفتى الآخر العشريني، وينفع بهما، وبأبناء المسلمين كافة.
تذكرت هاتين الواقعتين بعد أن كتبت قبل شهور مقالة عن الأسماء، وهي مقالة دفع إليها النقاش مع إحدى المشاركات في برنامج التدريب على الكتابة؛ لإثبات أنّ الذاكرة، وأحاديث الناس، مناجم ثمينة، ومنابت خصبة للأفكار. ولم أتخيّل حجم التفاعل اللاحق لنشرها، وهو الذي لم ينقطع حتى الأمس القريب؛ إذ وردتني قصص كثيرة فيها دلالة، أو غرابة، أو موقف لطيف، إضافة إلى ما تختزنه ذاكرتي من مرويات، وجميعها تصنع مقالة جديدة.
فمنها أن رجلًا يعمل في منظمة تخصّ دول العالم الإسلامي، واسمه حنّان، وكانت مراسلاته البريدية مع الآخرين في أصقاع الدنيا باللغة الإنجليزية، وهم يتفاعلون معه على أنه امرأة اسمها حنان دون أن يصحّح لهم هذا الاعتقاد، وحينما حضر بعضهم إلى جدّة، ذهلوا بأنّ الذي أمامهم رجل ضخم كريم من السودان العزيز وليس فتاة ذات حنان! ولأجل هذا الالتباس أخبرني صديق عزيز أنه يصطفي لأبنائه وبناته أسماء لا تحتمل الخطأ في نطقها باللغة الإنجليزية، ولا تخالف منطوقها العربي افتخارًا بلغتنا.
أيضًا وردني أن بعض الفتيات تذمرن من أسمائهن المشتركة مع الرجال، فأيّ جمال أكمل في المرأة من أن تكون أنثى حقيقية غير متشبهة بشقيقها، ولا مزاحمة للرجال؟ ولذا غيّرت بعضهن اسمها إلى أسماء أنثوية صرفة مثل الجوهرة. والأسماء التي يشترك فيها الرجال مع النساء محدودة مثل: نجاح، وصباح، وتيسير، وفاتن، وبعضها يختلف حسب تشكيل حرف منها، ومن عجب أن زميلًا درس معي في الجامعة اسمه شادن! وبعض الرجال -ومنهم مشاهير- اسمه أمل، مع أنه من أكثر الأسماء النسائية انتشارًا حسب معجم قديم أصدرته جامعة في عُمان.
ومما حُكي لي من طرائف وموافقات، ما نقله أحد الأصدقاء عن امرأة من أسرته توفيت عن عمر طويل واسمها أمريكه! وكاتبتي فتاة مخبرة بأنها ولدت في خضم خلاف نشب بين والديها، فاقترح جدّها من أبيها اسمًا لها متفائلًا بمعناه؛ ولعلّه أن يكون مجلبة للصلح والتسامح بين الزوجين المتنازعين مع بواكير زواجهما، وهو مالم يكن مع الأسف، وظلّت الفتاة تحمل الاسم وسببه الذي لم يتوافق مع المآل المأمول.
كما أخبرني صاحبي عن جار لهم، لا يشهد الصلاة مع الجماعة، وليس له أيّ صلة بجيرانه، مع أن اسم نجله الأكبر مصعب، وهو اسم يستخدمه المتدينون أكثر من غيرهم، وأردف الصاحب بأنّ هذا الرجل بارٌّ شديد البر بوالدته، مع أنه لا يكون على أكمل أحواله العقلية في بعض الأيام! ونقل لي آخر عن أناس قابلهم، لهم أسماء متقاربة جدًا على وزن فعيل وافعيّل! وأنباني صديق قديم أنه رفض تسمية أحفاده عليه، مع أن اسمه جميل في معناه؛ والعلّة تعود لأنه اسم نادر جدًا، ولا يزال يتذكر تنّمر زملاء الدراسة عليه إبان طفولته بسبب اسمه، واختار طالب علم لابنه اسم النبي دانيال، وحينما رفض الموظف قبول الاسم حاجّه فغلبه وقيّد الاسم رسميًا.
كذلك روى أستاذ جامعي أن زميله العربي اشتكى من ضحك الطلاب عليه وهو يتلو أسماءهم، فطلب من زميله العربي أن يسمعه طريقة مناداته للأسماء؛ ولم يتمالك الأستاذ نفسه من الضحك على أداء زميله الخاطئ؛ فعلّمه كيفية قراءتها، وهذا الموقف الحرج تخلّص منه زميلهم الأمريكي بمنح الطلبة أرقامًا متسلسلة يعتمد عليها في التحضير! ومما أذكره أن أستاذًا أجنبيًا درّسنا في الجامعة، فأعجزه نطق اسم طالب؛ فقال: هذا الذي اسمه يشبه شيريهان! فضجت القاعة بالضحك؛ لأن شيريهان ممثلة وراقصة آنذاك.
وعندما كنت في الثانوية قابلت رجلًا في مكان انتظار، وعرفت بأن اسمه نازي، فتعجبت كيف وصل خبر النازية لأهله، وهم على فطرتهم ونقاوتهم في الصحراء، وسألته عن معنى الاسم وسبب التسمية، دون أن أبدي له شيئًا عن النازية التي تبين بأنه لا يعرفها؛ فشرح لي الاسم وقصته، واتضح أن استخدام حرف الزاي في اسمه يرجع لكونه الأقرب للحرف المنطوق من قبل والده، وبناء عليه سجله الموظف المعني بشهادة الميلاد أو بالوثائق الثبوتية حينذاك. وسمعت عن أسرة سورية جاورت أسرة سعودية، ولدى السوريين طفل ينادونه غياس، وهكذا فعل جيرانهم مع تشديد الياء، وبعد سنوات اكتشفوا أن اسم الفتى غياث، وبسبب مخارج الحروف أصبح كأنه غيّاس!
بينما وصلتني رسالتان متشابهتان من أناس لا يعرفون بعضهم، تقول الرسالتان إن البنت الأولى في العائلة سميت نورة في بيت، وهيفاء في البيت الآخر، ولأن هاتين الطفلتين أصبحتا آخر الممتحنين في الاختبارات الشفوية، قرر الوالدان في كلّ بيت أن يجعلوا أسماء بقيّة الذرية مبتدئة بحرف الألف، وفيما بعد قالت ابتسام وهي واحدة من بنات أحد البيتين: ليتهم جعلونا بحرف بعد الألف وقبل الهاء والنون، كي لا نصبح أول تجربة ولا آخرها في الامتحانات الشفوية.
ومن أشدّ التعليقات تأثيرًا ما روته قارئة عن أبيها الذي رزق بطفلة فأحبها كثيرًا كثيرًا، بيد أن الله توفاها وهي صغيرة فحزن الأب عليها، ثمّ رزق بولد، وبعد الولد وهبه الله هذه البنت، فرفعها بعد ميلادها أمام الطاقم الطبي وهو يستنشقها فرحًا بمقدمها وسط ذهولهم مما يصنع، وأسماها هناء معلنًا بأنها له الهناء والانشراح وسعادة الروح، ولازالت الفتاة تبكي رحيل أبيها بمرارة، وأيّ توجع أشد من بكاء البنت على فراق أبيها!
من لطائف التسميات التي سمعتها أو قرأتها أن أحدهم تعالج في مصر، ثمّ أسمى ابنته على ممرضته مع غرابة اسمها محليًا، والآخر أعجبته شخصية الرئيس صدام حسين؛ فأطلق على ابنته اسمًا مماثلًا لإحدى بنات الرئيس إبان توهجه عربيًا، واسمت هذه البنت بعد زواجها ابنتها، ثمّ تفاجأت بأن لصدام ابنة تحمل اسم ابنتها نفسه، فغدت البنت وأمها يحملن أسماء بنات أبي عدي، وراسلني رجل مخبرًا بأنه رزق بتوأم بنات، وحار في تسميتهما، حتى لمح أستاذه في الجامعة أثر انشغال ذهنه في قاعة المحاضرات، وبعد أن استخبره عمّا استولى على ذهنه، اقترح عليه تسمية التوأم ريما وديما فكان الأمر كذلك.
أما من اليمن العزيز فوردتني تعليقات لطيفة، منها أن أحد المشايخ زار أناسًا تربطه بهم علاقة، فوجدهم غضابًا على كبيرهم؛ لأنه أسمى ابنته رزان، وهم لا يعجبهم هذا الاسم بسبب فهمهم المغلوط لمعناه، وأرادوا الاستنصار بالشيخ على كبيرهم، فسألوا الشيخ أمام الجميع عن الاسم لعلّ الرجل أن يرتدع، فقال الشيخ الداعية لهم: هو اسم عربي فصيح يحمل معنى رائعًا، ووصف به حسان بن ثابت الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهم! وفي اليمن أسماء نسائية غدا بعضها في حكم المندثر كما ذكر لي صديق مثل كاتبة، وفائقة، وثابتة.
ومن لطيف ما سمعت أن رجلين من القارة الهندية اختصما عند قاض فسألهما عن اسميهما؛ فقال الأول: أنا قل بسم الله! وقال الثاني: أنا بسم الله قل! فأملى القاضي على كاتبه الدعوى والجواب بعد أن اطلع على أوراقهما الثبوتية، وتأكد من صحة الأسماء الغريبة في ذاتها وفي كونها اجتمعت لخصمين، وغدى القاضي وكاتبه في معمعمة السماع والإملاء والكتابة بين قال: قل بسم الله، وأجاب: بسم الله قل! وأخبرني قاض آخر أن رجلًا أتاه وهو في مختصره مع زوجين يصلح بينهما، فسأله القاضي: ما اسمك؟ فقال: جنيف! فأمره بالذهاب إلى قاعة الانتظار، وقال للزوجين: سوف أذهب لجنيف ولعلي أن أعود إليكما وقد تراضيتما!
بقي أن أقول لكم عن موقف ذي دلالة، حدث لي قبل عشر سنوات تقريبًا، إذ كنت في ضيافة رجل بمكتبه، فدخل علينا مهندس هندي مرموق في هيئته، وتعليمه، وتخصصه، وطريقة كلامه، وحينما انصرف ناداه مضيفي قائلًا: يا أبا صدام! وبعد نهاية حوارهما أظهرت استغرابي عامدًا لأظفر بمعلومة، فسأله رئيسه أمامي: ما اسم ابنك الآخر؟ فقال: القذافي! وحينها سألت المهندس: كم عمر صدام وكم عمر القذافي؟ فقال: عمر الأول ستة وعشرون عامًا، والثاني تسعة عشر عامًا، وأتوقع أنه لو رزق بثالث فسيكون اسمه الخميني!
إن التسمية ذات شأن مهم، وتعطي أكثر من معنى وإشارة، ولو لم تكن كذلك لما أبدل النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء، أو اقترح تغييرها، ولذا فما أولاها بالعناية، وحسن الانتقاء، وجمال التوافق والملاءمة، فهي علامة على المرء، ولها أثر دائم عليه، وارتباط وثيق لا ينفصل عنه، وتلك مسؤولية في عنق أهله؛ وستبقى مقياسًا على وعيهم، ودليلًا على اعتزازهم، وربما مستوى ذوقهم!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 22 من شهرِ شعبان عام 1442
04 من شهر أبريل عام 2021م
4 Comments
أبو زوجي رحمه الله له ١٢ ولدا غير الذين توفو كلهم باسماء الله الحسنى وحكم على ابنائه اي يسمو الاحفاد كذلك فاصبحت العائلة كلها عبد ال… بعدما كبر سمح بالتسمية عليه (صالح) ففرح الجميع وسمو صالح بعد زواجي اسميت بكري صالح والثاني طلبت ان اسمي محمد على ابي لاني يتيمة من الصغر فسمح بذلك وقال لزوجي (لاتضيق صدرها يتيمه) جزاه الجنة يارب .. بعدها انطلق الجميع ليسموا ما يتمنوا ..اما انا فحكم زوجي ان اسمي الثالث عبد فكان عبدالرحمن ولاني لا انطق الراء وكان مبتسم منذ ولادته احببت ان اناديه (بشاشة) والان هو اخر سنة جامعية ولا زال الكل يناديه بشاشة..
الابن الرابع قلت دوري اختار قال بشرط (عبد)!! بحثت عن اسم لم يسمى بالعائلة لانهم تقريبا سمو كل عبد معتاد فكنت وانا في التاسع اسمع للشيخ عبدالودود حنيف فاحببت ان اسميه عبدالودود .. اما الاخير فقال زوجي دوري اسميه قلت بشرط لا يكون عبد 👀 فقال اذا ال التعريف فاسماه (الوليد ) . .
ونلاحظ الاسم يعكس على شخصية المسمى عليه .
ودمت استاذنا
ماشاء الله! رواية جميلة، والله يصلحهم جميعا ويزيدهم بشاشة!
على ضفة الذكرى، كانت هذه المقالة التي حضنت روحي مصادفة، أولى مقالاتك التي صافحت بها عينّي للسفر نحو الكتابة، تشققت براعم الحب من بين جدران الكآبة، ورأيت بين سطورها شعور اللهفة الأولى، احساس التسمية الأولى للأشياء، وما زادها بهاء جمال طرحك و نقاء اسلوبك، اما موضوعها هو جوهرها النفيس، اليست عن اسماء البنات!
من هنا بدأت لقطة حكائية، ومشهد له معها، حينما قرر أن يسميها!
لقد قرر أن يسميها!
واسماها أثيرته، كان وقع الأسم في قلبها قبل عقلها!
بل عقلها أدرك ما في قلبها فجنّت معه!
لك أن تتصور أنها ما زالت تتباهى بالاسم الاثيري الذي منح لها، كأن هذا الكون بأسره لم يبث في قلبها المعطوب إلا فرحة اللقاء الأول، اللمسة الأولى وحتى الاسم الأول، ذاكرتها المرتعشة بالحنين غائرة بتفاصيل تخصف عليها من ورق الطمأنينة، كل ذلك لإنه اختار لها اسمٌ لا يشبه الاسماء، يتسامى حتى عن غيرة النساء..
حينها أدركت تماماً أن الأسماء ليست فقط مجرد هوية تعريف، بل جذاذة من الروح تستوطن أجسادنا، إلا أن الأغرب والأعجب! أن اسمائنا مُنحت لنا! لم نختارها بأنفسنا، ومع ذلك نشعر بالنشوة أنها كانت من اختيار الأحب والأقرب لقلوبنا، اما الأجمل من ذاك كله، تخيل معي تلك اللذاذة حينما يُنطق اسمك بصوت من تحب!
هذه المقالة وقعها وموقعها من حياتي تشبه بالمرحلة الانتقالية مثلما تستبدل اسمك العتيق البالي بإسم يشبهك، بل ربما شعور دافق يسري كالماء الدافيء..شكرًا جزيلًا لا تكفي لجمال السرد..
الاسم سفير المواقف وواجهة الملامح ورسول الألفة فلا عجب أن تكون مقالتك عنه مهمه وربما ملهمة، لعل أن يكون هناك وعي في اختيار اسماء البنات والابناء بما ينعكس على سماتهم وشخصياتهم!
الاسماء هي حكاية حياة! وربما تُخفي خلفها الكثير من الأسرار، اختار لي والدي اسماً مميز رغم احتجاجي عليه في الصغر حتى علق ذات يوم قائلًا وبابتسامة:إنه اسم سوف يضطر الجميع معه لنطق اسمك بعذوبة مجبرين عليها لا مختارين، ينادونك برقة لا تحمل قسوة وربما بإثارة واستثارة لا يملك أحد معها إلا أن يتصورك بذات الفتنه التي يحملها اسمك، مضت السنوات، وأدركت حديثه و أن اسمي حمل معه الكثير من المواقف الممتعه اللذيذة وربما الغريبة!
اما الموقف الآخر..لدي أربعة من الأخوال، أصغرهم عمرًا في منتصف الستين بينما كبيرهم في مطلع الثمانين من عمره-حفظهم الله- عرفوا وتميزوا بالشجاعة والشهامة وشدة الحياء، بل أشد من الحياء نفسه، صُدمت مؤخرا بما لا يتوافق مع تصوراتي عن صلابتهم وقوة شخصياتهم أن كل واحد منهم لديه ابنه سمّاها باسم أول امراءة ” أحبها” ولم يقوى على الزواج منها لسبب او آخر متجاهلين جمال الاسم وعدمه المهم أنه على اسم من أحب، العجيب أن زوجاتهم والمحيطين بهم من كبار السن يعلمون ذلك ،بل هنّ من يحكين سبب تسمية بناتهن!
سلم مداد قلمك..