إبراهيم الحسون في ذاكرة طفل
أجد في نفسي جرأة على الحكم بأن سيرة الأديب والكاتب المشتغل بالتاريخ، الشيخ إبراهيم بن محمد الحسون (1329-1425) التي صدرت في ثلاث مجلدات أولًا، ثمّ أضيف إليها الرابع وطبعت بأربع مجلدات، تُعدّ من أجمل السير السعودية الذاتية، وربما تنافس في هذا الحقل عربيًا، ومن جمالها أن تواتر التواصي بها، وانتهت نسخ طبعتها الأولى سريعًا، وباتت الثانية شحيحة لأسباب تتجاوز كثرة الطلب المتوالي عليها.
الشيء المهم، أني بمجرد معرفتي بصدور سيرته الذاتية، بحثت عنها فلم أجدها، وقدّم لي أحد الأقارب مشكورًا نسخة مصورة بيد أني لم أُقبل عليها؛ فبيني وبين المصورات عقبة كؤود مالم أضطر إليها، ومثلها النسخ الإليكترونية التي لم تكن علاقتي بها وثيقة حينذاك، والحمدلله أن أثمر الاجتهاد عن تحصيل أربع نسخ من الطبعة الأولى؛ فاشتريتها دفعة واحدة، وذهبت لمن يستحقها.
وبعد أن قرأت الطبعة الأولى وكتبت عنها، تكاثرت الرسائل الواردة إليّ تستفهم عن هذه السيرة؛ فمن قائل: هو صديق أبي أو جدي، ومن متشوق إليها؛ ومتشوف لامتلاك نسخة منها؛ لأنّ إحساسه الأدبي هداه لمكامن التميز فيها، فضلًا عمّا ورد من ثناء عليها، وبعض تلك الاستفسارات انصرفت نحو موعد صدور الجزء الرابع الذي أعلنت عنه في مستهل المقالة، ولم ينافس هذه السيرة بكثرة السؤال عنها إلّا ما حدث مع سيرة المؤرخ والأديب الفلسطيني نقولا زيادة النادرة جدًا.
وقد عادت بي الذكرى إلى أيام الحسون التي كنت أراه فيها عند الوالد، وصديقهما الشيخ الفقيه عثمان بن محمد الصغير (1333-1412)، وبقيّة رفاقهم رحم الله الجميع، ونوّر عليهم في مراقدهم، وأسعدهم في حياتهم البرزخيّة، وإنها لذكرى تلجّ بي ولا تهدأ البتة؛ لارتباطها بوالدي غفر الله له، وكم في تلك الأيام الخوالي من عبق وعذوبة وجمال، ولو كنّا ندرك الحياة أحسن إدراك لتشبثنا بكلّ لحظة فائدة، واقتبسنا من أيّ واردة وشاردة في تلك المجالس الأنيسة.
فمما أذكره أنّ الشيخ الحسون كان رجلًا أنيقًا حسن الهندام، ومظهره يشبه هيئة كثير من الأثرياء والوزراء، ولذلك فحين جلس ذات مرة، وتدفق بالكلام عن صعوبات العيش، وما عاناه في أول عمره وشبابه، وانطلق بكلامه المسترسل، وفيه شجون وعاطفة حتى فرغ؛ فقال له رجل أشيب: ظننتك يا أبا يوسف ابن نعمة! ولم أكن أعلم أنك تعرّضت مثلنا “للكسافة”؛ ويعني بها مشاقّ السنين، فضحك الحسون مكمِلًا سرده الجذاب، بلثغته الآسرة، عن وعورة الحياة قديمًا.
كذلك دأب الحسون على الحديث إلينا، مع أننا كنّا إذ ذاك أطفالًا أو شبابًا صغار السنّ، ويمنحنا من الالتفاتة والعناية أكثر مما نجده عند غيره من مجايليه، ومن عادته أن يطرح علينا أسئلة ثقافية، أكثرها في السيرة، والتاريخ، واللغة، والفقه، وإذا أجبنا إجابة صحيحة لا يبتسم فقط؛ بل يضحك ضحكة رضا لطيفة محببة، ولا أزال أستحضر سعادته كأنه نال مغنمًا، أو نجا من مغرم، وإذا لم نسعده بالصواب، كرّر الحضّ على القراءة والاستزادة منها.
أيضًا سأله أحد كبار السنّ بعد أن أورد الحسون شيئًا من خبر رحلاته، عن الأسرار التي تقف خلف ذاكرته الثرية، فقال: أنا لا أسافر إلّا ومعي دفتر الملاحظات، وربما أنه ذكر آلة التصوير، ثمّ نقل دفة حديثه ناحيتنا، وأوصانا بحمل دفتر الملاحظات معنا باستمرار، وتقييد المواقف والأخبار، ويؤكد علينا حمل آلة التصوير؛ حتى نلتقط الحدث كما هو، ويحذّرنا من الركون إلى الذاكرة التي لا تسعف في بعض الأوقات، أو تطمر السنون ما تراكم فيها، وأشير إنصافًا للرجل الكبير إلى أنّ صنيع الحسون مع نظرائه ومعنا، يأتي في سياق وداد ونصح، وليس فيه أستاذية أو ترّفع، مع أنه الأكثر ثقافة ومعرفة بين جلّ الحاضرين.
كما أذكر أنه إذا دخل إلى صلاة الجمعة، لا يذهب إلى الصف الأول، مع أنه وثيق الصلة بأمير منطقة الحدود الشمالية الجالس هناك، وإنما يتأخر إلى الصف الثالث أو الرابع، وكم من مرة جلس إلى جواري، وبعد فراغه من أداء السنّة يسألني: أنت ابن عبدالمحسن؟ فأجيبه أن نعم، ليعود ويطلب مني التّسميع له؛ كي يختبر حفظه للقرآن الكريم، ومن السور التي تلاها غيبًا سورة الكهف، ومريم، ويس، ولم يكن يأنف من أن يعرض حفظه على طفل في المرحلة المتوسطة، ولم يجد في نفسه إذا فتحت عليه في أحيان قليلة.
بقي أن أخبركم بأنّ الذي بعث هذه الذكريات من مرقدها، اتصال من صديق مثقف عزيز من أهل عنيزة التي ينتمي لها الحسون، ودار بيننا حديث حول أبي يوسف الذي كان صديقًا لوالده الشيخ محمد بن عبدالله الخويطر (1347-1440) رحمه الله، وربما أنّ الانتساب لعنيزة، والعيش في مكة، والعمل في المالية، عوامل جمعت بينهما، وأظنّ أن صاحبي العزيز يقضي وقته الآن مستمتعًا بخواطر الحسون في طبعتها الجديدة، التي ظفر بواحدة منها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الجمعة 13 من شهرِ شعبان عام 1442
26 من شهر مارس عام 2021م