قراءة وكتابة

برنامج أيوا للكتابة وبرنامجنا

برنامج أيوا للكتابة وبرنامجنا

الإقبال على الكتابة وبرامجها يزيد ولا ينقص، ومما يساعد على هذا انتشار التطبيقات التي تستلزم نوعًا من أنواع الكتابة، إضافة إلى سهولة النشر، ووجود فرصة لاكتساب المال أو الظفر بوظيفة عن طريق الكتابة؛ خاصة من ناحية كتابة المحتوى، أو التحرير والتدقيق، أو صناعة السيناريو، وغيرها، وتلك من بركات اللغة التي تدّر على أهلها من وفير الخير وكثيره، والله يعيذهم من غدراتها؛ خاصّة إن فُهمت كلماتها على خلاف مرادها.

أما الكتّاب فرؤوس على الناس، ومن ناشري الوعي والمعرفة، وهم قادة رأي في المجتمعات، وكم ظلموا بسبب كلمة شاردة، أو مقالة، أو قصيدة، أو تغريدة، كتبها صاحبها بعد أن هيّجته أحداث ووقائع أو خيالات، فوقعت في شَرك، أو اشتهرت في سياق يحرف مغزاها، وما أجمل حسن الظن، والتّلطف معهم، وكسب ودادهم؛ فآثارهم خالدة باقية؛ لأن الناس، والزمان، والمكان، أحاديث وهم رواتها وجامعي شتاتها على الأغلب، ولأجل ذلك سارعت حكومات كبرى لاجتذابهم، ورعاية مواهبهم، وفي هذا الصنيع فوائد ومصالح.

فمن هذا القبيل، برنامج جامعة أيوا للكتابة الإبداعية، وهو برنامج عالمي ابتدعه بعض كتّاب السرد والشعر عام (1936م)، ويبدو أنه قد جرى عليه تطوير كبير في عام (1967م)، وخلال عمره الذي يناهز تسعين عامًا، أداره عدة مسؤولين، وبعضهم استمر لمدة عشرين عامًا، واستفاد من البرنامج ألف وخمسمئة كاتب من مئة وأربعين بلدًا، وربما أن هذه الأعداد في تزايد، وفيما بعد افتتحت فيه مسارات باللغات الأجنبية، ومنها العربية التي بدأ برنامجها في عام (2008م).

يحظى هذا البرنامج بدعم من المؤسسات الأمريكية المانحة، ومن وزارة الخارجية، ووكالة الاستخبارات المركزية، واستثمر لتسويق قيم أمريكا، ومحاربة الشيوعية ثمّ “الإرهاب”، ومن الطبيعي أن ينال بعض الدارسين فيه شهادات وجوائز محلية ودولية، مثل نوبل وغيرها، علمًا أن مدة البرنامج ثلاثة أشهر، ويُقام في بناية قديمة عريقة ذات تصميم إيطالي.

وتقع ولاية أيوا في الغرب الأوسط من أمريكا، وأما مدينة أيوا فهي العاصمة الثقافية لأمريكا حسب تصنيف اليونسكو، وفيها مكتبات كثيرة، وفي جامعتها -جامعة المدينة وليس جامعة الولاية- البحثية المتصدرة في التصنيف الأمريكي، مكتبة ضخمة تضم ملايين الكتب، والأفلام ومصادر المعرفة، وتمنح جامعتها شهادات عليا في الكتابة الإبداعية، واكتسب برنامجها الكتابي العراقة لسبقه، ولأنّ خريجيه يديرون برامج أخرى للكتابة في أمريكا وغيرها.

ونتيجة لنجاح هذا المشروع، ينعقد في أمريكا وحدها خمسمئة برنامج لتعليم الكتابة، ويأتي برنامج جامعة ستانفورد وصيفًا لبرنامج أيوا، هذا غير البرامج التي تقام في أوروبا، وأشهرها في فرنسا وبريطانيا، ومن المؤكد أنّ دول العالم الأخرى فيها برامج وإن كانت محدودة، ومن اللافت أن “أيوا” أقامت عدة لقاءات لتعليم الكتابة في القاهرة وبغداد، ولا أستبعد أنها كررتها في أماكن أخرى.

كما يوجد في العالم العربي برامج لتعليم الكتابة، ولبعضها منتجات معرفيّة، مثل برنامج دبي الدولي للكتابة، منصة تكوين للكتابة الإبداعية في الكويت، وشركة حرف الكتابة في السعودية، ومختبر كتارا للرواية في قطر، وفي مصر والأردن والمغرب وتونس تجارب ومخيمات كتابية، وهي مشروعات تعتني بتجويد الحرفة، وامتلاك ناصية التفنن الكتابي، وربما يوجد نماذج جديدة في بقيّة البلدان.

يقوم برنامج الكتابة في أيوا على اجتماع الكتّاب معًا، وفي اجتماعهم فرصة للتعارف، وعرض التجارب، والاشتراك في القراءة، والحوار، ومراجعة النصوص ونقدها، كما تُلقى عليهم بعض الدروس التدريبية، ويُستضاف لهم كتّاب وشعراء، ويُمنحون الفرصة للكتابة الحرة، وعرض الإنتاج الفردي، ومما ذكره بعض العرب المشاركين فيها أنّ كتابة العربي باللغة الإنجليزية تعطيه شعورًا بالحرية أكثر من الكتابة بالعربية التي تقمعه، كما أشار العرب إلى ندرة المراجع المترجمة إلى لغتنا عن الكتابة الإبداعية، وإلى ندرة أعظم فيما تُرجم من النصوص العربية الإبداعية إلى الإنجليزية؛ ليستفاد منها في دروس أيوا وغيرها.

كما شهد غير مشارك عربي على ما يجده الكتّاب من إجلال واحتفاء من قبل إدارة البرنامج، سواء خلال التدريب، أو مع النقاش، أو في الجولات السياحية المصاحبة، أو حين تستضيفهم وسائل الإعلام الأمريكية في الصحف، والإذاعات، والقنوات التلفزيونية، وفي المحاضرات، وهذا مشهد من التوقير له ما بعده؛ فإنّ إنزال الناس منازلهم يزيل الوحشة، ويذيب الجفوة، ويميل القلوب إلى الأعداء، ويخفف من حدّة المشاعر.

ومن النصائح التي قالها بعض المشاركين، وهي نصيحة ثمينة في تعليم الكتابة، توصي بمعرفة قدرات الطلاب وتطويرها؛ ليبني كلّ واحد منهم أسلوبه الخاص، حتى يكون ذلك مؤذنًا بميلاد صوت إبداعي جديد، وليس إصدار نسخة مكررة من الأنماط الموجودة في الساحة، أو ضمن طاقم التدريب والتعليم في البرنامج، ويبدو لي أن هذا الرأي الوجيه من نتائج البرنامج؛ الذي اشتهر عنه سؤال المشاركين عن علاقة الهوية بالكتابة، ثمّ حثّهم على التخلّص من أيّ معيقات وابتداء الكتابة.

لذلك فهاهنا فرصة عربية سانحة، بأن نستثمر في لغتنا العربية العظيمة، من خلال نشر معاهد لتعليمها في عدّة مدن، ليستفيد منها المسلمون وغيرهم، وتصبح ضمن البرامج السياحية، والفرصة الأخرى تكمن في بناء برنامج مقتبس من فكرة أيوا، ترعاه جامعة أو مؤسسة ثقافية، وتتعاون معها وزارات وأجهزة معنية، وسيكون لاستضافة الطلاب العرب فيها، وتدريبهم، وأخذهم في جولة على بعض النواحي، مع إتاحة أداء العمرة والزيارة، آثار حميدة ضمن ما يُسمى بالقوة الناعمة.

وإلى أن يحدث هذا وعسى أن يكون قريبًا، سوف تظلّ الكتابة حرفة جاذبة لأهلها من الشداة والخبراء، ولن ينقطع التأليف عنها، ولا التدريب عليها، مع صعوبة ذلك، وكلفته، ورهقه، بيد أن مآلاته طيبة مباركة، ويكفي منها أن يرتبط الكاتب بالقراءة، والتفكير، والبحث، وأن يسمو بعقله ولفظه ومشاعره، ويخدم أهله ومجتمعه وبلاده؛ فالكتابة في الأعمال العقلية أخت للفروسية في الأعمال البدنية، والفارس دومًا رفيع أبي يبتغي في شأنه كله العلياء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 10 من شهرِ شعبان عام 1442

23 من شهر مارس عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)