ذكريات جامعية بين الثقافة والرياضة
جلست مرة مع رجلٍ تولّى عدّة مناصب لسؤاله عن أناس وأحداث، فقال لي: عمري ستة وثمانون عامًا، وأشكّ بمقدار الفائدة التي ستخرج بها مني! فأجبته بأني واثق من تحقق الفائدة المنشودة، وحين تحدّث وهو الذي منحني ساعة من وقته فقط، انطلق مسترسلًا لأربع ساعات متواصلة، وفي ختامها أبدى عجبه من قوة ذاكرته التي أساء بها الظنّ؛ بيد أنها تدفقت، وهو أمر لم أستغربه لكثرة ما قرأت أو سمعت أو حتى جرّبت- مع اختلاف العمر-.
وبعد أن سردت في الأسبوع الفائت حكاية حدثت معي إبّان الدراسة الجامعية، وتفاعل الزملاء معها، حتى نال المذكورون فيها نصيبًا من الدعاء والاستغفار، رأيت أن أسرد قصّة جامعيّة أخرى، بَيْد أنها ليست مع الأساتذة والاختبارات، وإنما مع الأنشطة اللاصفية، ومشرفيها، وهي أنشطة تفيد الطالب والجامعة والمجتمع، وفي استمرارها، وتأييدها نفع مبارك، واكتساب خبرات، وبروز مواهب، وعمارة أوقات حتى لا تغدو دمارًا وملهاة دونما طائل.
فمن ذكرياتي عن تلك الأنشطة، أني شاركت وزميلي المثقف الأديب خالد بن حمزة المدني -سلمه الله تعالى- في مسابقة فرسان الجامعة لتمثيل كلية الصيدلة، وهي مسابقة ثقافية تُعقد في مسرح الجامعة الكبير بعد العشاء، ويحضرها جمع غير قليل من الطلاب لما فيها من تنافس، وجوائز، ومعلومات، ولقربها من سكن الطلاب، هذا غير تشجيع الكليات والزملاء، وإمضاء الوقت بشيء ماتع مفيد.
وبفضل الله ثمّ بوجود المدني، استطاع فريقنا أن يتقدم على الكليّات جميعها، وينافسه في ذلك فريق كلية الهندسة، ومن ضمنهم زميل نابه حافظ للقرآن والسنّة اسمه عبدالله آل جناح، وآخر عهدي به تلك الأيام، والمهم أن المعركة كانت ضارية بين الفريقين، وأتعبنا الجناحي بثقافته الواسعة، واستحضاره لما في كتب المسابقات؛ حتى قال البعض مستظرفًا عنه: إنه يحفظ الكتب التسعة في المسابقات!
مما أذكره في تلك الليلة أن مدير اللقاء المهندس عثمان العثمان سأل سؤالًا عن ثلاثة مفكرين يهود أثروا في أوروبا وفي فكرها، ومحور سؤاله عمّن هم؟ وماهي علومهم التي برزوا فيها؟ وما أبرز نظرياتهم؟ فسكت الجميع ثمّ أجبت عن هذا السؤال إجابة كاملة صحيحة، وفيما بعد قال لي أحد الحاضرين: هذا السؤال هو الوحيد الذي يقيس الثقافة! وهمس في أذني آخر قائلًا: يبدو أنكما -المدني وأنا- تعرفون كثيرًا عن اليهود؛ ذلك أن خالدًا سبق بالإجابة عن سؤال لم يعرفه أحد حول اليهود أيضًا!
من لطائف تلك المسابقة أيضًا أن المعدّ وضع أسئلة لا يستطيع الإجابة عنها سوى الزملاء الأفارقة الدارسين في معهد تعليم اللغة العربية تلطفًا معهم، مثل عواصم دول إفريقية، وترتيب تلك الدول حسب موقعها من نهر النيل، وعملاتها المحليّة، ومع أنها أسئلة يسيرة في العدد، ولا تمكنّهم من المنافسة لوجود حاجز اللغة، إلّا أنها جلبت لهم ولنا السرور، ولا بأس أن أشير إلى أننا وكلية الهندسة انشغلنا بالتطاحن، واستخدام خاصية تنقيص درجات الفريق الآخر، وفي النهاية فازت كلية العلوم التي لم تكن منافسة للفريقين؛ وإنما عراكنا هو الذي منحها الفوز!
أما الواقعة التي لا أنساها، فهي أنه بعد نزولنا للمسرح عقب نهاية المسابقة، جرى سحب عشوائي للأرقام، كي يخرج أصحابها في مسابقة سريعة أمام الجمهور، وكان أحد الأرقام من نصيب زميل مجاور لي في المقعد نسيت من هو الآن؛ فاقترح أن أخرج بدلًا عنه؛ ففعلت بعد استئذان العثمان، وربما أنّ الزميل منحني رقمه هيبة من الوقوف أمام الناس، أو لأنه رأى على المنصة طلابًا بأعيانهم، وأراد مني هزيمتهم، وهذا هو الأرجح.
فوقفت مع اثني عشر طالبًا على المنصّة، والطريقة تقتضي أنّ الذي يجيب عن أيّ سؤال يخرج واحدًا من الطلبة الواقفين معه، وآخر ستّة يصبح لكل واحد منهم جائزة، فأجبت عن الأسئلة بسرعة، وكلّ مرة أختار طالبًا للخروج، وهو من فئة تميزت بالمظهر واللباس، ولم يكن لهم قبول أو استلطاف في أوساط جمهرة الطلبة، وكلما أخرجت واحدًا منهم امتلأ المسرح تصفيقًا، وتوزعت ابتسامات الرضا على الوجوه، وحينما أجبت عن السؤال السادس ولم يبق من الذين أخرجتهم أحدًا، قلت للمهندس عثمان بجرأة فهم مغزاها: هل يمكن للزملاء أن يعرفونا بأنفسهم؟ فذكر كلّ واحد منهم اسمه، وعندها أعلنت أني أُخرج نفسي، وأبارك لهم الفوز بالجائزة.
ثمّ ضجّ المسرح بتصفيق كثيف وهتاف تشجيعي، وقام المشرف الثقافي لكليتنا الأستاذ محمد بن عبدالفتاح زهران -رحمه الله- كالسهم المنتصب مع أنه أشيب، وقال بصوت عالٍ، وافتخار ظاهر، وبلهجة مصرية: “الله يا أحمد! ثقافة وكمان أخلاق عالية”، كما تفاعل وكيل العمادة د.عبدالله الجاسر، وهو أستاذ في علم الاجتماع، وأمر بأن أُعطى جائزة مع الزملاء الستّة الذين أبوا أن يتقدموا عليّ، والجائزة إما آلة تسجيل كبيرة، أو طقم قدور طبخ، فأخذت الأول، وأهديته لإحدى القريبات من كبيرات السنّ -وربما أن الأواني أحبّ لها- وبعد هذه الحادثة بشهور، قابلني طالب وسلّم باحتفاء شديد قائلًا: أنا طالب في كلية علوم الحاسب، ولا أنسَ موقفك على المسرح الذي برّد على قلوبنا!
وبالنسبة للقصة الثانية، فحدثت مع المشرف الرياضي للكلية، ولم يكن بيننا علاقة سابقة، سوى في تلك السنة التي زاد الحرص على دعوتهم لمشاركتنا في النشاط الثقافي والاجتماعي، مع تقديمهم وتقديرهم، تحببًا وتوددًا، وكنّا نقيم مسابقة ثقافية بعد ظهر كل ّثلاثاء في مدرج الكلية، ويسعدنا بعضهم بالمشاركة فيها، وكذلك في المساجلات الشعرية، والرحلات وغيرها، وينال قسم منهم مراكز متقدمة، وجمهور الرياضة جمع عزيز، وجدير بألّا يُهمل لمزايا كثيرة فيهم.
وذات يوم هبطت على المشرف الرياضي بمكتبه، وهو سعودي من أصول عربية، فقلت له: يا أستاذنا لم لا تشاركنا عقب ظهر الثلاثاء؟ فاعتذر بأن أسئلتنا دينية، وثقافته الدينية ضعيفة! فسألته: وما أدراك أنها دينية؟ ثمّ أردفت: إنها مسابقة ثقافيّة عامة، وقد يكون فيها أسئلة دينية وقد لا يكون؛ فالدين مكون أساسي للثقافة، وجدير بأهله أن يعرفوا منه ما لا يسعهم جهله، وعزمت عليه أن يجهز نفسه في الثلاثاء القادم؛ لأني سوف اصطحبه معي للمدرج، فوافق بلطف خاصة حينما أيقن بأهميّة حضوره.
لذلك أعددت الأسئلة بنفسي، وتعمّدت أن تكون جميعها أسئلة رياضية خالصة من أي مجال آخر، وهي في العادة عشرة أسئلة، على كلّ سؤال أربع خيارات، واحد منها هو الجواب الصحيح، فتقصدت أن أحصر إجابة الأسئلة في الخيار الرابع، بحيث أن القلم يوصل بينها بخطٍّ مستقيم، وذهبت للمشرف وأخذته معي، وأجلسته حيث يستحق، وشرع يجيب عن الأسئلة بعد ان تصبّب عرقه، وكان جوابه صحيحًا في ثلاث منها فقط، لذا اعتذر بعد أن دعوته مرّة أخرى بحجّة صعوبة المسابقة، ومن المصادفات أني قرأت في وسم د.الخويطر عن ذكرياته وهو وكيل لجامعة الملك سعود، اسم موظف عربي نال الجنسية السعودية، يتوافق مع اسم مشرفنا ذاك، وربما يكون والده.
رحم الله تلك الأيام الخوالي، وجعلها في صحائف الحسنات، وموازين الأعمال، وغفر ما فيها من تقصير وأخطاء، وعمَر الحياة والذكريات بما يجمل ويحسن وينفع، والله يغفر لمن ارتحل من المشرفين والزملاء، ويوفق الأحياء لما يحب ويرضى، ويبارك لنا ولهم في الباقي من الأعمار، ويجعلها استثمارًا في المكرمات، ومراكمة للباقيات الصالحات.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 08 من شهرِ شعبان عام 1442
21 من شهر مارس عام 2021م