عرض كتاب مواسم ومجتمع

الإسراء والمعراج ليست معجزة فقط!

سوف أتجاوز تأريخ هذه الحادثة العظيمة المعجزة، ولن أقف مع جدال الناس عنها، وما أحدثوه في ليلتها من عبادات ليست مشروعة بنصٍّ شرعي ثابت سواء في الكتاب العزيز أو في السنة المشرفة الصحيحة فيما أعلم، وهما موضوعان يتشنج أطراف إبان نقاشهما وربما يوالون ويعادون عليهما، ويخوض بعضهم في النقاش الحاد أحيانًا متناسين العبر والدروس في هذه الآية التي لم تكن معجزة فقط، بل هي أكثر من ذلك.

وقعت هذه المعجزة بعد عودة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام من تجربته الدعوية في الطائف وبين ساداتها، وهي تجربة لم يُكتب للطائف شرف قبولها واحتضان الدعوة المحمدية والظفر بالقداسة والأجر، فكان فيها العزاء والسلوان للنبي الأعظم، فحين يرفضه أهل الأرض ففي السماء له قبول وأتباع هم من خير البشر والخلق، ولعمر الله إنّ حسن الظنّ بالله، ووثيق الصلة به سبحانه، لخير ما يعين الصالحين المصلحين، خصوصًا خلال حوالك الأيام التي تضيق منها الصدور، وتضيق عليهم الأرض بما رحبت.

وقبيل الإسراء بالنبي عليه السلام أتاه جبريل عليه السلام وهو أفضل الملائكة، وكانا في مكة أفضل مكان، وفي آخر الليل وهو أفضل ساعات اليوم؛ إذ يتنزل فيها الرب جلّ وعز لمن يدعو ويسأل ويستغفر، ثمّ شقّ الأمين صدر النبي مستخرجًا قلبه الشريف أفضل الأعضاء وملكها، وغسله بأفضل ماء وأقدسه وهو ماء زمزم الطاهر، ووضع قلبه بطست من ذهب وهو أفضل المعادن، وأما ما وقع للقلب بعد ذلك فهو أعقد عمل يُجرى في جسد إنسان، وفي النهاية أفرغ المَلك في الصدر النبوي أفضل ما يضمّه صدر من الحكمة والإيمان، وبهذا كلّه صح الخبر عن خير الخلق صلى الله عليه وسلم.

أما دلالات هذه المعجزة فكثيرة، منها انتقال قيادة البشرية من بني إسحق عليه السلام إلى بني إسماعيل عليه السلام، ومن القدس إلى مكة، فمع ما للقدس من مكانة راسخة لدى أتباع الديانات السابقة، إلّا أن مكة والمدينة تقدمتا عليها، مع بقاء المنزلة العظيمة للقدس في وجدان الأمة الإسلامية، فهي الأرض المباركة، وأولى القبلتين، وثالث المساجد التي يُشد الرحال إليها، والثالثة في مضاعفة أجر الصلاة بها، وهي مدينة الرباط، ولها شأن في آخر الزمان، ويوم المحشر المهيب.

وأحد أهم أسباب هذا الانتقال الجذري هو ما ارتكبه أهل الكتاب من عصيان وتبديل، وتقحمهم لما نهوا عنه بكل جرأة ودونما نكير، فزالت منهم الإمامة، وانتقلت عنهم القيادة، وذلكم التعليل ليس مقتصرًا على الأمم السالفة فحسب، وإنما هو باقٍ في الأمة المحمدية؛ فمن تولى عن أمر الله ومراضيه فسوف يستبدل الله بهم غيرهم، ولا يكونوا أمثالهم في العتو والإثم.

كما يفيدنا هذا الحدث المعجز أهمية الإفادة من التجارب السابقة، فنعرف عوامل نجاحها، وأسباب ما تخلّلها من إشكالات وأخطاء، وتلك خطة من الرشد تنفع جميع العاملين في دروب الإصلاح والتحسين، وفيها أيضًا تقديم للنبي صلى الله وعليه وسلم ليكون مبعوثًا للناس كافة، فهو إمام للأنبياء جميعًا ولأقوامهم، ولا نجاة لأحد إلّا بمتابعة هذا النبي العربي الخاتم المرسل للناس بلا استثناء، فما أشدّ عصيان أمم رفضت دين محمّد مع أن نبيها قد رضي به إمامًا، واعترف له بالنبوة والصلاح.

ومن ملامحها الواضحة أن دين الأنبياء واحد في أصله وهو الإسلام وإن اختلفت الشرائع، وأنّ أيّ نبي لا يسعه لو كان حيًا إلّا التصديق بالنبي محمد والإيمان به، حتى لو كان ذلكم النبي هو الشيخ الكليم موسى، أو الفتى الكلمة عيسى، عليهم جميعهم أكمل الصلاة والسلام، بل إن عيسى سوف ينزل في آخر الزمان مسلمًا مقتفيًا آثار النبي محمّد، ومعدودًا من صحابته رضوان الله عليهم، وهذا التنبيه يميت دعاوى الملة الإبراهيمية، ويكشف زيف دعوة وحدة الأديان، وينسف الباطل وأهله ويرديهما بإبطال إفكهم وما يفترون.

كذلك تشير صلاة الأنبياء خلف النبي الأعظم محمد عليه الصلاة والسلام، وإتمامهم الصلاة وراءه، وهم يأتمون به وهو إمامهم إلى نهاية الصلاة، بأنهم قد رضوا به إمامًا قائدًا، وبدينه الإسلام متبوعًا في جميع أصوله وفروعه، ويرسخون بذلك مبادئ الرضى والانقياد والمتابعة، وهي مبادئ تنطلق منها نجاحات كثيرة، ويؤكدون فوق ذلك على أن المؤتمرات والملتقيات بين الأكابر سنّة راشدة، خاصة إذا اتفقوا على المبدأ والقائد وأحكام القيادة وأسلوبها، وزاد الأنبياء من تأكيد ذلك حينما رأوا النبي في السماوات على اختلافها؛ فكلّ واحد منهم يرحب بمقدمه الميمون قائلًا: ” مرحبًا بالنبي الصالح، والأخ الصالح”.

أيضًا من لفتات هذه الواقعة الضخمة، أن المواقف الصعبة لا يثبت لها إلّا العظماء، فحين تزعزع إيمان البعض بعد حادثة الإسراء والمعراج لاستحالة وقوع مثلها في ليلة واحدة حسب أعراف البشر ومعهودهم، صدّقها الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وردّ على المشككين بعبارة مقارنة واضحة، فمن يصدّق رسول الله بنزول الوحي عليه وهو الأمر الأعظم والأصعب، فلسوف يصدّقه فيما دون ذلك من معجزات وأخبار، ولذا انخذل المرجفون وخابت مساعيهم بهذا الإيمان الذي وقر في نفس الصاحب الصديق.

ولقد كان من الحكمة الربانية أن لقاء أول وفد من الأوس والخزرج في موسم الحج مع النبي جاء بعد هذه الحادثة مباشرة، وهي الحادثة الغريبة التي تسامعت بها الجزيرة العربية، وطارت في أرجائها، فأتى وفد يثرب بعد أن بلغته القصة وتعليقات الكفار عليها وما يتناقلونه حولها، بيد أن تصديق الرسول قد وقر في قلوبهم، ووقع في نفوسهم، فأصبحوا أفضل من يحمل القابليّة لهذه الرسالة، وكانوا خير روّاد وأبركهم لبيوتهم، وقومهم، وبقاعهم، فنجوا وأنجوهم بالإسلام من الكفر، وصاروا من الصحابة السابقين المجاهدين، ونالت مدينتهم من الحرمة والقداسة ما لم يكن لها من قبل، وفيما بعد بُني على أرضهم ثاني المساجد الإسلامية في الأهمية والمثوبة، ودفن في بطن أرضهم الجسد الشريف إلى قيام الساعة، وغدت مدينتهم محميّة من الدّجال، ومأرزًا للإيمان.

ولا يفوتني أن أشير إلى أن أكثر هذه التأملات واردة في الفصل الثالث، من الباب الأول، ضمن رسالة دكتوراه غير منشورة عنوانها: النظرية السياسية في السيرة النبوية (دراسة وتحليل)، تأليف: د.عبدالحكيم الصادق أبو بكر، ويقع هذا الفصل في سبعة وعشرين صفحة، وفيما مضى كتبت عرضًا موجزًا عن هذا الكتاب، وقبل ذلك توسعت في الكتابة عن مبحثين من هذه الرسالة نشرا في كتابين مستقلين، أحدهما عن الخروج للدعوة في الطائف، والآخر عن صلح الحديبية.

فاللهم صلّ وسلّم وبارك على النبي العربي المبعوث للناس كافة، وعلى آله وصحابته وأزواجه وسلّم تسليمًا كثيرًا، واجعلنا من المهتدين بهديه، والمستنيرين بسيرته وما فيها من عبر ودلائل وآيات بينات، المتبعين لأمره ونهيه، خاصة أداء الصلاة المفروضة دون سائر الفرائض والعبادات من الله مباشرة عند سدرة المنتهى، وكم يجدر بنا ألّا ننشغل بموعد الحدث، أو بما يختصّ به، إلاّ إن ثبت من ذلك شيء بعلم مسند، فالأجدى أن ننصرف نحو تلك الدروس الجليّة والخفيّة في هذه المعجزات والوقائع، بل وفي تلكم السيرة المنيفة العاطرة بما تحويه من علوم وإرشادات لا تبلى ولا تنتهي الحاجة إليها.

 ahmalassaf@

الرياض- ليلة الخميس 27 من شهرِ رجب عام 1442

11 من شهر مارس عام 2021م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)