كل شيء عن أهل الحل والعقد
يوجد في المخترعات الحديثة زر لا يستخدم إلا في أوقات معينة، ولكنه يعيد للجهاز توازنه المفقود، ويضبط أي خلل فيه، وإذا انتظم أمر الجهاز توقف الزر عن عمله، ولهذا الزر من القوة، والعلم والقدرة، ما يجعله جديراً بهذه المهمة الخطيرة والاستثنائية، التي تحفظ كيان الجهاز من العطب أو التفكك، أو التداخل المربك، ويشبه هذا الزر في فكرته عمل أهل الحل والعقد من بعض الجوانب، ولأهمية هذه الفئة، ولتعريف القارئ بها؛ سأعرض هنا كتاباً مختصراً مفيداً عنهم.
عنوان الكتاب: أهل الحل والعقد: صفاتهم ووظائفهم، تأليف أ.د.عبد الله بن إبراهيم الطريقي، صدرت طبعته الثانية عن دار الفضيلة، عام (1425)، ويقع في (173) صفحة، ويتكون من مقدمة، ثم ثمانية فصول، يتبعها الخاتمة والفهارس، والمؤلف أستاذ في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وفي هذا المعهد جملة من أساتيذ السياسة الشرعية، وما أحرى الجامعة أن تسبق إلى إنشاء معهد عال للسياسة الشرعية؛ ينفع الله به كما نفع بغيره، وله عدة مؤلفات أخرى تتميز بالاختصار والوضوح، وتشمل موضوعات مهمة في السياسة الشرعية، وسأحاول استعراض بعضها لاحقاً، وجلها مطبوع، أو متاح إلكترونياً عبر موقع الألوكة.
نقل الشيخ الطريقي في المقدمة التي كتبها في غرة المحرم عام (1415)، وصف الشيخ محمد الخضري لمصطلح أهل الحل والعقد، بأنه مصطلح بديع جميل، وأبدى المؤلف استغرابه من عدم إفراد كتاب خاص عنه لا قديماً ولا حديثاً، حتى غدا لفظاً شكلياً غير واضح المعالم؛ حتى عند بعض المثقفين والمفكرين، ولذا نهض الطريقي لهذه المهمة مأجوراً.
وفي عام (1425)، أصدر المعهد العالمي للفكر الإسلامي بأمريكا، كتاباً عنوانه: دور أهل الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم، تأليف د.فوزي خليل، ولم أستطع الحصول إلا على نسخة مصورة منه بواسطة فرع المعهد في الأردن! وأصله رسالة ماجستير، مقدمة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بجامعة القاهرة، وسبق للمؤلف أن درَّس في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام.
مفهوم أهل الحل والعقد هو عنوان الفصل الأول، وقرر المؤلف أن المصطلح ظهر متقدماً، ولم يرد في نص شرعي، واستعملته طائفتان هما: الأصوليون، وعلماء الفقه السياسي، وأول من استعمله أبو الحسن الأشعري (ت 330)، ثم القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403)، وتحدث عنه بعد ذلك إماما الفقه السياسي: الماوردي (ت 450)، وأبو يعلى الفراء (ت 458)، في كتابيهما عن الأحكام السلطانية؛ وعليه فالمصطلح لم يرد في نص، لكن العلماء استعملوه وعُرف بينهم، ويتقاطع معناه مع مصطلحات شرعية أخرى هي: أولو الأمر، العلماء، أهل الاختيار، أهل الاجتهاد، أهل الشورى، أهل الشوكة، أهل الرأي والتدبير.
والمراد بالعقد والحل؛ عقد نظام المسلمين في شؤونهم العامة السياسية وغيرها، ثم حلِّ هذا النظام لأسباب معينة، وإعادة عقده وترتيبه من جديد. والترتيب بين اللفظين غير مراد، وإنما جاء متوافقاً مع سهولة النطق والجريان على اللسان. وثمة اتجاهات في تحديد من هم أهل الحل والعقد، وبعد أن ذكرها المؤلف رجح قول الإمام النووي بأنهم العلماء والرؤساء ووجوه الناس. ويرى المؤلف أن مفهوم أهل الحل والعقد يمكن تأصيله من خلال مفاهيم أخرى كالشورى، والحسبة، والنصح للمسلمين، ومسؤولية العلماء، والمسؤولية الجماعية والنيابية.
وبين أهل الحل والعقد، وأهل الشورى فروق هي:
- أهل الحل والعقد يبتدئون الشورى، ويقدمون الرأي دون أن يطلب منهم، وأهل الشورى تطلب منهم المشورة.
- يلزم أن يكون أهل الشورى من ذوي التخصص، أما أهل الحل والعقد فمن ذوي التخصص، وذوي القدرة والشوكة.
- مهمة أهل الشورى مستمرة ومنتظمة، وأما أهل الحل والعقد فمهمتهم طارئة.
- يمكن أن تستشار المرأة فيما يناسبها، ولا تكون أبداً من أهل الحل والعقد، ومثلها غير المسلم.
ومع وجود هذه الاختلافات، فبينهما قواسم مشتركة، ويمكن بتنظيم معين ضم الهيئتين في مجلس واحد.
عنوان الفصل الثاني ألقابهم وصفاتهم، فأهل الحل والعقد يتشاركون مع أولي الأمر بالنفوذ، ومع العلماء بسمة العلم وهي أساس متين، ومع أهل الاختيار حيث أن الاختيار هو أهم مهماتهم، ويتطلب عملهم قدرة على الاجتهاد، ويمارسون وظيفتهم من خلال الشورى، وحتى يمضي قرارهم فلا مناص من وجود شوكة وبأس يعين على ذلك، وهم أهل الرأي والتدبير؛ بما حباهم الله من بصيرة تمكنهم من حسن تصريف شؤون المسلمين.
ثم انتقل أ.د.الطريقي إلى صفاتهم وشروطهم، وذكر عن الماوردي وأبي يعلى ثلاثة شروط لأهل الحل والعقد، هي:
- العدالة الجامعة لشروطها.
- العلم الموصل لمعرفة من يستحق الإمامة.
- الرأي والحكمة.
وفصلها إلى شروط أساسية، وشروط تكميلية، والأساسية هي:
- العقل والبلوغ، وبهما تتحقق الأهلية والقدرة على الفهم.
- الإسلام، ولا خلاف فيه بين أهل العلم.
- العدالة، وهي الاستقامة والاعتدال، وتطلب في كل ولاية.
- العلم، والمعني على وجه الخصوص العلم الشرعي؛ الذي يتيح الاجتهاد والاختيار، ووجود أهل العلم المخلصين ضمن هذه الفئة؛ يمنحها مكان الصدارة والقيادة.
- الرأي والحكمة.
- الشوكة، وهي القوة والبأس، ولا بد منها كي ينفذ رأي أهل الحل والعقد.
- الذكورية.
والشروط التكميلية هي:
- الاجتهاد في الشريعة الإسلامية.
- الخبرة والتجربة.
- المواطنة، والمقصود بها الإقامة في دار الإسلام، وللعلماء سلطة تتجاوز الحدود السياسية كما يرى المؤلف.
- الورع.
وثمت سؤال مهم، هو عنوان الفصل الثالث إذ كيف يُعرفون؟ ومن يعينهم؟ وللباحثين خمسة آراء على النحو التالي:
الأول: أنهم يعرفون من خلال صفاتهم، ويؤدون مهامهم دون تكليف من أحد.
الثاني: يعينهم الإمام.
الثالث: تختارهم الأمة بالانتخاب.
الرابع: الجمع بين الانتخاب والتعيين؛ بحصر الانتخاب ضمن مجموعة مؤهلة.
الخامس: ترك الأمر للاجتهاد حسب الأحوال.
ويرى المؤلف أن كل رأي له وجه وتعليل، والذي يترجح لديه هو الرأي الأول، ويصفه بأنه الأليق بأمة الإسلام، مع أهمية التفريق بين حال وجود الإمام وحال عدمه، فإذا وجد؛ فلا بأس أن يشارك في تنظيم هيئة الحل والعقد، واختيار أهلها؛ دون مصادمة الأصول المذكورة في صفاتهم.
مركزهم في الأمة هو عنوان الفصل الرابع، حيث يكيِّف المعاصرون العلاقة بين الأمة وأهل الحل والعقد على أنها تقوم على النيابة أو الوكالة، فهم يتصرفون لصالح الأمة ونيابة عنها، ويرى المؤلف أن العلاقة مزدوجة من التوكيل والتولية، وهي أشبه بالإمامة العظمى، وبناء عليه، يجب على الأمة تجاه أهل الحل والعقد أمران:
- طاعتهم بحكم ولايتهم.
- نصحهم وتسديدهم بحكم الوكالة.
أما العلاقة بينهم وبين الإمام، فتقوم على التعاون والتفاهم، ولكل طرف على الآخر حق الطاعة بالمعروف دون معصية، وفي حال التعارض والاختلاف فمرجعهم إلى الكتاب والسنة.
كما يبحث الفصل الخامس وظائفهم وكيفية تطبيقها، ويلخص المؤلف وظائفهم فيما يلي:
- الوظائف العلمية: وتشمل بحث النوازل، وكشف الشبهات، ومراقبة التنظيمات، كي لا تخالف الشريعة.
- الوظائف الاجتماعية: وتشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين المتنازعين.
- الوظائف السياسية: وتشمل اختيار الإمام، ومبايعته أو مبايعة المعهود له إن ارتضوه، ونصح الحاكم، وعزله إن طرأ ما يوجب العزل وقدروا عليه بلا ظلم ولا فتنة، وهي أعسر مهمة، وأخطر الوظائف.
- وظائفهم حال خلو الزمان من إمام أو تفريطه: حيث تنتقل إليهم صلاحيات الإمام وواجباته؛ حتى لا تضيع مصالح الناس، ولا ينفرط أمن البلد، وتسير شؤون الدولة بانتظام؛ حتى يختاروا إماماً شرعياً لها.
بينما يدرس الفصل السادس عددهم، ويقرر المؤلف أن مسألة العدد مرتبطة بمهمة اختيار الإمام أو خلعه، دون المهام الأخرى لأهل الحل والعقد، وفي المسألة قولان؛ إذ يشترط الأول توافر عدد معين تنعقد به الإمامة، ويقع ضمن هذا الاتجاه أقوال عدة، والاتجاه الثاني لا يشترط عدداً معيناً، وبعد عرض الأدلة ونقاشها، يرجح المؤلف أن الإمامة تنعقد بجمهور أهل الحل والعقد من ذوي الشوكة والقدرة والسلطان.
ويناقش الفصل السابع مسألة طاعتهم، فنظراً لصلاحياتهم الواسعة هل يجب على أفراد الأمة طاعتهم؟ وبعد شرح المسألة، يخلص المؤلف إلى وجوب طاعة أهل الحل والعقد؛ من العلماء والزعماء والوجهاء والأمراء، كما يجب الانضواء تحت سلطتهم وعدم منازعتهم، والشرط الأساس في كل طاعة؛ أن تكون بالمعروف، وفي غير معصية الله. فإن اختلف أهل الحل والعقد وجب اتباع جمهورهم، وإن التبس الحق على المرء؛ فله أن يعتزل إذا لم يمكنه التمييز أو الإصلاح. وإذا اختلف أهل العلم مع أهل السلطة، فالواجب طاعة أهل العلم؛ على اعتبار أن رأيهم متوافق مع الشريعة ومقاصدها.
وعنوان الفصل الثامن والأخير مقارنة مع النظام الديمقراطي الحديث، ويصفه أ.د. الطريقي بأنه من المكملات الجمالية لبحثه، ويبرز سمو النظرية والتطبيق في النظام الإسلامي، حيث يتشابه معه النظام النيابي الغربي في أوجه، ويختلف عنه في أوجه أخرى. فمن وجوه الشبه بينهما: فكرة النيابة والوكالة، ووجود اشتراطات في الأعضاء، وأن النواب هم مشاهير الأمة غالباً، ولهم صلاحيات واسعة جداً.
وأما أوجه الاختلاف فهي كثيرة، حيث يختلفان في النشأة والتطور، وصفات الأعضاء وشروطهم، ووظائفهم ومهماتهم، ومن حيث الخصائص، ويكفي النظام الإسلامي أنه جاء مع الدين والوحي، ولم ينتزعه الناس بعد صراع مرير كما في الأمم الأخرى، وختم الباحث سياحته المضنية الماتعة، بنتائج وتوصيات، آخرها وصية عامة للمسلمين؛ بمعرفة حق هذه الهيئة ومنزلتها، وأهمية الرجوع إليها ومؤازرتها.
وقد جعل الله من بركة العلم وأهله إذا صدقوا، ونصحوا، واتقوا ربهم، ما يحفظ به البلاد والعباد من الشبهات، والشهوات، والفتن والاضطرابات، وكم يحتاج عالمنا الإسلامي، إلى عملية إحياء حقيقية لمؤسسة العلم وولاية أهله؛ كي تكون سلطة العلماء مستقلة، تراقب السلطات التنفيذية، والتنظيمية، والقضائية، وتقوِّم اعوجاجها، ولو أن أهل العلم صانوه لكان أهله كذلك، وأزيد، وأقوى أثراً، وأعظم نفعاً.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة 10 من شهرِ ربيع الآخر عام 1436
30 من شهر يناير 2015