قراءة وكتابة

لا تخجل من التحرير!

لا تخجل من التحرير!

هل سبق أن سمعت قصة من مصدرين مختلفين، فأعجبك أحدهما وأخذ بسمعك وعقلك خلافًا للآخر، دون أن يكون الفرق بين المتحدثين أن أحدهما من طائفة الخفِرات البيض الذين قال عنهم شاعر عربي قديم: ودَّ جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها؟ وهل طرأ عليك سؤال عمّا يجعل لفظ أحدهما أوقع، ولحنه أعذب، وطريقته آسرة، وانتقالاته لافتة، ونغمته متفاعلة، وحضوره الذهني يشع ويفيض، مع أن المحتوى واحد، وربما أن الأقلّ أداءً أعلم بالموضوع وتفاصيله من الثاني؟

هكذا يكون الأمر مع الكتب العلمية والأدبية التي يؤلفها عمالقة وأسماء بارزة في حقولها، والسر يكمن في تجلية الفكرة، وضبط الإيقاع، وحفظ التوازن والاتساق، من خلال إتقان صنعة الحكاية، وإجادة حبكة الكتابة، وفنّ الرصف والتوليف، وشجاعة الحذف والإضافة، ومهارة التقديم والتأخير، وبراعة التوسيع والاختصار، والإبداع في التقسيم والعنونة، وحسن الاستهلال، وجمال التخلّص، وكمال الختام بتلويحة وداع رائعة، وهذه إحدى مهمات المحرر الذي يحضر بقوة في دور النشر الغربية مهما بلغ المؤلف من مرتبة في ساحات العلم والأدب، وهو حضور لا يعيب طرفيه، ولا ينقص من قدرهما.

لذلك نلاحظ أن كبار الكتّاب والمؤلفين في الغرب يتخذون محررًا أو أكثر، وأن دور النشر هناك تستعين بمحررين خبراء؛ فتقترح الدار على المؤلف تغييرات بعضها يكاد أن يكون جوهريًا، أو قاسيًا، أو شديد الوقع على كاتبه، دون أن يحدث هذا الصنيع -في أحيان كثيرة- شقاقًا بين هذه الأطراف، وكم تلفت انتباهنا قوائم الشكر في جلّ الكتب الصادرة بلغات أجنبية، وأكثر ما يفيض المؤلف من ثناء ينصرف إلى المحرر والمراجع الذي يقوم صلب عمله على النقد البغيض عند أكثر البشر!

كما يُنسب لبعض المحررين الفضل فيما ناله كتّاب وروائيون من شهرة وبروز حتى صاروا رموزًا، أو نالوا جوائز عالمية، ويحفظ التاريخ الإبداعي لأولئك الكتّاب الفطاحلة والأساطين أثر المحرر النّحرير على إنتاجهم وإن كان المحرر خفيًا، إضافة إلى سماحة كثير منهم فيما يبديه المحررون من آراء، حتى لو حذف أحدهم مئة صفحة من رواية كتبها روائي عالمي مثل “ماركيز”، أو شطب تسعين ألف كلمة من عمل أدبي خطه يراع أديب بارع مثل “وولف”، وفي النهاية يبزغ العمل للجمهور بوضاءة ورشاقة وقف خلفها محرر بارع، وذهب عاطر الثناء لمن ثبت اسمه على الغلاف فقط.

وليست الصورة مُثلى في الغرب الذي قطع أشواطًا في مضمار التحرير؛ حتى لقد أنكر بعضهم فضل المحرر عليه، وآل الحال أحيانًا إلى منازعة وملاسنة وربما منازلات قضائية وصحفية، ووصف بعض المؤلفين المحررين بأنهم كتّاب فاشلون، بينما قال الكاتب الأمريكي “هنري جيمس” عن التحرير الأدبي بأنه مثل مهنة الجزار، ووصم أحدهم محرره بنقص الفهم، كما قلّل الروائي الروسي “نابوكوف” من عمل المحرر وقصره على مجرد التصحيح الإملائي والنحوي وهو مذهب خاطئ تمامًا، وشبّه الروائي الإنجليزي “لورانس” عملية التحرير كما لو أن أحدهم يقطع أنفه بمقص، وبحسب الروائي الأمريكي “أبدايك” فالمحرر حلاق، وشنّع آخرون على المحررين بتهمة تدمير العمل، وفي بعض ما ذكروه وجه صواب وإن كان لا يعكس الصورة كاملة، ولا يغمط المحرر إبداعه وآثاره الحميدة.

إن عمل المحرر يقوم على أمانة نحو أطراف عديدة هي المؤلف، والقارئ، ودار النشر، وصناعة الكتاب بالجملة، بل هو مسؤول عن ثقافة المجتمع وذائقته ووعيه، بما يجيزه ويقترحه من إضافة، وحذف، وتعديل، وتطوير، ولربما أنه كان سببًا في سمو أقلام تنتمي لبلده وثقافته وحضارته كلّما أخلص وكان حصيفًا، ومن يدري فلعلّ عمله الدقيق أن يكون عاملًا في خلود المنتج لأزمان متطاولة، ثمّ يغدو من الأجر والذخر الأخروي الباقي.

وهو جهد يختلف عن فعل الكاتب وحرفة الكتابة، ومع ذلك فالكاتب المنصف قلّما يستغني عن رأي ناصح، فالنّاظر في العمل أبصر بمواطن الخلل من منشئه ولو كان أعلم وأعرق بالتخصص، خاصة إن كان الناظر له مشاركة في الكتابة والتأليف مع قدرة على المراجعة والتحرير، فالمحرر قارئ خبير بفنون الكتابة، وكاتب عالم بذائقة القراء، وصاحب حرفة بصير بسوق الكتاب، ويوازن في عمله بين رغبات المؤلف، ومعايير الناشر والموزع، وتوقعات القارئ والباحث، ومتطلبات النظام، ويعطي لكل ذي حقٍّ ما يستحقه دونما بخس، أو جناية على أيّ طرف، وغايته القصوى نجاح مشروع التأليف، وتسويقه، وإفادته.

لأجل ذلك يمكن وصف حقيقة عمل المحرر بإنه شدّ الترهلات، وجعل النص متينًا مبينًا، وضبط الانسياب من خلال الإمساك بالمعنى وحفظ بهاء المبنى، وسبك اللفظ بصبّه وتطويعه لخدمة المقاصد المبتغاة؛ لأن الهدف من التحرير يتلخص في إحكام بنية العمل التركيبية والدلالية لتغدو قوية الهيكل، غزيرة العطاء، وهي أشبه بجراحة كبرى أو صغرى أو تجميلية، يُستخدم فيها المقص للبتر أو التهذيب، ويستفاد من الإبرة بالحقن أوالوصل والرتق، وكلاهما أداتان موجعتان بيد أنهما ليسا من قبيل الاعتداء على مكانة الكاتب، فالثقة المتبادلة بين الكاتب ومحرره تدفع المشاعر الكيدية والظنون المسيئة، وتظهر ثمرة الاشتراك بينهما في جلي النصوص وجعلها مضيئة كما قال “ماركيز”، وهذا كلّه يقود إلى تجويد العمل وتجميله، وحاشاه أن يؤدي إلى هدمه أو تخريبه.

أما كيف يعمل المحرر، ومن أين يبدأ، فهذا ما سيكون بيانه في مقالة أخرى، ذات نَفَس تعليمي، أتوكأ فيها على عدد من القراءات، والنقاشات، وعلى خبرة في تحرير عدد من الكتب ضمن حقول معرفية مختلفة مثل الإدارة، والتربية، والعمل الخيري، والأوقاف، والتثقيف الصحي، والإعلام، والفكر، والسير الغيرية والذاتية، والمواثيق والأنظمة، وآمل أن تكون تلك المقالة الموعودة مفيدة لمن يقرأ سواء من المؤلفين أو من المحررين، أو من الناشرين، ومن الأكيد أنهم لن يبخلوا عليّ برأي، أو إضافة، ومن القطعي أني سأولي آراءهم جلّ العناية والنظر؛ ذلك أني مؤمن -فيما أعتقد- بالتحرير والنقد والمراجعة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 10 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1442

23 من شهر يناير عام 2021م  

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)