إنه يومنا الأجلّ!
يذهب المصلون لأداء صلاة الجمعة ومعهم جميع حواسهم، فالعين تنشرح برؤية إخوانها، والأذن تأنس للترتيل والذكر والدعاء والتأمين، والأنف لا يجد إلّا زكي الرائحة وأطيب العطور، وتتصافح الأيدي كي تتحاتّ منها الخطايا، وتتلاصق الأجساد لتزداد المحبة وتزول المشاحنات، فيتذوق المسلم آنذاك جمال اليوم، ويستشعر كمال المنحة الربانية به، وينتج عن مجمل هذه الأحاسيس راحة بالغة لا تباع ولا تشترى.
وينوي العباد -صالحهم ومقصرهم- بذهابهم إلى المساجد جماعات وأفرادًا أن ينصتوا إلى الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثمّ يستمعوا إلى أيّ قول علمي يوافقهما؛ فهناك ميزان يحتكم إليه الجميع سواء السامع أو المتكلم على المنبر، ولو خرج الخطيب -لا قدر الله- عن تلك الحدود الشرعية الواضحة -طوعًا أو كرهًا- لفقدت خطبته من قيمتها بمقدار خروجه عن الجادة.
لذلك فليوم الجمعة قوة معنوية، ولخطبته أثر وإن لم يكن ملحوظًا على المدى القريب، ولمنبره الشريف سلطة في التوجيه والإصلاح وحماية جناب الشريعة، وحفظ مقاصد الدين، ورعاية مصالح العباد، ولذلك فهو هبة ربانية تستحق الحمد والشكر من الجميع، فهو للفرد يوم يسترد فيه روحانيته وعافيته، وللعالِم مجال للتعليم والدعوة والاحتساب، وللبيت سبب للسكينة والألفة بعد أن غشيت أهله الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وللمجتمع سبيل ائتلاف ووفاق، ولا غرو فاسمه يشير إلى الاجتماع وهو مطلب شرعي ومعيشي، وهو فوق ذاك عيد يحمل لأهله الجائزة والبشرى والفرح مع حسن اللقاء.
كذلك من بركات الجمعة أن الناس تجتمع فيه مهما تخالفت في أشياء كثيرة من شؤون الدين أو أعمال الدنيا، وحتى لو تخلّفت عن أداء شعائر أخرى، فهي أمة مهما ابتعدت عن معين دينها ستعود إليه وإن اجتالتها شياطين أجلبت بشهواتها وشبهاتها، والحمدلله أن جعل في هذا الدين بذور الحياة الأبدية والبقاء الدائم؛ وصيّر يومهم الأميز شعيرة وشريعة، وفيه سنن وفضائل، ودعاء مستجاب يتحرى الموفقون ساعته.
كما أن يوم الجمعة كاشف لخبث سرائر الذين يتهاونون عن شهود صلاته واستماع خطبتيه مرارًا دونما عذر، وهو فاضح للمفسدين الذي يستهدفون ليلته أو يومه بما ينافي مكانته وروحانيته، وهو مبين لقبح أقوام اتخذت ليلته زمنًا للسكر والعهر، ومع ذلك فسيبقى يومًا طاهرًا بصلواته وتلاواته وابتهالاته، وبما يقع في نفوس المسلمين به، ومن أجلّ ذلك التواصي بالصلاة والسلام على سيدنا الحبيب، النبي الخاتم الأكرم عليه الصلاة والسلام، وإن خفت ضياؤه في نفوس أقوام فسيبدل الله بهم غيرهم ولا يكونوا أمثالهم.
وهو يوم يعلّمنا فضيلة السكينة، وأدب الصمت والاستماع، وجمال النظافة الحسية والمعنوية، ووحدة الأمة في مصادر التشريع، ووحدتها في آمالها وآلامها، ومركزية اللغة العربيّة، ورقي الأخلاق التي حثّ عليها الإسلام من فسح المجالس، وهجر الأذى حتى في يسير الكلام، أو قليل الخطوات، أو في تخطي الرقاب، وفوق ذلك يلهمنا الصبر على المفرطين، وياله من يوم لو فقهنا إشاراته.
أيضًا من عظمة الشعيرة وكمال الشريعة المرتبطة بيوم الجمعة، أن المسلم يخرج منه بقدر من الروحانية -تزيد أو تنقص- أيًا كانت مدّة مكوثه في المسجد، ومستوى تركيزه مع الخطيب، ففيه أجواء تفيض بنسائمها ونفحاتها على الحضور فمقلّ ومستكثر، والسعيد من اغترف من الحسنات وما اكتفى، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء من عباده، والعاقبة دومًا للمتقين المصلحين.
فما أجدرنا أن نفرح بهذا اليوم فهو الوحيد الذي نزلت باسمه سورة قرآنية كريمة، وبه سبقْنا يومي اليهود والنصارى فهو اليوم الأول، وقمين بنا أن نغتنم ما فيه من كمالات وفيوض تجلو صدأ النفوس، وتزيل همومها. وما أبهاه من حال، وأقواه من مآل، حين يستعدّ الجميع ليومهم العظيم بالخير والمكرمات، سواء كنّا فيه من الخطباء أو المستمعين، أو من المعذورين عن المشاركة في صلاته وخطبتيه؛ لأنّ الكافة شركاء في باقي فضائله منذ ابتداء ليلته إلى غروب شمسه، فيوم الجمعة يجمعنا في الدنيا وفي جنان الآخرة بإذن الله.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-عنيزة
الخميس 18 من شهرِ ربيع الآخر عام 1442
03 من شهر ديسمبر عام 2020م
One Comment
اليوم الجمعة والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اهله واصحابه اجمعين .كما تفضلت فالسعيد من اغترف من الحسنات وما اكتفى . اللهم اتنا والمسلمين من فضلك واجعلنا من المتقين المصلحين امين .