ألفيّة التدريب على الكتابة
قدّمت بفضل الله برامج تدريبية على الكتابة منذ بضعة عشر عامًا ولازلت، فبعضها طويل، وبعضها الآخر قصير، ومنها ما هو ضمن مشروع استمر عدّة أشهر، وفيها الوحيد القائم بذاته، وهي إما عامّة أو خاصّة، وكلّ قديمها عن قرب إلّا ما ندر، وأكثر حديثها بعد جائحة كورونا عن بُعد، حتى بلغ عدد الذين حضروا هذا البرنامج من داخل المملكة وخارجها أزيد من ألف مشارك ومشاركة والحمد لله.
وبما أني تجاوزت الألفيّة الأولى، رأيت من المناسب أن أنشر ما ترسخ لديّ من خلاصة الخبرة مع هذا الجمع الكريم؛ لعلّها أن تفيد في برامج تعليم الكتابة المحلية والعربية، علمًا أن علاقتي مع بعضهم مستمرة، وقسم منهم لا ينقطع بين آونة وأختها في مدٍّ وجزر، وآخرون مضوا في سبيلهم راشدين، والله يوفق الجميع، ويعظم بهم الأثر.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أن منهم من داوم على الكتابة والتأليف، وفيهم من شارك في مسابقات وفاز بمراكز متقدمة، ونشط بعضهم لإعادة علاقته مع الكتاب والقلم والورق، ورجع آخرون إلى كتابات قديمة بالتصحيح والتنقيح، كما سررت للغاية بأخبار الذين تعاقدوا على أعمال كتابية ذات مردود مادي مع مؤسسات أو أفراد، وبأولئك الذين رشحوا لعضوية هيئات نشر وتحرير، ولم أستغرب ففيهم مبدعون ومجتهدون كثر.
فأول خلاصة انتهيت إليها هي أن رغبة الكتابة شعلة لا تكاد أن تنطفئ في نفوس كثيرة، وتصل عند بعضهم إلى مرحلة الشغف وما يشبه الفناء الصوفي، وإنما حال بينهما أو أعاقهم دون الالتصاق بها شيء من صعوبة الابتداء، والارتباك البشري في أداء المهام، والتأخر في بناء العادات، إضافة إلى أوهام مترسخة، وخوف ليس له ما يسوغه، فحتى يصنع الكاتب نفسه ويعين من يساعده في هذا الميدان فلا مناص له من عزيمة ذاتية متجددة، وتحطيم لكثير من أغلال النفس وقيودها.
لذلك شعر كثير منهم أن “صناعة الفكرة” للكتابة أو للمحتوى أمر غير عسير بعد معرفة تقنياتها، والتدرب عليها، ثمّ إجادتها بالتكرار، وتطويرها بالمران والعناية، وربما صرخ أحدهم في أعماق نفسه متحسرًا على أفكار عبرت من أمامه دون أن يصطادها؛ فالأفكار ملقاة على جانبي الطريق تنتظر من يمسك بها، وهي سمحة متعاونة لا ترد يدًا مستحقة امتدت إليها عبر أبوابها وطرقها.
كما وجد آخرون أن الإمساك بالقلم أو وضع الأصابع على لوحة المفاتيح يزيل الرهبة الأولى تجاه الكتابة، وتذوب هذه الرهبة بعد أن يكتب الواحد منهم أحداث يومه حتى اللحظة التي جاء فيها إلى البرنامج، ومع الاسترسال في كتابة اليوميّات دونما تنقيح يتملكهم العجب من مستوى التدفق والقدْر الذي كتبوه، ومع المراجعة والتهذيب تنمو المقدرة وتتوهج الموهبة، وفي تدريب شخصي لمدة أسبوع أقسم المشارك بعد أن رأى عجبًا من إنتاجه أنه فيما مضى عجز عن كتابة سطرين!
لأجل هذا خرج المشاركون بقاعدة عمليّة متأصلة في نفوسهم موجزها أن الكتابة اليومية من أهم المعينات على الاستمرار والتأليف، وهذه العادة مكنت الشيخ العبودي والدكتور الخويطر من إصدار عدد ضخم من الكتب، وعدد إصدارات أولهما غير مسبوق -فيما أظن- محليًا وعربيًا وربما عالميًا، ونسبت كاتبة فائزة بجائزة نوبل الفضل في إنتاجها الغزيز إلى الكرسي الذي تجلس عليه؛ لأنها لو لم تجلس فلن تنجز شيئًا.
أيضًا لاحظت عند عدد ليس قليلًا من المشاركين تكرار الأخطاء في النحو، والإملاء، وعلامات الترقيم، وأُرجع هذا الخلل إلى أمور منها قلة القراءة، أو ضعف الملاحظة حين القراءة، أو سوء التعليم التأسيسي، أو الإهمال الشخصي والأسري والتربوي، وهو أمر يمكن أن نفهمه ضمن سياق ضعف المخرجات التعليمية، وانخفاض العناية باللغة العربية وعلومها على صعيد الأفراد ومؤسسات المجتمع فضلًا عن المناهج؛ ولكننا مع تفهمه لا نقبله فهذه المناقص منغصة مفسدة تفعل مثل صنيع الجدري في وجه حَسَن.
كذلك يشترك مع الملحوظة أعلاه وجود أحوال فقر في المفردات فضلًا عن خللٍ في إدراك معانيها، مما يجبر الكاتب الشادي على تكرار كلمة في عمله وهي غير أساسية لدرجة لوكها حتى تصبح خَلِقة مملة للقارئ، أو استعمالها بخلاف معناها، وتزول هذه المعضلة القاتلة كتابيًا بكثرة القراءة في مصادر الآداب القديمة ودواوين الشعر زمن الاحتجاج، مع النظر في كتب المعاني والألفاظ والتراكيب والأمثال، وهو ما أقبل عليه كثير منهم إقبال ضمآن على مورد ماء، فالكلمات هي جيش الكاتب، والإثراء منها محمود بيّن الفائدة.
ومما يؤثر على الكاتب والمثقف عمومًا، الانشغال بالأجهزة الحديثة وتطبيقات التواصل الاجتماعي التي سلبت الوقت والجدية ولم تبق للقراءة وطلب العلم موضعًا، ومنها البحث عن صفة كمال لا توجد في عمل بشري ألبتة، والحساسية من النقد أو الخوف منه مع أن أحدًا لا يسلم من الانتقاد، وقد يُبتلى فئام بعجمة من إدمان لغة الكتب المترجمة أو الأعمال الصحفية، وربما تضيع معالم كتابته بين اختصار ذي خلل، أو إطالة يمكن تقصيرها، وجميعها تزول بالمران والاستمرار، ومن أخطاء البدايات تزامن العملية الكتابية مع النقد؛ بينما الأصل إقصاء الناقد الداخلي حتى يتوقف التدفق الكتابي تمامًا.
وقد يقاوم الكاتب الناشئ أيّ مقترح للحذف أو الدمج؛ ويشعر كأنّ قطعة من جسده سوف تُقطع، ويغرق آخرون في الكتابة الرمزية وبعض الرموز لا يفهمها حتى أهل وادي عبقر! ويسرف فريق منهم في كتابة أشبه بالفضفضة والخواطر الهلامية الخالية من فكرة متماسكة، وإن كان استرسالهم محمودًا ويبشر بموهبة متصاعدة بعد أن توضع على الصراط الكتابي المستقيم.
أما الفرص التي يمكن استثمارها لمساندة كتّاب المستقبل فوافرة منها إرشادهم إلى الكتاب المسموع أو المواد الصوتية عمومًا، وهي في تزايد مبهج مع مضمون مفيد عبر منصات متنوعة، وكذلك النظر في ملخصات الكتب وعروضها، وربما يناسب دلالتهم إلى أن تقليد الكتّاب الآخرين سنّة متبعة شريطة أن يأتي يوم فيخلع الكاتب الجديد عن نفسه عباءة نموذجه الذي قلده زمنًا، ومنها الانتظام في قنوات التدريب على الكتابة عبر منصات تعليمية مأمونة، وتكثير التدريبات شبه الجاهزة التي تكسر الحواجز عن الكتابة مثل إعادة كتابة مضمون قصيدة أو نصّ، أو إكمال محتوى ناقص، أو تغيير سياق، وغير ذلك مما يحرك ذهن الكاتب وعقله، فالتفكير عتبة رئيسية قبل الوقوف أمام عتبة الكتابة.
ومن المواقف التي أذكرها حول برنامج التدريب على الكتابة أن شيخًا عربيًا تجاوز السبعين تواصل معي للمشاركة في أحدها؛ فاقترحت عليه بعد أن عرض عليّ مادة كتبها فعرفت مستواه الضعيف جدًا أن يقرأ كثيرًا قبل أن يحضر، وقدمت البرنامج لمجموعات فيها شخص واحد يختلف عن بقيّة الحاضرين سواءً في العمر أو التخصص أو الاهتمام، وكانت مشاركته متعبًة له ولزملائه ولي، وأسرّ لي غير مشارك عقب النهاية بأنه قرر التوقف عن المضي في مشاريع كتابية حتى يضبط إعدادات إبداعه وفق مقتضيات البرنامج، وكرر أحدهم المشاركة للمرة الثانية، وحين استفهمت منه مستغربًا أجابني بقوله: ألا تنفع قراءة الكتاب مرتين؟
وأمطرني ذات مرة مشارك بعد برنامج أقمناه عن بعد برسالة غاضبة، وهو يغلي ويقسم بأن هذا البرنامج غير مفيد ولا علاقة له بالكتابة لا من ناحية مدربه ولا في مستوى المشاركين معه، ثمّ أعقب هجومه العنيف بأربع مواد كتبها طالبًا مني تقييمها فرفضت ذلك؛ لأني إن لم أرقْ له مدربًا فقطعًا لن أعجبه مقيّمًا، وشذوذ رأيه لم يغضبني لثقتي بالله ثمّ بالكثرة الكاثرة من الآراء المتزنة من غيره.
هذه خلاصات وملاحظات أسهمت في تمتين هذا البرنامج التدريبي عبر السنين، وفي الاستعداد الحواري المسبق مع المشاركين فرادى ومجتمعين، ولديّ يقين يزداد ثباتًا بأن إشاعة ثقافة القراءة، وتيسير سبل البحث، والحثّ على التفكير، والتدريب على الكتابة، من أجلّ الأعمال النافعة خاصّة حينما يصبح الجيل بمجموعه يقرأ، ويبحث، ويفكر، ومنه قسم يكتب ويمارس هذه الحرفة المقدسة بعد أن يتدرج في الأعمال السابقة، بينما يتفاعل الآخرون معه بوعي متين عميق، وستغدو الثمار حينها أينع من التمر اللذيذ فوق هامات النخيل الباسقات في اليوم القائض، ويا لها من نعمة مثل الماء النقي البارد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 13 من شهرِ ربيع الآخر عام 1442
28 من شهر نوفمبر عام 2020م
One Comment
الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . وفقك الله في برنامجك التدريب على الكتابة . فانت اهل لها . جعل الله في مشروعك هذا في ميزان حسناتك وحسنات والديك . ووفقك لما يحبه ويرضاه . نعم الاستاذ والمدرب . هنيئا للمتدربين على الكتابة داعية لهم التوفيق والنجاح