أولياء الكتابة…
أسعد كثيرًا حين أرى منتجًا ثقافيًا منبعثًا من منابع حضارتنا العربية والإسلامية، ولذلك لم أتردد في شراء كتاب عنوانه: أولياء الكتابة الصالحون، تأليف محمد توفيق، صادر عن دار كيان للنشر والتوزيع، ويبدو أن النسخة التي معي هي طبعته الأولى في عام (2014م)، ويقع الكتاب ذو القطع المتوسط في أكثر من مئتي صفحة بقليل، وفيه واحد وثلاثون مقالة عن عدد من كتّاب مصر وشعرائها ومفكريها.
تظهر عظمة الكتابة من قصة نقلها المؤلف عن حسين سري باشا رئيس الوزراء الذي أصدر أمرًا بألّا يستخدم صغار الموظفين المصاعد في مواعيد معينة، ثمّ شاهد علي أمين يكسر هذه القاعدة فعنفه الرئيس لكن المهندس رد عليه بهدوء قائلًا: “أنا مش علي أنا مصطفى أمين رئيس تحرير آخر ساعة!”، فاعتذر الرئيس من راكب المصعد وقال له: إنني أمزح معك وأعرفك فمن غير المعقول أن لا أميز بين مصطفى وعلي، ودعاه لشرب القهوة وتبادل أطراف الحديث في المكتب الفخم، وحين خرج علي من مكتب رئيس الوزراء قدّم استقالته من فوره، وتفرغ للعمل الصحفي مع توأمه وشقيقه وشبيهه مصطفى، وإنما المجد للقلم والعلم والكتابة.
كما يتطرق الكتاب كثيرًا إلى علاقة الكاتب بالسلطة، ويشير إلى حرص بعض المثقفين على جعل مسافة فاصلة بينهم وبين مؤسسة الحكم، وقد يلتزم بعضهم بسياسة الابتعاد فلا هو كاتب الحكومة الناطق باسمها، وأيضًا ليس معارضًا لها، وإن شاب هذا الوضع استثناءات كثيرة جعلته هو الاستثناء، فأصبح بعض الكتّاب بوقًا، بينما اضطر آخرون للتصريح بآرائهم التي دفعوا ثمنها من رصيد أعمارهم وأعمالهم، ومنهم صلاح حافظ الذي صيّر نفسه لسانًا للشعب، وحين توارى الجميع تصدر المشهد منتصرًا للناس عبر مقاله الأشهر “العصابة التي تحكم مصر”؛ فألقي في السجن بضع سنين.
وحتى لا ينغمس الكاتب في أيّ شأن دون اقتناع تام نادي أحمد بهاء الدين بضرورة أن يواجه الكاتب شطط الرأي العام وألّا يستسلم لاتجاهاته، ويحتاج المثقف إلى أن تجتمع فيه شجاعة المناضل وثقافة المفكر حتى يمتلك هذه الاستقلالية الرشيدة، وهي أصعب تجاه الحاكم ومع ذلك فحين أرسل السادات مبعوثه إلى صلاح جاهين ناقلًا تعجب الزعيم من أن جاهين لم يكتب عنه بينما هو مستمر في الكتابة عن خلفه عبدالناصر بعد رحيله، فأجاب الكاتب الحر رسول الرئيس بقوله القاصف: “أنا مش ترزي”!
أما النصائح التي استلّها الأستاذ محمد توفيق بذكاء من نصوص شخصياته أو من سير حياتهم فكثيرة، منها تشجيع عبدالوهاب مطاوع على الاندهاش؛ فالدهشة بداية الطريق للمعرفة، وانتهاج رجاء النقاش طريقة الكتابة للقارئ مباشرة، وتعمده ألّا يطغى عمق فكرته على متعة سرده كي يكون كلامه واضحًا ماتعًا راسخًا، ومنها أن أجمل شيء في الدنيا عند أحمد بهجت هو الفرجة؛ ولذا فعيناه لا تكفُّ عن التجوّل والملاحظة والتأمل، ومن الحكمة ما رواه عن فتحي غانم الذي لم يكن مشغولًا في إبداعه برضا البشر أو سخطهم حين حكم بأن أيّ أدب صادق هو وثيقة تعبّر عن المجتمع وتكشف خباياه.
بينما يجزم خالد محمد خالد أنه من دون شجاعة لا توجد حقيقة، ومن دون حقيقة لا توجد فضيلة، وكان د.عبدالوهاب المسيري يبحث في مشواره الثقافي قراءه وبحثًا وكتابة وحوارًا عن الإجابة الكاملة والحقيقة الأكيدة، ولا يخشى من طرح الأسئلة و لا يملّ من البحث عن الأجوبة، وقال د.مصطفى محمود بوضوح تام: أريد لحظة انفعال، لحظة حب، لحظة دهشة، لحظة اكتشاف، لحظة معرفة، فمن دون هذه اللحظات لا أجد لحياتي معنى؛ ولعظم المعنى في حياته رفض عرض السادات عليه بتعيينه وزيرًا متعللًا بفشله في إدارة بيته فكيف بوزارة ضخمة!
ولإسرائيل حضور في حكايات الكتاب، فالشاعر أمل دنقل الذي رحل وهو دون الخمسين من عمره كتب قصيدته العظيمة بعنوان: لا تصالح عام (1976م) لتقع بالمنتصف بين حرب أكتوبر واتفاقية السلام مع إسرائيل التي استشعر المثقفون قرب حدوثها فبادر بعضهم لإشهار موقفه قبل أن تعلن الحكومة سياستها، وقبل القصيدة بعام أصدر المسيري الجزء الأول من موسوعته المرجعية الضخمة عن الصهيونية التي اكتملت فيما بعد بسبعة أجزاء واختصرت إلى جزءين.
وفي زمن لم أتبينه ظهر كتاب ألفه محمود عوض بعنوان: “ممنوع من التداول”، وفيه تجلية لحقيقة إسرائيل، ويثني المؤلف على هذا الكتاب كثيرًا ويحضُّ على قراءته، وربما أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش هو الوحيد في الكتاب من غير المصريين، وأشار الأستاذ الكاتب إلى قصيدة درويش بعنوان: سجل برأس الصفحة الأولى التي يحذر عدوه فيها من جوعه وغضبه، وقصيدته بعنوان: أيها المارون بين الكلمات العابرة التي يؤكد عبر بوحها الواثق بأن الأرض لنا ولنا الدنيا والآخرة فوق ذلك.
كذلك من الحتمي أن يشتمل الكتاب المصري مؤلفًا ومضمونًا على ما يستطرف لشيوع النكتة في المجتمع المصري، فخفة ظلّ كامل الشناوي تجبُّ سخريته اللاذعة التي تحاشاها كثير من الناس، وحين علم مؤسس صحيفة الأهرام أن الشاعر الساخر يسهر كل ليلة مع محمد محمود باشا رئيس الوزراء؛ ثمّ يكتب في صحيفته شعرًا فقط، طلب من كامل أن يستقي من جليسه أخبارًا تسبق بها الأهرام غيرها من الصحف، وفعل الشناوي المطلوب مرارًا، فلما فطن الباشا لصنيعه دسّ لرفيقه أخبارًا مكذوبة؛ لكنّ الناشر الحصيف أدركه الشك، فحاول التحقق منها ليكتشف أن شكه يقين خالص فلم ينشرها، ونجت الصحيفة من فضيحة مدوية. ولأن أحدًا لم يسلم من سخرية جليل البنداري رُفعت عليه ثمانين قضية انتهت جميعها بالصلح؛ حتى وُصف بأنه صاحب أطول لسان وأطيب قلب.
أيضًا من الطريف أن الكاتب الساخر محمد عفيفي نعى نفسه قبل وفاته على أن يُنشر نصٌّ النعي بعد موته وهو ما كان، ومن فرائده قوله: أحيانًا أميل إلى قراءة كتب الخرافات، وبالأمس عكفت على قراءة ميثاق حقوق الإنسان! ويرى أن الفرق بين اللص الصغيرة واللص الكبير أن الأول يتسلق الماسورة، أما الثاني فيتسلق الموجة، وينفرد عنده المواطن المصري بأنه الوحيد في العالم الذي يمكن أن يموت في حادث تصادم بين مرسيدس وكارو.
وفي كلمة قصيرة ومحزنة يقول محمد عفيفي بأن السيارة الخربة تستطيع أن تستمر في السير إذا وُضعت في أعلى طريق منحدر! ومن المؤلم حتى آخر قطرة ما اقتبسه أ.توفيق عن العالم البلداني والمفكر الكبير جمال حمدان حين قال وهو الراحل عن الحياة وحيدًا محترقًا في شقته عام (1993م): من أكبر عيوب مصر أنها تسمح للرجل المتوسط بل للرجل الصغير أكثر مما ينبغي، وتُفسح له مكانًا أكبر مما يستحق!
ومن اللفتات الجميلة التعريج على النابغة الساخر جلال عامر الذي تنتشر كتاباته القصيرة العميقة جالبة معها المرارة بما تكشفه من واقع، علمًا أن الرجل لم يكتب إلّا بعد أن تجاوز الخمسين، ويقوم مذهبه الفني على أن المجتمع انتقل من مرحلة القراءة للجميع إلى مرحلة الكتابة للجميع، فابتكر أسلوبًا جديدًا في الكتابة الساخرة سرّى به عن المكتئبين مع أن الموت لم يمنحه الفرصة لأن يكتب لأزيد من خمس سنوات بعد أن قضى حياته المهنية ضابطًا في الجيش ودارسًا للقانون والفلسفة، بيد أنه خلال سنواته الكتابية الخمس أمتع نفسه بإبداعه المختصر، وأمتع قرائه بما بثّه من وعي بطريقة فريدة.
ألا ما أجمل العيش مع حضارتنا وثقافتنا العربية والإسلامية سواء في تراثها أو في حاضرها، ولا يعني هذا البتة رفض ما لدى الآخرين، وإنما أساس الفكرة الذي ربما لا يُنازع فيه أحد هو أن نستفيد من أمم الشرق والغرب دون أن ننسى إبداعات علماء أمتنا وأدبائها، أو أن نغفل عنها أو نقلل من الارتباط معها، وأسوأ من ذلك أن يُنظر إليها بانتقاص أو بدون فخر، فإن ذلكم الإرث ملتصق بنا مهما حاولنا التنصل منه، ومن الخير أن نغوص فيه بحثًا عن درره الكامنة أو الظاهرة؛ حتى نعرضها لأجيالنا وللعالم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 04 من شهرِ ربيع الأول عام 1442
21 من شهر أكتوبر عام 2020م
One Comment
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل القدير احمد حفظه الله ورعاه .وجزا الله خيرا الكتاب الصالحون حفظ الله الاحياء منهم . ورحم وغفر للمتوفين منهم .ففي كل صفحة يقراءها الفرد يملا العقل بالكثير من المعلومات والتي هذه بدورها تزيد معرفة الشخص . وتزيد من قدرته على مواجهة المصاعب والتحديات التي تواجهه .كل شيء يمكن خسرانه الا المعرفة دائما مكسب . وتعد القراءة من المواد الترفيهية كثيرة الفائدة رخيصة الثمن . فللكاتب فضل كبير في نشر الثقافة .وكما قيل
لخير جليس في الزمان كتاب … وكما يقول المثل العربي ” مجد التاجر في جيبه ومجد الكاتب الصالح في كراريسه.