عبدالعزيز الراشد وإشراقات الروح المؤمنة
أقيمت صلاة الفجر في مسجد سعد بن معاذ بحي الواحة شمال الرياض، وهو حي نخبوي يقطنه جمع من العلماء والقضاة والأكاديميين ورجال الأعمال والمهنيين وغيرهم، ويغلب عليهم التدين والحضور الباكر للصلوات، ومع أن الإمام غائب بسبب سفره لم يتقدم أحد للصلاة مع أهليّة كثير منهم لها، وتركوا الإمامة لشاب ثلاثيني يمشي بسكينة محاطًا بعلامات الوقار مع ملامح هادئة، فيقف متوسطًا المحراب بثيابه البيض الناصعة، ويؤم الناس بتلاوة عذبة يستبين منها حفظ منضبط، وتجويد متقن، بأداء فيه شيء من التحزن الخاشع.
ذلكم هو الحافظ والطبيب والأكاديمي والرمز الخيري الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عبدالرحمن الراشد (1374-1434)، وهو الرجل الذي جمع الله له أربع خِلال قلّما تتوافر في إنسان واحد هي: العلم والعمل والعبادة والعمق، وسيأتي بيان هذه “العينات” الأربع بعد قليل دون إسهاب لأن الغاية إبراز المثال بلا توسع، ومن شاء المزيد ففي البحث ما يغني من تفاصيل وروايات، وسبحان من جعل العيون تحبه حيًا، وتذرف عليه المدامع مريضًا فراحلًا فأثرًا بعد عين.
نال د.الراشد شهادة الطب وتخصص بطب الأطفال من جامعة الملك سعود بالرياض، ولم تقف همته عند هذه الشهادة التي يعظمها كثير من الناس لدرجة تحرج أصحابها أحيانًا، بل واصل طلب العلم منتسبًا إلى كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتخرج فيها متفوقًا مع كثرة مشاغله ومسؤولياته، وتأخر معرفته بموضوع مادة الاختبار إلى ما قبل موعده بيوم واحد فقط، وحاز الرجل بذلك درجة علمية في أجلّ العلوم وأسناها في الدنيا والآخرة، وله في ذلك سلف كريم مثل الإمامين الشافعي والمازري، وقدوة الجميع هي الصديقة الطاهرة عائشة رضوان الله عليها.
أما العمل فلأبي معاذ فيه شأن باهر يصح إبراز بعضه قدوة للسالكين؛ لأن جميعه مما تعجز عنه قدرات أغلب الناس، ويكفينا أن نعلم أنه مارس العمل الطبي والتعليمي والإغاثي في قطاعين هما القطاع الحكومي والقطاع الخيري، وأنفق خبراته المتراكمة في مكانين داخل المملكة وخارجها في قارات ثلاث، وكان مربيًا في نطاقين هما بيته الخاص، ومحيط عمله الواسع في مجتمعاته المتنوعة، وتلك الفضائل لا تنتظم إلّا لمن جعل مشروعه في الحياة ماثلًا أمام عينيه حتى يوصله إلى الجنان بإذن الله وفضله.
ثمّ نقف عند العبادة فلا تسل عن برنامج إنسان لا يترك حزبه اليومي من القرآن، ولا حظه الليلي من القيام إضافة إلى صلوات النوافل، وأداء الحج وصيام التطوع، وخدمة الناس ضعيفهم وقريبهم وبعيدهم، حتى حين ألقى المرض بأثقاله عليه، وضعفت قواه وتأثر بصره، فشغفه الحقيقي في العيش بجنان الدنيا مع كلام مولاه، وبين يديه، وتلك من أسرار الروح المؤمنة التي تهب حاملها نور القلب وضياء الوجه؛ حتى يغدو صاحبها مصدر إشعاع وإن طال صماته، وقلّ ظهوره، والله يجعله وكاتبه ومن يقرأ ممن دخل جنة الدنيا، وامتن عليه الرؤوف بجنان أخروية عالية.
كذلك تفضل الله المنعم عليه ولم يحرمه من البصيرة النافذة، والعقل الحكيم المتأني، فصار مفكرًا عميقًا ذا وعي يشهد له به جلّ من عرفه وتعامل معه سواء في عمله الإداري، أو الخيري، وفي شؤونه الأسرية والطبية والتعليمية والمجتمعية، فكلها تتصف بالنظام والوضوح وحسن التخطيط مع البناء المؤسسي المحكم، ولا يغيب عنها الحنان والشفقة والنصح الصادق، وبرز حسه الواعي ونظره البعيد في جهوده الدعوية مع العاملين للإسلام داخل المملكة وخارجها حتى وهو على فراش مرضه الأخير في أمريكا، ومثله يقال عن نشاطه فيما يخصّ العمل المشترك بين علماء الفقه والطب، وفي حراكه النافع داخل منطقته السكنية وبين أفراد أسرته وأصهاره، لدرجة أنه لفت القريبين منه إلى ذكائه الاجتماعي من خلال مشاركاته بالتهنئة أو التعزية أو المواساة مع كثرة أعماله، أو في أوقات عصيبة بالنسبة له إبان وفاة والده أو بُعيد اكتشاف المرض الخطير لديه.
كما زان الله د.عبدالعزيز بخلق سمح رضي؛ فبيته مزار للأطفال المرضى، ومجلسه ندوة للعلماء والأطباء وأساتذة الجامعات، وبابه مفزع للخائفين من الضعفة وأمثالهم، وماله المتاح مواساة جاهزة للغارمين ومن تورط في خسارة مالية، وفوق ذلك لم يُبتلى الرجل مثل بعض الخلق بسماحة مع الأباعد وصلف على الأقارب، بل إنه لطيف المعشر مع زوجه وبناته وأبنائه، ويفضي إليهم بأنهم أجلّ مشروعاته واستثماراته، وأن صلاحهم ونجاحهم خير ما يبرونه به، ثمّ يراجع معهم حفظ القرآن، ويمازحهم، ويساجلهم، ويسابقهم، ويوصيهم، ويرضيهم ويطيّب خواطرهم، ويحنو عليهم مصطحبًا الصغير إلى المسجد كي تكون خطاه إذا كلّف في موازين حسنات والديه، ويساعد بناته الباحثات لنيل الشهادات العليا، وخير الناس أنفعهم لأهله.
ومما امتاز به الرجل تأهبه لأحمال ثقيلة في أعمال تأسيسية لكيانات غير موجودة أصلًا مثل الجمعيات الطبية والمشروعات الإغاثية، أو تصديه لتطوير أعمال قائمة حين أدار مستشفيات حكومية، وسعى لإنضاج علم الأخلاقيات الطبية، وشارك في الموسوعة الطبية الفقهية، ولم يبخل بحصيلة تجاربه وخبراته ففاض بها لمن طلبها ممن أراد البدء بعمل مبارك على رشاد يقتبس من حسنات من سبقوه ويتحاشى عثراتهم، والله يبارك فيمن صيّر نفسه وتجربته كتابًا مفتوحًا ومصباحًا منيرًا.
هذه نتف من كمالات رجل قال عنه معالي الشيخ صالح الحصين: “لم أر في حياتي مثله، يعمل أعمالًا مثمرة بلا ضجيج”، ووصفه معالي الشيخ أ.د.عبدالله المطلق بأنه “طبيب الفقراء”، وأثنى عليه الذين عرفوه بعمل أو جوار أو نسب، وهو صاحب رأي استقر في أعماقه وخلاصته ضرورة أن يؤدي المرء زكاة ما وهبه الله ولو لم يكن مالًا؛ ولذا أوقف وقته وعلومه الطبية وقدراته التعليمية، ومواهبه الإدارية، وبراعته التجارية، وعلاقاته الوثيقة، لصالح أعمال ومشروعات وأفكار يتقرب بها وبثمارها لمولاه، ولعلّ من عاجل بشراه تلك الجموع التي حضرت للصلاة عليه ودفنه وعزاء أسرته، وهذا الثناء الزكي الباقي حتى بعد أن تزاحمت المقابر بالموتى، وتتابعت حركة الرحيل المفاجئ فضلًا عن غيره.
وإن هذا الرجل المبارك بكمالاته هذه ليقدم نموذجًا عن الفرد المسلم الصالح العامل المصلح قدر استطاعته دون دخول في متاهات أو انتظار لمكرمات وهبات، ودون التفات لأولئك المشاغبين البطالين الذين إذا لمحوا أمثاله كالوا لهم التهم الجاهزة المعلبة الفاسدة لمزًا وهمزًا وغمزًا، ولو صادفوا واحدًا من أمريكا أو اليابان ولديه خصلة واحدة من تلك الخصال الباسقة في شيخنا لكادوا من فرط تعظيمهم له أن يخرجوا عن حدّ الوقار، والأمر لله والعاقبة بيديه، والسعيد حقًا من جعله الله للمتقين إمامًا، وأبقى له لسان صدق في الآخرين؛ فرحمة الله ورضوانه على أبي معاذ وأمثاله من البررة آناء الليل وأطراف النهار حتى تقوم الساعة، والحفظ والبركة نسألهما لذريته وللسائرين على هذه الدروب الرشيدة التي كانت وستبقى مفتوحة لمن أراد أن يمضي فيها على نور من الله وبيان.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 07 من شهرِ صفر عام 1442
24 من شهر سبتمبر عام 2020م
6 Comments
رحم الله الدكتور عبد العزيز الراشد رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته . طبيب الفقراء والاب القدوة والزوج الصالح لزوجته واولاده الذي ساعدهم على طاعة الله وبارك الله له في ذريته .وكثر الله من امثاله . لقد ترك لهم رحمه الله كنوز الدنيا التي لاتنضب . مقال يسر النفوس المحبة للخير .ولمكارم الاخلاق . والتي ستبقى موجودة الى قيام الساعة وفقك الله لما يحبه ويرضاه
جزاك الله خير، وغفر الله له ورحمه واسكنه فسيح جناته
رحم الله الشيخ الدكتور عبد العزيز الراشد وغفر له وأنزله منازل الأبرار وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ما شاء الله نعمت السيرة ونعم الذكر والبذل والعطاء.
طبت حيا وميتاً أبا معاذ،، وبقيت سيرتك العطرة ملهمةً لكل ذي همة وعزيمة.
بوركت يا شيخ أحمد وسلمت يمنيك.
الله يغفر له ويرحمه ويسكنه فسيح جناته ويخلفه خيرا في أهله وفي الأمة جميعها، حقيقة سيرة عطرة ونموج فريد وعطاء لا ينضب كتب الله أجره وضاعف حساناته..
وشكرا وامتنانا لكم فضيلة الأستاذ أحمد على نشر مثل هذه السير العطرة التي يحتذى بها، وعلى مدونتكم الثرية..
جزاك الله خير أستاذ أحمد على هذه السيرة العطرة وعلى هذا السرد الرائع المؤثر، رحم الله الشيخ عبد العزيز وجعل كل ما قدم في موازين حسناته ورفعة في درجاته في الفردوس الأعلى من الجنة، وبارك في ذريته وجعلهم خير خلف لخير سلف، وأخلف على الأمة الإسلامية بخير.
أشهد الله على محبة الشيخ عبد العزيز في الله فقد قدم لي معروف ولأسرتي لن أنساه ما حييت ويعلم الله انني ما زلت أذكره وأدعو له وأتألم لفقده أسأل الله أن يكرمه ويرفع درجته ويحسن إليه كما كان يحسن لعياده ويجمعنا به في الجنة.