معالي الوزيرة…!
لم تظهر المرأة علانية في مسيرة الحكم والسياسة وصراعاتها عبر التاريخ إلّا في أحيان قليلة قياسًا للرجل، ومع ذلك لم تغب عن المشهد السياسي، ودهاليز الإدارة، وخفايا الكيد في تاريخ البشرية من خلال تأثيرها الحسن تارة، وأثرها السيء تارة أخرى. وأعتقد أن المرأة ملكت زمام التأثير في دول متعاقبة، وأحداث مفصلية، وإن كانت أعمالها من وراء حجاب زوج أو ابن، بيد أنه انكشف لبعض معاصريها ولمن أحسن في جمع الروايات وتحليلها.
ويحضرني الآن كيف أقنعت آسية رحمها الله فرعون على جبروته بأن يستبقى وليد بني إسرائيل حيًا، ويربيه في قصره إلى أن صار النبي الكليم عليه السلام الذي أغرق الفرعون. وكذلك شورى أم سلمة رضوان الله عليها للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية. وعلى الجانب الآخر أسترجع قصة زوجة عزيز مصر، ومواقف ملكات أوروبا من شؤون الشعب والسلطة والبلاط، وتفاعلهن بطريقة فجة أصبحن على إثرها من أسباب الثورة في باريس وموسكو وغيرهما.
أما في العصر الحديث فلم تصبح المرأة وزيرة في أيّ حكومة إلّا مع الثورة البلشفية في روسيا سنة (1917م) بإسناد “لينين” وزارة الشؤون الاجتماعية للمناضلة الرفيقة “ألكسندرا دومونتوفتشي كولونتاي”، وفي عهد “روزفلت” أصبحت “فرانسيس بيركنز” (1880-1965م) أول وزيرة في تاريخ الحكومات الأمريكية، وهي بالمناسبة أطول من ظلّ وزيرًا لمدة متواصلة بين جميع وزراء أمريكا؛ لأنها شغلت منصب وزير العمل منذ عام (1933م) حتى عام (1945م).
وأول بلد معاصر ترأست مجلس وزرائه امرأة هو سيرلانكا عام (1960م) حين خلفت “سيريما باندرانايكا” زوجها عقب اغتياله، وأول رئيسة منتخبة في العالم هي “فيغديس فينبوغادوتير” رئيسة إيسلندا المنتخبة عام (1980م). ويوجد في العالم حاليًا أكثر من عشرين رئيسة أو ما يوازي منصبها، وأول رئيسة وزراء لبلد إسلامي هي بينظير بوتو التي قادت حكومة باكستان مرتين أولاهما عام (1988م)، بينما لم تصل المرأة العربية حتى الآن لمنصب الرئاسة.
وتعدُّ خالدة أديب وزيرة المعارف في تركيا بعد إلغاء الخلافة العثمانية على يد أتاتورك عام (1923م) أول وزيرة في العالم الإسلامي، بينما أصبحت الطبيبة نزيهة الدليمي أول وزيرة عربية بتعيينها وزيرة للبلديات في حكومة العراق عام (1959م) بعد انقلاب عبدالكريم قاسم، ثمّ تلتها حكمت أبوزيد وزيرة الشؤون الاجتماعية في مصر عام (1962م)، وكانت تلقب بقلب الثورة الرحيم. وبعدها دخل إلى مجلس الوزراء المصري عبر تاريخه أكثر من أربع وعشرين وزيرة، وضم آخر مجلس ثماني وزيرات ليقع في الترتيب بين مجلس الوزراء الموريتاني بوزيراته التسع، ومجلس الوزراء الإماراتي بوزيراته السبع، والذي يبدو أن هذا السباق سيكون ميدانًا خصبًا للتنافس؛ لأن الأقوياء يطربون له! والمنظمات النافذة تؤز إليه أزًا، وتدفع نحوه دفعًا.
كما كانت الوزارات العربية وربما العالمية التي تُسند للمرأة في البدايات تدور حول الشؤون الاجتماعية والمرأة والطفل، والثقافة والسياحة وشؤون البرلمان، ثمّ تطورت إلى الرياضة والشباب والصحة والإعلام والبيئة، وتدرجت بعد ذلك إلى التعليم والصحة والمالية والتعاون الدولي والاستثمار، حتى نافست حواء أخيرًا على مقاعد العدل والطاقة والخارجية والداخلية والدفاع؛ فصارت ثلاثين امرأة أو أكثر وزيرات للدفاع في بلادهن، وتزامن منهن سبع عشرة وزيرة، وبعضهن من الحسناوات اللاتي ناقضن جزم الشاعر العربي بأن القتل والقتال لنا، وللغانيات جرّ الذيول، ووافقن الشاعر الآخر الذي اعترف بأن العيون التي في طرفها حور قتلننا!
ومن خلال التتبع وجدت أن جميع الدول العربية اختارت في عضوية مجالس وزرائها وزيرة فأكثر حتى في جمهورية الصحراء الغربية المتنازع عليها -وهي الصحراء العربية التابعة لدولة المغرب-، ، وفي الحكومات المنشطرة في ليبيا، وأستثني من ذلك مجلس وزراء السعودية حتى هذه اللحظة. وأعطيت لأكثر صاحبات المعالي وزارات غير مؤثرة في الأغلب، فشعر بعضهن بأنها وسيلة تتزين بها حكوماتها أمام الدول الكبرى والمنظمات العالمية والنسوية، وأدركت أخريات أنهن عاجزات عن العمل أو التغيير بسبب الفساد، أو ضعف الصلاحيات، أو كثرة المعارضين من منطلقات متباينة؛ فبادرن للاستقالة من المنصب.
كذلك سجلت بعض الدول العربية أوليات من حيث عدد الوزيرات في حكومة واحدة طبقًا لما حصل في موريتانيا ومصر والإمارات والمغرب، وسميت أول وزيرة عربية للخارجية في موريتانيا، وأول وزيرة داخلية في لبنان، وكذلك أول وزيرة دفاع، واختصت تونس بالوزيرة العربية الأولى للعدل، واحتفظت البحرين بوزيرة الإعلام الخليجية الأولى، وبوزيرة الصحة العربية الأولى، وحجزت الكويت لنفسها أول وزيرة للمالية في الخليج، وذهبت الإمارات مذهبًا غير معهود بإنشاء وزارة للسعادة بلا نظير عالمي، وجعلت على رأسها عهود الرومي وهي في ربيعها الثاني والعشرين، وصارت نجاح العطار أول عربية تصل إلى منصب نائب الرئيس وهي أول سورية تصبح وزيرة عام (1976م) للثقافة والإرشاد القومي.
أما أول امرأة سعودية تصل إلى مرتبة وزير بلا عضوية في مجلس الوزراء فهي الأميرة ريما بنت بندر سفيرة الرياض في واشنطن، وهي أيضًا أول سفيرة سعودية، وسبقها عدة نساء في منصب نائبة وزير بالمرتبة الممتازة وأولهن الأستاذة نورة الفايز نائبة وزير التعليم سابقًا، وفي عمان عُينت الشيخة عائشة بنت خلفان عام (2003م) رئيسة للهيئة العامة للصناعات الحرفية بمرتبة وزير فغدت أول امرأة خليجية ترتقي إلى مرتبة وزير، وفي قطر نالت أول امرأة العضوية في مجلس وزراء دولة خليجية عام (2003م) وهي الأستاذة شيخة المحمود وزيرة التعليم، ثمّ توالت الوزيرات الخليجيات بعد ذلك.
ومما لاحظته ارتباط تعيين النساء وزيرات بالثورات في بلدان كثيرة أولها عالميًا الاتحاد السوفيتي، وإسلاميًا تركيا، وعربيًا العراق. وأن أول دولة تساوى فيها عدد الوزراء من الجنسين هي السويد عام (1995م)، وكذلك انتماء عدد من الوزيرات للحركات النسوية العالمية، وبعضهن تخدم أفكار المؤتمرات النسوية أكثر من السعي لتحصيل المصالح المرتبطة بوزارتها ووطنها، ولذلك فما أعلى ضجيج الجمعيات النسوية إذا نقص التمثيل النسائي في مجلس عن سابقه، والشيء بالشيء يذكر فأول وزيرة يهودية هي “جولدا مائير” التي تدرجت في مناصب عديدة حتى صارت وزيرة للخارجية ورئيسة صلبة للوزراء، وسيرتها تؤكد أنها خدمت بلادها وثقافتها دون أن تجعل المسألة النسوية حجر أساس في نشاطها.
أيضًا لفت نظري تكاثر عدد الوزيرات من أصول إسلامية في بلاد أوروبية حتى صرن أزيد من الرجال ذوي الأصول الإسلامية فيما يبدو، وبعض تلك البلاد مشهورة بعنصريتها، معروفة بمواقفها العدائية من ثقافتنا مثل هولندا وفرنسا والنمسا والدنمارك، لدرجة أن وزيرة الهجرة والاندماج الدنماركية “إنغر ستويبرغ” وجهت خطابها للمسلمين طالبة منهم الحصول على إجازة طوال أيام شهر رمضان؛ لأن الصوم يتنافى مع إمكانية العمل بزعمها، وصنيعها متناغم مع سعي حكومتها لإجبار الغرباء على تبني ثقافة البلاد وعاداتها، ومتناقض مع مسمى وزارتها، وما أكثر ما يلوكون كلمات الانفتاح والتعايش ثمّ يضيّقون على أبناء الحضارات الأخرى!
ولم تسلم المرأة الوزيرة من طرائف، ففي نيجيريا قطعت زوجة الرئيس رحلتها العلاجية حين علمت أن زوجها سيقترن بوزيرة الشؤون الإنسانية والكوارث، وسارعت الزوجة المفجوعة لمنع وقوع الكارثة من وزيرة الكوارث! وتشاع روايات عن افتتان وزير دفاع دولة عربية ثورية بنظيرته من دولة إسكندنافية حين حلّت ضيفة عليه في عاصمة بلاده، ووجد في محفوظات معمر القذافي ألبومات صور كثيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية السمراء “كونداليزا رايس”، كما لاحقت عدسات المصورين صاحبات المعالي صواحب الأناقة والنضارة، والتقطت لهنّ أجمل الصور، وشرع الصحفيون يحللون طريقتهن في انتقاء اللباس، وذوقهن في المظهر، مع المفاضلة بينهن في الجاذبية حتى فازت بالمركز الأول وزيرة عدل أرمينية ويكفيك من حسنٍ مزعوم خياله!
ومن لطيف أخبار صاحبات المعالي أن عارضة أزياء أصبحت وزيرة للعدل في إيطاليا، ومن غير المستغرب أن تفوز بلقب أجمل وزيرة في العالم آنذاك، واستضافت وزيرة الخارجية الكندية نظيراتها من وزيرات الخارجية النساء دون الرجال، وعقدن اجتماعًا نسائيًا حضرته تسع عشرة وزيرة خارجية عام (2018م)، وبعد عام واحد استقالت إحدى المشاركات معهن وهي وزيرة الخارجية السويدية “مارغو إليزابيت والستروم” بعد خمس سنوات قضتها في الوزارة (2014-2019م)، وعذرها أنها ترغب في قضاء أكبر قدر ممكن من الوقت مع زوجها وأولادها وأحفادها، وما أجمل العائلة والأسرة.
ولم تطق وزيرة الإعلام اللبنانية منال عبدالصمد صبرًا فاستقالت على الهواء مباشرة عقب تفجير مرفأ بيروت، وألقت ريم الهاشمي وزيرة التعاون الدولي الإماراتية كلمتها في مؤتمر افتراضي لدعم اليمن فشاركها طفلها بالظهور المفاجئ أمام الجميع مما جلب البسمة والمرح للمشاركين، ووضعت وزيرة الطاقة اللبنانية توقيعها على ورقة رسمية فطارت في مواقع التواصل الاجتماعي، وتندر المتفاعلون بالتوقيع الذي يشبه أسلاك كهرباء ملتفة على بعضها، وغضب أنور السادات من الوزيرة المصرية الأولى حكمت أبو زيد لمعارضتها السلام مع إسرائيل، فنفاها إلى خارج البلاد وسحب منها جواز سفرها، ولم تنبس أيّ جمعية نسوية بكلمة لنصرتها؛ لأن أمن إسرائيل أولى من مرتكزاتهم وأهدافهم!
أشير قبيل الختام إلى أن أحكام ولاية المرأة ومشاركتها في الانتخابات خضعت لأبحاث شرعية كثيرة على اختلاف الآراء فيها وتعدد الاجتهادات، والمهم هو ابتغاء المصالح المعتبرة، والابتعاد عن الانصياع للضغوط، أو الاستجابة لمطالب الآخرين الذين لا يرضيهم إلّا التبعية التامة. ومن نافلة القول أن المرأة ليست هي الفئة الوحيدة البعيدة عن المناصب أو التي لا تنال منها إلّا أقلّ القليل، ففي بعض البلدان يُقصى كثيرون بسبب انتماء، أو موقف، أو علاقة عمل سابقة، حتى لو كان هذا المُستبعد من أكثر الناس أهليّة وأقربهم لتحقيق وصف القوي الأمين، فضلًا عن أن ظاهرة الاستثناء والتهميش -وهي في مجملها خاطئة- تكاد أن تكون عالمية دون عويل وصخب كالذي نسمعه تجاه بلاد المسلمين، ونحو مسائل فئات منهم المرأة حاليًا، ولاحقًا الأقليات والشواذ في الغالب، ولربما أني سأكتب يومًا عن الزعماء والوزراء الشواذ في العالم!
ثمّ أسأل الله أن يوفق كلّ ذي مسؤولية للخير والهدى والإصلاح خصوصًا إن كانت عامة أو خطيرة؛ لأن أمور الناس والبلاد تتصل بهم وسوف يساءلون عنها ويتابعون عليها، وحري بأهل البصيرة والإيمان أن ينقذوا أنفسهم بالصدق، والإخلاص، والإحسان قدر المستطاع، والإصلاح حسب القدرة، فلربما يبذر أحدهم بذرة، أو يغرس غرسًا، أو يمنع خطلًا، أو ينجز عملًا مهما كان يسيرًا، فيعلم الله منه صدق نيته، وأن هذا مبلغ جهده، وغاية وسعه، فيحفظ صنائعه ويدخرها لمن ينميها ويتمها حتى يأتي زمان ملائم تظهر به فتسر الناظرين، وتسعد قلوب الحاضرين، وتشف صدور قوم مؤمنين، وتغيظ الكافرين والمنافقين، وتنفع الأماكن وعمّارها وأهلها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-العيينة
الثلاثاء 27 من شهرِ محرم عام 1442
15 من شهر سبتمبر عام 2020م
One Comment
الكاتب الفاضل احمد . من احترامي وتقديري لكل وجهات النظر المختلفة . للقراء .انا من وجهة نظري ان بعض النساء حاملات اكثر من حقيبة وزارية في البيت .وزارة تدبير واقتصاد وعدل وصحة وتغذية وثقافة ورعاية للاطفال وتوجيه للابناء البالغين اجتماعية وثقافية وغيرها …كثر الله خيرهم ان استطاعوا ان يودونها على الوجه الصحيح . والله هذه الحقائب التي تحملها المراة عندما تودى باخلاص تشعر بسعادة ا فلهم ثواب الدنيا والاخرة . وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .