وقفة عند وزير المالية
المناصب كلها ذات أهمية وشأن، ولأن المال يتأثر به الجميع دون استثناء بطريقة مباشرة وبطرق غير مباشرة وبمآلات تكاد أن تكون رديفة لمعنى الحياة، تبرز أهمية وزير المال والخزانة في جميع البلدان، ولهذا السبب تتعاظم مسؤولياته حتى روى معالي د.غازي القصيبي عن رئيس الوزراء البريطاني “هارولد ويلسون” نصيحته بألّا يظلّ وزير المالية في منصبه أزيد من عامين، وفي أمريكا وبريطانيا لا يستمر هذا الوزير في منصبه إلّا لسنوات تحسب على أصبع يد واحدة غالبًا.
ويعدّ وزير المالية من أهم الوزراء في الحكومات، وعلى سبيل المثال ففي بريطانيا هو مرشح قوي لرئاسة الوزارة؛ ويحضرني الآن “جون ميجر” مثالًا لذلك، وهذا التقليد الإنجليزي عريق يعود لمئات السنين، وفي لبنان يوقع وزير المالية الذي يمثّل الشيعة غالبًا مع رئيس الوزراء السني على القرارات حتى تصبح نافذة، وأما في أمريكا فيحتلّ وزير الخزانة المرتبة الخامسة في خط خلافة الرئيس لأيّ طارئ متقدمًا بذلك على وزير الدفاع، وفي بعض البلاد يحرص الزعيم على اصطحاب وزير المال معه في رحلاته كي لا يستفرد به نائب جشع ثمّ يرتع في المال العام بلا حسيب! ومع أن المعهود في وزارة المالية أن تُعهد إلى رجل في الغالب، إلّا أن الشيخ صباح الخالد ضمّ إلى حكومته الكويتية الجديدة في عام (2019م) ثلاث وزيرات إحداهن للمالية وهي معالي الأستاذة مريم العقيل فأصبحت أول خليجية تصل إلى هذا المنصب.
كما يلمح إلى أهمية هذا المنصب أن أول من سمي وزيرًا في السعودية من غير الأمراء هو وزير المالية معالي الشيخ عبدالله السليمان، وكان ابن سليمان عظيم المكانة والحصانة لدى الملك عبدالعزيز، ولحساسية المنصب تولاه الملك فيصل إبان ارتباك الأوضاع المالية ثمّ أسنده لعمه الأمير مساعد المشهود له بالحزم الإداري، والضبط المالي، والملكة الفقهية والقانونية، وبعد استقالة معالي الدكتور سليمان السليم المفاجئة من منصبه وزيرًا للمالية بعد شهور من تسميته وزيرًا للمال بعد عشرين عامًا قضاها وزيرًا للتجارة أحيلت أمانة هذه الحقيبة الثقيلة مؤقتًا لشيخ الوزراء معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر.
وينبئنا التاريخ الإداري والتنظيمي في السعودية أن جلّ الوزارات انبثقت عن وزارة المالية، وأن عددًا لا بأس به من أعضاء مجلس الوزراء وكبار المسؤولين تدرجوا داخل هذه الوزارة، وبعضهم أسندت إليه وزارة المالية ذاتها مثل ثاني وزير سعودي لها معالي الشيخ الأديب محمد سرور الصبان صاحب أول كتاب أدبي مطبوع في العهد السعودي، وأول مكتبة تجارية لبيع الكتب في مكة، مع النشاط الثقافي والفكري الكبير، وكذلك خلفه معالي الشيخ عبدالله بن عدوان.
أما تاريخ العراق الحديث فيحفظ أن أول وزير مالية في حكوماتها هو اليهودي المثقف ورجل الدولة الصلب “ساسون حسقيل”، الذي أصر على التعاقد لبيع النفط بالذهب، وأشرف على وضع السياسات المالية، وإنشاء البنك المركزي، وإعلان أول ميزانية، واقتراح العملة الورقية، ويُروى عنه بإكبار رفض طلبات الملك فيصل الأول لصرف أيّ مبالغ خارج ارتباطات الميزانية، ويماثل بذلك “ألكسندر هاميلتون” أول وزير خزانة أمريكي الذي يعود له الفضل في النظام المالي لأمريكا، وإنشاء البنك المركزي، وبناء ترتيب خاص بالضرائب، وله تفسيره المستقل للدستور الأمريكي، وانفرد هذا الأمريكي عن نظيره العراقي بطباعة صورته على ورقة العملة من فئة عشر دولارات، وقد دخل بعض الأمريكان للمعترك السياسي من خلال الكتابة عن سيرته مما يشير لموقعه المؤثر.
ومن الطبيعي أن يترافق مع عمل وزير المالية طرائف، ففي عهود قديمة كُتب على أكياس المال والطعام دعاء معبّر هو: “اللهم احفظه ممن يحفظه”!، وسمعت وزير الصحة المصري يقول بأنه نقل لزميله وزير المالية غضب موظفي القطاع الصحي عليه بسبب سلّم الرواتب، وكان الناقل يظن بأنّ هذا الخبر سوف يزعج المنقول إليه؛ بيد أن وزير المال المصري تبسم وأجاب زميله بلهجة مصرية لذيذة بما معناه: من علامات نجاح المسؤول المالي والقانوني تتابع غضب المتعاملين معه عليه!
كذلك شاهدت لقاء الملك فهد مع طلبة جامعة البترول والمعادن قبل أن تحمل الجامعة اسمه، فسأله طالب قائلًا: تسري إشاعة بأن المكافأة للخريج الذي يعمل في الحكومة وقدرها خمسون ألف ريال سوف تُقطع، ولمح الملك فهد وزير المالية آنذاك معالي الشيخ محمد أبا الخيل واضعًا يده على قلبه، فالتقط الملك فهد هذه الحركة العفوية من الوزير وأجاب: أرى الشيخ محمد أبا الخيل يضع يده على قلبه عند أيّ موضوع مالي! وأما سؤالك فما دام أنه إشاعة فهو إشاعة، وحينها ضجت القاعة بالتصفيق.
أيضًا أخبرني نجل ناشر لبناني مقيم في السعودية أن والده ذكر له بأن السفارة السعودية في بيروت نسقت معهم زيارة لمسؤول سعودي ضمن الوفد المشارك في القمة العربية المنعقدة بلبنان، وحضر المسؤول واشترى كتبًا كثيرة دون أن يعرف الناشر شخصيته، وبعد سنة تزامن سفر الابن من الرياض إلى بيروت مع إعلان الميزانية السعودية، فأشار والده إلى وزير وسأله عنه لأنه هو الذي اشترى الكتب قبل عام، فأخبره أنه وزير المالية معالي الدكتور إبراهيم العساف، والمستطرف في هذه الرواية متابعة الأشقاء في لبنان لأخبار جلسات إعلان الميزانية السعودية.
أسأل الله أن يوفق وزير المالية في بلادنا وفي جميع بلاد العرب والمسلمين والمسالمين إلى صواب العمل، وحسن الأداء، وجودة الثمرة، وإجادة التعليق والتصريح لأن أنفاسه تحصى، وأضرع لمولاي بأن يحميهم من مقترحات صندوق النقد الدولي الخاطئة، ومن قروض البنك الدولي المُكبلّة، وأن يجعل المال في أيامهم فائضًا مباركًا مصانًا، كي يصل خيره للكافة دون اختصاص أو منّة أو عسر، فالمال عصب الحياة وبه قوامها وصلاحها وسكونها، وهو مقياس للنزاهة والعدل، وآثاره وتداخلاته على السياسية الداخلية والخارجية لا تخفى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 06 من شهر محرمِ عام 1442
25 من شهر أغسطس عام 2020م
2 Comments
مقال جميل اشكرك عليه
فالمال عصب الحياة وبه قوامها وصلاحها وسكونها، وهو مقياس للنزاهة والعدل، وآثاره وتداخلاته على السياسية الداخلية والخارجية لا تخفى
كلمات رائعة من شخصكم الكريم