ومضى الشيخُ بكر: حارسُ العقيدةِ والفضيلة
فُجعَ النَّاسُ يومَ الثلاثاءِ السابعِ والعشرينَ منْ شهرِ اللهِ المحرَّمِ سنةَ 1429 بوفاةِ الشيخِ بكرِ بنِ عبدِالله أبو زيدٍ آلِ غيهبْ عنْ عمرٍ يناهزُ الرابعةَ والستينَ عاماً قضاها في العلمِ والإمامةِ والخطابةِ والقضاءِ والفُتيا والتدريسِ والتأليفِ وعضويةِ أوْ رئاسةِ المجامعِ العلميةِ ولجانِ الإفتاءِ وهيئاتِ العلماء. لقدْ كانتْ حياتهُ حافلةً بكلِّ محمدةٍ منذُ صباه في الدَّوادمي-رعى الله أهلها- مروراً بالمدينةِ النبويةِ -على ساكنها أفضلُ الصلاةِ وأزكى التسليم- لينتهيَ بهِ المقامُ الدُّنيوي إلى الرياضِ – حرسها الله- وأمَّا مقامُه البرْزَخيِّ ففي الدِّرعيةِ-منطلقَ الدَّعوةِ السلفية- ونسألُ اللهَ أنْ يجعلَ لهُ مقاماً عالياً في جِنانِ الخُلد.
وليَ معَ هذا الحادثِ الجللِ وقفاتٌ تتجاوزُ الحديثَ عنْ سيرةِ الشيخِ– مع تقريرِ أهميتها- إلى دروسٍ وعبرَ مِنْ محياه ومماته؛ فمنها:
أولاً: العملُ لهذا الدِّينِ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ بحسبِ ما يستطيعُه بعدَ بذلِ الوسعِ واستفراغِ الجهد؛ وإنَّ موتَ العلماءِ ليُلقي بحِملٍ ثقيلٍ على كلِّ مؤمنٍ لا محيدَ عنْ تقبُّلِه وتحمُّلِه.
ثانياً: يُعرفُ الإنسانُ بثماره؛ وقدْ كانَ أبوعبدالله–رحمه الله- عازفاً عنْ وهجِ الإعلامِ وبريقِ الأضواء ومعَ ذلكَ توافدَ النَّاسُ للصلاةِ عليهِ منْ مختلفِ الأعمارِ والأقطارِ في ليلةٍ شاتيةٍ بلا أمرٍ منْ أحد، وحزِنتْ عليهِ الحرائرُ في دورهنَّ وتتابعتْ الأخبارُ عنْ الفجيعةِ بهِ في المنتدياتِ والشاشاتِ والجوالاتِ متجاوزةً قيودَ الإقصاءِ والتهميشِ التي يفرضُها إعلامُنا على أعلامِنا.
ثالثاً: نلحظُ في حياةِ هذا العالمِ الراسخِ أنَّه لا يلتفتُ لنشازِ الآراءِ وسيء الأهواء، بلْ قدْ فتحَ اللهُ عليهِ منْ التآليفِ الدَّامغةِ ما كانَ نبراساً للدعاةِ وسلواناً لمنْ رُميَ بباطلٍ وحاجزاً لكلِّ عاقلٍ دونَ جرحِ أيِّ أحدٍ لعلَّةٍ نفسيةٍ خفية.
رابعاً: تجرأَ بعضُ الكتَّابِ على الشيخِ في مرضهِ وشنَّ حملةً مريضةً على كتابه “حراسة الفضيلة” -الذي طُبعَ منه نصفُ مليونِ نسخةٍ في حالةٍ يعزُّ نظيرُها في المكتبةِ العربيةِ والإسلامية[1]– وبلغَ التعدِّي حداً لا يسوغُ السكوتُ عنه. وقدْ روتْ لنا كتبُ التاريخِ حزنَ الخلفاءِ والأمراءِ إذا ماتَ عالمٌ إبَّانَ حكمهم؛ معَ أنَّ الوفاةَ قدرٌ لا ينفعُ معهُ الحذرُ، وفي روادعِ العقوباتِ زجرٌ لأهلِ الاستخفافِ؛ وباللهِ نستجير.
خامساً: كانَ الشيخُ -رحمه الله- موقِّراً للعلماءِ مدافعاً عنْ منهجِ السلفِ عزيزاً بدينه قوياً في الحقِّ شغوفاً بالكتبِ[2] والإطلاعِ زاهداً بالمناصبِ جادَّاً في حياتهِ مُغرماً باللغةِ العربيةِ الفصحى[3]، وفي أسلوبهِ جزالةٌ وفي كلماتهِ فخامة، ويترَّفعُ عنْ مجاراةِ الأعاجمِ في الأساليبِ والطرائق[4]، وكانَ يستخدمُ التأريخَ الهجريَّ فقطْ وحذفَ الرمزَ لهُ “بالهاء” في آخرِ عمره لأنَّه لا تأريخَ لنَا-أهلَ الإسلام- بغيرِ هجرةِ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم.
سادساً: تقعُ على عاتقِ أبناءِ الشيخِ وأنسابِه وطلابِه مهماتٌ ضخمةٌ-هم بها أعرف- ومنها:
1-نشرُ علمِ الشيخِ منْ خلالِ إعادةِ طبعِ كتبه.
2-طباعةُ الكتبِ التي كانَ الشيخُ قدْ فرغَ منها أو قارب.
3-مقاضاةُ الكتَّابِ الذينَ يسيئون للشيخِ ودورِ النشرِ التي طبعتْ كتبه بغيرِ إذنٍ أوْ خالفتْ بنودَ الاتفاقِ معها؛ وقدْ لاحظتُ شيئاً منْ هذا قبلَ سنةٍ تقريباً.
4-مواصلةُ مشاريعهِ أوْ تفويضها إلى مَنْ يقومُ بها ومنْ أجلِّها إخراجُ تراثِ الإمامِ ابنِ القيمِ-رحمه الله- بحُلًّةٍ قشيبةٍ محققةٍ تحقيقاً علمياً.
5-تأليفُ كتابٍ جامعٍ عنْ سيرةِ الشيخِ وطريقتهِ في العلمِ والتعليمِ والتربيةِ والقراءةِ والكتابةِ إضافةً إلى ثبتٍ بشيوخهِ ومصنفاتهِ وشيءٍ منْ خبرِ مكتبتهِ العامرةِ -نفعَ الله بها-.
ومن الموافقاتِ أنَّ يومَ وفاةِ الشيخِ كانَ بعدَ تسعِ سنواتٍ بالضبطِ منْ وفاةِ شيخهِ الإمامِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ -رحمهما الله-؛ وكانَ الشيخُ بكر قدْ عزمَ على تأليفِ معلمةٍ عنْ حياةِ شيخهِ ولا ندري هلْ أتمَّها أمْ حالَ المرضُ دونَ ذلكَ؟ ولعلَّ في همَّةِ بنيه-ومثلهم لا يوصَّى- ما يكونُ عوناً على إكمالِ مشروعاتِ هذا العالمِ الربَّاني أعلى اللهُ درجته وغفرَ له.
أحمد بن عبدالمحسن العسّاف-الرياض
الجمعة غرة شهر صفر عام 1429
[1] يستثنى من ذلك كتاب ” لا تحزن ” للشيخ عايض القرني.
[2] أذكر أنني وقفت في معرض الكتاب بجامعة الملك سعود عام 1418 على مكتبة تبيع كتباً قديمة ونسخاً أصلية وغالبها من تواليف العلامة التونسي محمد الخضر حسين-رحمه الله- فقلت للبائع وكان من مصر: اتصل بالشيخ بكر على هذا الرقم وأخبره بما عندك! وبعد أيام زرت المعرض ثانية فوجدت البائع المصري خارجاً من جناح دار العاصمة-التي تطبع أكثر كتب الشيخ بكر- ومعه جميع كتب الشيخ وحين رآني قال لي: كلك بركة! لقد اشترى الشيخ من الكتب التي عندي ووهبني نسخة من جميع مؤلفاته عن طريق دار العاصمة.
[3] كان لا يرى كتابة حرف ” الدال” قبل الاسم تعبيراً عن درجة العالمية العالية على أن يُكتفى بوصف مهنة حامل الشهادة بلسان عربي مبين ؛ وفي ذلك ترفع عن مجاراة الأعاجم أيضاً.
[4] كان الشيخ يكتب على غلاف كتبه وفي مقدماتها ” بقلم” تواضعاً لأنها أقل من كلمة “تأليف” فلما تبين له أنها لفظة وافدة من الكتاب الغربيين هجرها.
3 Comments