مواقف في الحج والعمرة
ستظلّ قصص الحج والعمرة من أجمل ما يتذكره الإنسان وإن طال بها الزمن، ولو دار المرء على الكرة الأرضية من شرقها إلى غربها، وفيما سبق كتبت مقالة عرضت فيها بعض ذكريات الحج والعمرة التي وقعت لي أو سمعتها، وأرجأت هذا القسم الثاني منها ليطول العهد بينهما، وعسى أن تكون أنيسًا للقوافل السائرة تجاه البيت العتيق والمشاعر المقدسة، أدام الله مسيرها، وبلّغها المأمن والمأمول، وأعادها بالسلامة والقبول.
وكم في ذلكم الموسم الميمون والبقاع الطاهرة من خيرات وبركات، وقد أنبأني بعض الصحب الكريم عن حجهم فرادى وما شعروا به من روحانية ونفحات وقرب من الكريم، وقرأت عن جولات المصلحين بين المخيمات والتعرف إلى إخوانهم المسلمين من أصقاع الدنيا، ولتلك الزيارات أثر في المحبة وتصحيح النظرة الانطباعية الخاطئة بين شعوب المسلمين التي تسود بقصور البحث أو بتشويه الإعلام، وأما صنائع المعروف، وابتداء مشروعات عظيمة في مجالات عدة فأمر تعين عليه فريضة الحج والعمرة، وتزيده تأثيرًا ومكانة.
كما لا يخلو الأمر من مواقف محرجة أو طريفة؛ فمما سمعته عن شاب جاهل أراد الحج قبل أربعين عامًا؛ فقال له والده: خذ معك أختيك لأداء الفريضة، ففعل وفي يوم الحج الأكبر رمى الرجل وحلق شعر رأسه بالموس، ثمّ انثنى نحو شقيقتيه وقال لهما: احلقا! فقالتا: نحن يكفينا القصّ، بيد أنه أصر على رأيه وأقنعهما بأن الحج لا يكتمل دون حلق، فجزت المسكينتان شعرهما، وحين عادوا لبلدتهم أُسقط في يد الوالد الذي أخطأ بتسيير حملة حج يقودها أرعن مقدام، والمحرج أن إحداهما سوف تتزوج بعد الحج مباشرة!
ووقفت مرة مع رفيق أراد أن يتصدق بالسقيا الباردة في موسم حج حار، ويالها من صدقة مضاعفة بسبب صفتها وزمانها ومكانها، وكنّا في يوم عرفة بعيد الصلاة والخطبة مباشرة، فاشترى سيارة كاملة فيها مشروب بارد وبدأ بالتوزيع فازدحم الناس عليه من كلّ جهة، وارتفعت الأصوات وأبرزها صوت أناس من بلد عربي واضح اللهجة، فمر ثلاثة رجال يبدو عليهم أثر الوجاهة والمكانة، ونظروا إلى التجمهر والفوضى فقال أحدهم لصاحبيه بنبرة حزينة: كلهم من أبناء بلدنا!
أما من أطرف ما سمعته أن إحدى الجامعات سيّرت حملة حج لطلبتها الأفارقة من الحاصلين على المنح الدراسية، وهذه المنح وتلك الحملة من القوة الناعمة التي لا يُستهان بها، المهم أنه في يوم طواف الوداع ذهبوا مع مشرفهم إلى الحرم وطافوا وخرجوا من ساحات الحرم نحو موقف حافلتهم، وعبروا من عند تجمعات بشرية مختلفة دون أن يتأثروا ببعض المشاهد، وفجأة بدأ الطلبة يهرولون هاربين، فناداهم المشرف طالبًا منهم التوقف، وسألهم عن سر الهرولة ظنًا منه بأنه مرتبط باجتهاد فقهي لديهم، غير أنهم قالوا له بلهجتهم المكسرة: الله المستعان يا شيخ، فالحرم مليء بالفتن! وتلّفت الرجل فلم ير في بقعتهم تلك غير نساء أفريقيات غالبهن متلفعات، واستيقن إذ ذاك أن الشيء منجذب لجنسه!
ومن هذا الباب المستطرف ما يحدث في انتظار الحجاج عند دورات المياه -أجلّكم الله-، فقد رأيت مشادة بين حاج عربي وآخر غير عربي بسبب أنّ العربي أطال المكث، فأنهى العربي نقاشه الحاد الطويل مع أخيه قائلًا بلهجته المتضاحكة: وهل كنت أشاهد السينما في الداخل؟! وسمعت أن أحدهم اغتاظ من طول الانتظار وإلحاح ما في جوفه عليه؛ فلما خرج مَنْ كان في الحمّام بادره بسؤال مستفز: ولد أم بنت؟ فقصفه الخارج بإجابة على البديهة: يشبهك! وللقصة تكملة يعفّ عنها القلم! ورأيت شبابًا لاهين يتمايلون ضاحكين أمام دورات المياه في الميقات، ويتبادلون تعليقات جهرية سخيفة على ما يسمعونه من أصوات، وهذه طبيعة المكان لو كانوا يعقلون.
كذلك أخبرني صديق أنه حلق شعره بعد رمي جمرة العقبة، وحين انتصف الحلاق وأصبح رأس صاحبنا من قسمين أحدهما أجرد أصلع، والآخر كثٌّ كثيف، تصايح الحَلقَة بأنّ رجال المراقبة حضروا فركض الجميع هربًا لأنهم مخالفين، وكان يسعهم العمل وفق النظام دون حاجة لمثل هذا المأزق، وحين همّ الحلاق بالهروب أمسك صاحبي بتلابيبه وتصارخا حتى وصل عندهما المراقب الذي دخل في نوبة ضحك، وأذن للحلاق بإكمال حلق النصف الآخر، ولا أدري عن مصير الحلاق!
أيضًا سعدنا بصحبة رجل من أهل طلعات البّر والمبيت في الصحراء، وهؤلاء القوم يغلب عليهم مع الشهامة والرجولة التفنن في الطبخ والترتيب، وكان الرجل يجيد صنع القهوة حتى أننا بتنا ليلة في الطائف، فلما صنع القهوة لنا طُرق علينا الباب، وكان الطارق أحد الجيران يطلب شيئًا من القهوة التي ألهبت رائحتها الزكية شوق عجوزهم، ومن الطبيعي أننا استمتعنا بقهوته في خيام المشاعر، وعندما عدنا إلى بيوتنا أزعجنا سيداته بطلب قهوة مثل قهوة أبي علي! وحدثني صديق أن مشرف البرامج الثقافية في حملتهم أجرى معه حوارًا أثناء مسير الحافلة في الزحام ضمن برنامج معدٍّ سلفًا كي لا يشعر الحجاج بالضيق، ثمّ سأله: كم زوجة لديك؟ فعرّض بالجواب لأن الأمر لا يهم الركاب، فجاءه صوت عجوز من آخر الحافلة وكأنها في سجال حماسي معه وهو لايعرفها وقالت: بل لديك أكثر من زوجة!
وتوقفنا ذات مرة في محطة وقود بجوار صحراء ممتدة، فنزل الجميع لأن الجلوس في السيارات مدة طويلة مرهق للغاية، وبينما كان أمير الرحلة يتفقد المشاركين إذ وقف بجواره شاب حاضر النكتة وسأله: هل يوجد هنا كاتب عدل حاذق؟ فتعجب وسأله: ولم؟ فأجاب الشاب: لأطلّق أقدامي! فقال له: كلنا طلقناهنّ بلا كاتب ولا شاهد! ومن الطريف أن المسؤول هذا كان صغير الحجم قياسًا لبعض من معه؛ ولذلك تعجب زوار المخيم أن يكون هو القائد على أولئك العمالقة؛ وليست المسألة بالجسم كما لا يخفى، وتذكرني هذه القصة بما سمعته من والدي رحمه الله أنهم حجوا قبل ستين عامًا أو أزيد، وكانوا ينادون أسنّهم بالأمير وهو قصير نحيل؛ فقال له رجل متعجبًا: أنت أمير وجميع ما فيك صغير!
اللهم بارك لنا في الصحبة والمسير ومنجم الذكريات، ويسر لنا الحج والعمرة بين آنٍ وآن، وتقبل منا، واجعلنا بعدهما على جميع الصعد في حال أحسن، والله يحمي الحرمين والمشاعر وبلادنا وبلاد المسلمين والمسالمين، ويعيد المقدسات المحتلة إلى حيازة المسلمين الراشدين وحكمهم، ويلقي في القلوب تعظيم الشعائر، وأداء واجب الزمان والمكان والحال كما يرضي ربنا ومولانا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 07 من شهرِ ذي الحجة عام 1441
28 من شهر يوليو عام 2020م