إدارة وتربية مواسم ومجتمع

لبيك ربي وإن لم أكن بين الزحام ملبيًا!

لبيك ربي وإن لم أكن بين الزحام ملبيًا!

لا يعرف الشوق إلّا من يكابده، ولا يشعر باللوعة إلّا من يعانيها، وهذا شأن عباد الله مع فريضة الحج التي حالت جائحة كورونا بينهم وبينها، والله يجعل العواقب خيرًا لأمته وأوليائه وبلاده، ويرفع اللأواء والبلاء من جميع صنوفه عن العالم وعن عالمنا الإسلامي الرحيب على وجه أخصّ، ويكتب التيسير لجموع الحجيج، ويعيدهم لأهلهم سالمين مقبولين، ويوفق القائمين على إدارته وتسييره.

ولعلّ هذا الحدث الفجائي أن يوقظ شعور الناس تجاه البقاع الطاهرة، فيدع أقوام تأجيل أداء الحج والعمرة، فقد شاهدوا بأنفسهم كيف منعهم الوباء العالمي من إتمام الفرائض من حيث لم يحتسب أحد، وعسى أن نكسب جميعًا أجر النية الصالحة المبيّتة بالحج في قابل، والعمرة في أقرب فرصة، فما عذر من يجوب الدنيا ثمّ يعجز عن بضعة أيام يمضيها في مكة الطاهرة ليكمل بها أركان إسلامه، ويؤدي ما افترضه الله عليه، ويعيش أجمل أيامه الروحية في الدنيا؟!

ولئن عجزنا عن قصد البيت الحرام والتلبية بالحج، فلن نعجز عن قصد الله مولانا وربنا في جميع أعمالنا الدينية أو الدنيوية؛ وما أيسر المغانم على من أبصر وتبصر فتاجر في نيته المخلصة مع الله ربِّ العالمين، حتى تغدو كلمة “لبيك” من خلاصات حياته ومنهاجًا مستقيمًا له، فحيث كان أمر من الله لبى بالامتثال، وأينما وجد نهي من الله لبى بالاجتناب، وتلك من مقاصد الحج.

كما أنّ الحج الذي يعلمنا التوحيد بلا إشراك، ووحدة التشريع دون شريك، والبراءة من الشرك وأهله، جدير بأن يبقي في نفوس المسلمين النفور من الشرك ظاهره وخفيه، صغيره وكبيره، مع التعالي عن مشابهة المشركين فيما يرتبط بطقوسهم ورسوم دينهم، مع العمل على ألّا نقتفي آثارهم في أمور الدنيا، ولا يعني هذا ألّا نقتبس المفيد منهم، وإنما هي دعوة لنرجع مصدر الإشعاع الديني والروحي والحضاري والعلمي كما كان أسلافنا في زمن مضى، وليس من المستحيل أن نغدو كذلك.

أيضًا يربطنا الحج بسلف كرام لنا مضوا على ذات الدرب، وارتحلوا من بقاع الدنيا إلى البيت الحرام، حتى روى أحد العلماء أنّ سبعين نبيًا صلّوا في منى، فأيّ شرف تناله أيها المسلم حينما تسلك طريقًا سبقك إليه الخليل إبراهيم عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه العظماء وعلى رأسهم الصديق والفاروق وذو النورين وأبو السبطين وبقية العشرة وأصحاب بدر والشجرة، وأيم الله إنها لمفخرة لا تكاد أن تدانيها مفخرة دنيوية.

بينما يؤكد الحج على وحدة أمة الإسلام التي تتشعب في شؤون دنياها، وتختلف ألسنتها، وتكثر بينها الفوارق جسيمها وصغيرها، بيد أنها إذا اجتمعت في منى، وعلى صعيد عرفات، وعند مزدلفة، وبين جنبات الحرم الشريف، ذابت جميع تلك الحواجز التي كنا نظنها موانع صلبة تصدّ عن الألفة والاقتراب بموجب رباط الدين، وأعظم به من رباط، وكما جمع الحج الناس في مكة؛ فكذلك الصلاة وحدت وجهة الأمة صوب الكعبة، فما أعجب الشتات الذي نعيشه!

كذلك يشير الحج إلى ضبط الزمان والوقت؛ ليس فقط لأنه في زمن مخصوص لا يمكن أن ينتقل إلى غيره، بل لأن الله جلّ في علاه أدار الزمان وضبطه حتى عاد كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، فحج النبي الأكرم والجناب الأعظم صلى الله عليه وسلم في زمن منضبط سليم من عبث الجاهلية، وحفظ هذه الصحة والدقة لأمته من بعده، وكم في اقتفاء أثر المقام النبوي السامي من عصمة للأمة في مجموعها عن الضلالة والخطأ، وما أشنع التفريط بفضيلة الاقتداء والاهتداء.

وفي مكة المحرّمة المصونة من الملحدين والمعتدين، وفي الكعبة البيت العتيق من عوالق الدنيا، ملامح مهمة لمن تأمل، فتلك البلدة المقدسة التي أُخرج منها النبي الكريم عليه السلام وصحبه رضوان الله عليهم، وتلك البنيّة التي حُرم منها أقوام تعلقت بها أفئدتهم، قد ضربا أصدق مثل بأن الأرض لله يورثها المتقين المصلحين من عباده إذا أصبحوا أهلًا للنصر، وأن الباطل مهما تصاعد فما أسرع سفوله وذبوله بصولة من الحق المؤيد من فوق سبع سماوات، ولولا هذه القاعدة لظلت مكة تحت سلطان مشركي العرب، ولبقي الحج مدنسًا بإفكهم وما يفترون.

ألا إنها شعيرة عظيمة يذلّ الله بها الشيطان الأكبر وأتباعه من الشياطين والأبالسة فلا يُرى أحقر منهم في يوم عرفة، ثمّ تقفل منها جموع المؤمنين بقوة تعرفها منهم قوى البغي والعدوان والاحتلال، وبطهر وإيمان يعاني منها سدنة الزيغ والبهتان، فما أسمى بركة الحج الذي يثبّت أركان هويتنا؛ فيحفظ ديننا لأنه ركنه الخامس والقُربة التي ترد الخلائق لربهم ردًا جميلًا، ويحمي تاريخنا لارتباطه بالتقويم القمري وسير الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ويعلي شأن لغتنا التي يلبي بها الحشود على تباين ألسنتهم وثقافاتهم؛ فلبيك اللهم لبيك سواءً كان واحدنا من البيت المقدس يدنو، أو ظللنا في الأمصار نرقب، والقلوب تهفو، والنية بالموافاة القريبة تنمو.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 04 من شهرِ ذي الحجة عام 1441

25 من شهر يوليو عام 2020م 

Please follow and like us:

3 Comments

  1. جزاك الله خيرا على هذا المقال الممتع . قراته للمره الثانية . ورددت لبيك ربي وان لم اكن بين الزحام ملبيا وفقك الله لما يحبه ويرضاه

  2. لم اتمكن عن عبوري على المقال من دون قرائته وانا اسكب دموعي شوقا لزيارة بيت الله الحرام . وانا اردد{لبيك ربي وان لم اكن بين الزحام ملبيا }بارك الله لك فيما تكتب من مقلات هادفة . وفقك الله فيما يحب ويرضى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)