حبال ودُمى وشيطان أكبر!
أردت القراءة في تاريخ العلاقات الأمريكية مع منطقتنا العربية والإسلامية، فوجدت كتابًا مترجمًا عن أمريكا في الشرق الأوسط منذ عام (1776م) حتى اليوم، ولم أنشط للبداية به قبل قراءة كتاب من تأليف مؤرخ عربي مسلم ثقة في اعتقاده وعلمه وأمانته العلمية والفكرية، وبعد ذلك أقرأ الكتاب الأجنبي لأوازن وأخرج بنتيجة لا أظلم فيها نفسي وقومي، ولا أجني على غيرنا فنحن أمة لا يجرمنها شنئآن أحد على ألّا يعدلوا؛ فالعدل أقرب للتقوى جعلنا الله من أهلها.
لأجل ذلك فرحت حين أخبرني المؤلف بتوافر كتابه في معرض الرياض، والكتاب المقصود عنوانه: حبال ودُمى: بداية العلاقات العربية الأمريكية، تأليف المؤرخ السوداني الكبير عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم، صدرت الطبعة الثانية منه سنة (2019م) عن مركز الحضارة العربية في القاهرة، ويتكون من (368) صفحة مقسومة على إهداء للحفيد، ومقدمتين، ثمّ خمسة فصول فالخاتمة يتلوها ملاحق يعقبها تعريف بعناوين سبعة وعشرين كتابًا للمؤلف، وفي مدونتي استعراض لبعضها.
يتحدث الفصل الأول عن العلاقات الأمريكية مع دول المغرب، ويختصّ الثاني بالمشرق وحصرًا مع الدولة العثمانية ودولة فارس، ويبحث الثالث تاريخ العلاقة مع الشام بأقطاره، ويقف الرابع عند وادي النيل في مصر والسودان، ويبحر الخامس صوب العراق وبلدان الخليج العربي خاصة الكويت وعمان، وغاية الكتاب الكبرى تحديد منابع هذه العلاقة واستكشاف جذورها، ونبش ذلكم التاريخ بحكم مقتضيات الضرورة التي نعاصرها.
دخل الشراع الأمريكي إلى البحر المتوسط منذ الربع الأول في القرن الميلادي السابع عشر فلم تأذن له سفن الممالك الإسلامية إلّا بعد دفع رسوم مالية؛ فاضطرت أمريكا لتكوين لجان مهمتها العاجلة الظاهرة المفاوضات، ومهمتها الباطنة الآجلة المؤامرات، وياله من شعور عميق بالعزة حين تسترضي أمريكا الجزائر القوية، وترسل التحايا والجزية لتونس، وتهدي حاكم المغرب النفائس، وتهرب ذليلة من صحاري ليبيا وشواطئها، وتسعى جاهدة لتوقيع معاهدات مع أمراء المسلمين، وينتظر ممثلوها أوقاتًا طويلة كي يؤذن لهم بمقابلة الحاكم أو أحد موظفيه؛ وربما لا يُتاح لهم اللقاء!
ويظهِر الكتاب المبني على وثائق أجنبية أمريكية وأوروبية أثر الكنائس في تهييج الرأي العام الشعبي في أمريكا، وكيف نفعت الكنائس سياسة أمريكا، وأمنها القومي، وتجارتها، وجلبت إليها الأموال بعدة وسائل، ويجزم المؤلف بأن الكنائس خدمت المصالح الأمريكية أكثر من خدمتها لدين المسيح عليه الصلاة والسلام، وبالمقابل جعلت الحكومة الأمريكية من التعليم، والتجارة، والطب، ستارًا تنفذ بواسطته كنائس أمريكا والعالم في أعماق الشرق المغري لهم من قراءة ألف ليلة وليلة، والبغيض عندهم بما تركته الحروب الصليبية من حمولة زادها العداء الديني القديم ثقلًا وحقدًا.
كما يبرز في هذا السفر طمع الممالك الإسلامية وقادتها بالمال والسيادة الذي أدى إلى التنافس فالتنافر فالتحاسد فالعداء البيني، حتى وقعت تباعًا فريسة للاحتلال الفرنسي، أو لغيره من قوى العدوان الأوروبي والشر المستطير، واستثمرت أمريكا هذه النزعات البشرية لزيادة النزاع وتضخيم الشقاق، واستفردت بكلّ دولة على حدة لتفصم عرى الوحدة بين ممالك المسلمين، وأحدثت بمكرها شروخًا في وشائج الإخوة الأصلية المغروسة في وجدان أبناء الأمة حكامًا ومحكومين.
واستطاعت أمريكا اختراق الجدار الإسلامي على شواطئ المتوسط بإذكاء نيران الخلاف بين زعمائها، وبذر الفتن داخل المجتمعات وبين الشعوب وحكامها، وبعقد اتفاقيات ثنائية أضعفوا من خلالها التنسيق المشترك بين الدول الإسلامية في شمال أفريقيا، ثمّ استثمرت اليهود والأقليات لإنجاح مشروعها، فبلغ نفوذ الأجانب درجة تمكنوا بها من اقتحام المنظومة الإدارية حتى وصل رجالهم لمنصب مساعد الحاكم لشؤون غير المسلمين، ولم تغفل عن الإفادة من الأطباء النصارى في التجسس وتمرير الرسائل؛ ولذلك رفض الملك عبدالعزيز طلبهم بافتتاح مستشفى في الرياض وقال لهم: إن شعبي ليس على دين واحد فقط، بل على مذهب واحد!
أيضًا من النتائج التي انتهى إليها الكتاب أن الفخ الأمريكي أكثر ما ينجح إذا نُصب لأقوام يتاجرون بالدين، أو حين يستثمر الأمريكان المطامح والمطامع الفردية، ويصل القارئ إلى حقيقة مؤلمة مختصرها أن حكام إمارات المغرب العربي في تلك الحقبة فقدوا الثقة ببعضهم، وعظمت الوقيعة بينهم، ولو وفقوا إلى أدنى درجة من التعاون والتكاتف وحسن الظن المتبادل لما آلت بلادهم رهينة لفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا، ولصار بحرهم المتوسط عامل قوة لهم وسيطرة.
كذلك يصف الكتاب المكر الأمريكي باحتلال البلاد بالوكالة عن طريق فرنسا وبريطانيا وغيرهما؛ كي لا تدخل في منافسة مع دول أوروبا، ولتحافظ على صورتها الحيادية البراقة بدعاوى حقوق الإنسان والسلم، وترتدي لبوس البراءة والنقاء أمام الشعوب، وهي على التحقيق صنعت مسرحًا جعلت أبطاله أشبه بالدمى التي تحركها بحبال دون أن تظهر على خشبته، ومما يُدمي القلب أن يرى المسلمون سفن الكفار تتجه لاحتلال بلد مسلم والعدوان على أهله من غير أن يحركوا ساكنًا مع استطاعتهم، وهو حال الممالك الإسلامية تجاه العدوان الفرنسي على مصر، ولربما أن صمتهم سهل ما فعلته فرنسا بهم لاحقًا، والتاريخ أحيانًا يعيد نفسه؛ فاللهم لا تعاقبنا!
وينقل المؤلف الغيور تعاطف القوى الغربية مع أمريكا ضد المسلمين، وارتفاع وتيرة الروح الصليبية فيهم، ومن ذلك أن أمريكا تتابع المعارك مع الدولة العثمانية وتبتهج لهزائمها أمام جيوش أوروبا، وتطلق أسماء تلك المعارك وقادتها على الميادين والشوارع، وفي ذلك دليل على أن القوم يختلفون فيما بينهم لدرجة التصارع؛ لكنهم يجتمعون علينا، وكم من مرة ومرة أخلت قوة منهم مواقعها لصالح غيرها من بني دينها.
بينما كانت الإدارة الأمريكية تسعى لعقد الصداقات وهي تجهز للحرب وكسر طوق الجهاد الذي تفرضه الإمارات الإسلامية، ومما يلاحظ على المساعي الأمريكية إصرارها على طمس الهوية الإسلامية، ومحاربتها العنيفة للغة العربية، وصناعة الحواجز لمنع تغلغل الثقافة الإسلامية من شمال السودان لجنوبه فما وراءه، وتكاتفها المبكر مع اليهود في استخدامهم وخدمتهم؛ وهو أحد أسرار حرصها على تثبيت دولة اليهود الاستيطانية في فلسطين حتى أصبحت أمريكا لا ترى الشرق إلّا بعيون يهودية.
ومن المحزن تلك الأوصاف الشنيعة البشعة التي يطلقها رسل أمريكا وقناصلها على حكام المسلمين، وشغف بعض السلاطين بالغرب إلى حدّ صرف الأموال الطائلة من خزائن المسلمين لإنجاز بعض الأعمال الممكّنة للهيمنة الأمريكية، ونظرة الساسة العرب للأجانب بعين الود؛ فيما ينظر أولئك الساسة لنظرائهم من العرب بعين المصالح، وبعد أن تحاربت جيوش الدول الإسلامية عبّر الجواسيس عن سعادتهم بتقاتل المسلمين، ووصفوا الموقف بالطرافة، وأمضّ ما في الكتاب وأشده مرارة أن أضحى الحكام المسلمون يستجدون السلام من أمريكا وهم الذين كانوا يمنحونه، وتسعى واشنطن وغيرها جاهدين لإبرام المعاهدات التي تنفي عن المسلمين صفة القرصنة الملصقة بهم زورًا، ومن يهُن يؤول مصيره إلى ذلة وصغار.
أما معلومات الكتاب الطريفة فمنها أنه كان للرئيس الأمريكي الثالث جيفرسون (1801-1809م) مزرعتان يعمل فيهما رقيق أفريقي يزيد عددهم عن جميع ما في الجزائر من رقيق! وجيفرسون من الآباء المؤسسين، وقد أقلقه الرقيق الأمريكي قليل العدد في الجزائر مع أن الجزائر لم تقتل أمريكيًا واحدًا خلال تنازعهما البحري على كثرة ما أسرت من سفن وبحارة أمريكيين؛ فلم تكن لدى الجزائر تلك الثقافة التي لخصها روزفلت بقوله: لن يكون السلام قويًا إلّا إذا جاء والسيف في يده!
ومنها أنّ اتخاذ شعار السيف رمزًا لرجال البحرية الأمريكية فيه تخليد لذكرى زحفهم عبر رمال برقة نحو درنة، ولنشيد المارينز العسكري ارتباط بليبيا، وأول مواطن أمريكي يرفع علم بلاده فوق أرض أجنبية كان في درنة عام (1850م)، وللبحرية الأمريكية مواقف ذلة على الشواطئ الليبية حين أحرق المجاهدون سفنها، وفرّ بعض جنودها، وعلى أرض ليبيا وقعت مؤامرات أمريكية بتواطؤ يهودها، وخيانات داخلية بين الإخوة الحكام الذين شقوا ببعضهم وبخدع واشنطن ذات التاريخ بإحداث الارتباك والخلل داخل البيوت المسلمة الحاكمة؛ ثمّ تتركهم في وحلٍ من الدماء والبلاء والتنازع.
ومع الكيد الأمريكي لتسريع مكرها وإنجاحه بإحياء الروح الصليبية، والتحالف مع اليهود، وزرع الفرقة بين المسلمين، وتكوين أسطول قوي جاهز للتدخل، والتغلغل الثقافي في الدول الإسلامية، والمناداة بحرية الاستثمار، وفرض الحرية الدينية المطلقة في المنطقة، والتضييق على التجارة الإسلامية لارتباطها بالدعوة، واستعمال الطب والتعليم والطباعة لإفساد عقول المسلمين ومجتمعاتهم، إلّا أن المقاومة الشعبية أجهضت كثيرًا من مشاريع أمريكا، وأجبرتها على التغيير أو التأخير، ولا تزال الخيرية في أمة الوعي، والحرية، والاستمساك بالوحيين الأقدسين.
جزى الله المؤرخ والعالم البروفيسور عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم حمدون الخير كله على جهاده العلمي، فنحن بحاجة لبيان تاريخ العلاقة الغربية مع أمتنا، تلك العلاقة التي لو عرفنا حقيقتها ونشرناها بين الناس لخجل أيّ شريف أو عاقل من دول العدوان الغربي أن يذكر جنسيته، ولصار حالهم كالحال التي وصفها المخرج العالمي الراحل مصطفى العقاد رحمه الله عن عمله السينمائي حول شخصية صلاح الدين الأيوبي رحمة الله عليه بأن مقدمة العمل وحقائقه ستجعل اليهود والنصارى يرحبون بصلاح الدين ويفرحون بمقدمه قبل المسلمين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 28 من شهرِ ذي القعدة عام 1441
19 من شهر يوليو عام 2020م