إدارة وتربية

الدجاجة…!

الدجاجة…!

أنسى كثيرًا من قصص الطفولة، وهذا عيب ربما يزول لو حاولت استرجاع الذكريات لأنها ستنهمر كما أتوقع وهو أمر يحدث مرارًا حسبما قرأت في ذكريات وسير، والذكريات منجم للكاتب لا ينضب، وخير مفزع إذا جفت بعض منابع الأفكار، وإن كان الأصل ألّا تجف خاصة لمن عرف كيفية صناعة الفكرة، ومارسها، والعون من الله الخبير العليم.

بيد أن قصة وقعت أمام ناظريّ وأنا في الصف الأول المتوسط تأبى أن تذهب من ذاكرتي، وخيالي، وكلما عبرت بي جلبت معها المرارة، ومشاعر سلبية أخرى، إذ درسنا مادة الرياضيات عند أستاذ عربي ضخم مهيب، عبوس الوجه دائم التجهم، مع أنها أول سنة تعاقدية له، وكان يجدر به الترفق والتلطف، والابتداء بالتي هي أحسن وأقوم وأنفع.

لم نسمع من معلمنا خلال الحصص غير المنهج وعبارات التقريع القاسية، ولازلت أتعجب من خنوعنا حال حضوره خاصة أن لبعض زملاء الدراسة تحالفات ومشاكسات كسرت هيبة غيره من الأساتذة، وأساءت التصرف مع مربين ومعلمين أفذاذ، وأجبرت المتعسفين على التوازن فلسنا قطيعًا من البهم، فضلًا عن كون طبيعة التعاقد مع المعلم لا تعتمد على العنف والزجر، وإنما أساسها التربية والتعليم بتؤدة وإحسان.

أقول ذلك مع أن موقف هذا المعلم تجاهي فيه تبجيل وتشجيع؛ إذ توقف عن شرح درس المعادلات فجأة وقال لي أمام الطلاب تفاعلًا مع إجاباتي الشفهية الصحيحة: أنت ودرويش العماني أذكى طالبين في الخليج! وطبعًا فإن كلامه غير صحيح وإن أسعدني آنذاك، فهو إطلاق مبالغ فيه جدًا لأنه لا يعرف كلّ طلبة مدرستنا فضلًا عن طلاب الخليج، وهذه فرصة لذكر نظيري العماني دون أن أعرفه، ووقفة واجبة للدعاء له ولأهلنا في عمان وغيرها.

المهم ذات يوم ضجر أستاذنا من صعوبة الفهم عند أحد الزملاء، والخطأ في إجاباته، وكان الزميل صغير البنية مثل غالب طلبة الفصل، فناداه المدرس إلى مقدمة الصف، وطلب منه أن يمشي على أربع من أول الغرفة الطويلة إلى آخرها ثمّ يعود وهكذا في إقبال وإدبار، ويقول خلال مشيته الحيوانية بصوت مرتفع وبتكرار للعبارة: أنا دجاجة! ففعل المسكين مكرهًا، وسعى عدة مرات وهو يردد هذه المقولة البشعة بصوت كسير دون أن يعترض أحد منا، أو ينتصر له أصدقاؤه وأقاربه وهم كثر، والمحزن أني لا أذكر أن أحدًا سلّى صاحبنا ولو بدعوة أو كلمة أو دمعة أو عبرة أو توجع.

وبعد ذلك غاب زميلنا فواز ولا أعلم عنه خبرًا إلى يوم الناس هذا، وآمل أن يكون بخير، ولا أبرئ الأستاذ مما آل إليه مستقبل الزميل بسبب أمره الأرعن. واستمر الأستاذ معنا إلى نهاية العام، وفي السنة الدراسية الجديدة افتقدناه فعجبنا لأن عقده حديث عهد، والذين يدرسون الرياضيات وأمثالها يستمرون لسنوات طويلة؛ ثمّ علمنا أنه تشاكل مع الإدارة في نهاية العام؛ فسلّط الله عليه من هو أقوى منه وأغلظ، فخطّط لإنهاء التعاقد معه بعد أن جمع المؤاخذات عليه، ومنها قصة الطالب الذي حاكى الدجاجة مرغمًا مهانًا، ولا أدري هل علم فواز بذلك أم لا؟

ربما يسأل القارئ: ماذا كان بوسعكم أن تفعلوا؟ والجواب يسير، فالاعتراض الصريح لم يكن مقدورًا عليه مع سطوة المعلم وشدته، بيد أن أبواب الإدارة فما فوقها مفتوحة، وكان يمكن لنا أن نشكو تصرفه للمدرسة، أو لإدارة التعليم، أو لتجمعات المعلمين إن وجدت، أو نطلب من أكابرنا فعل ذلك، أو ننقل لباقي المعلمين الواقعة خاصة أن التنافس بينهم أو الحمية التربوية ستدفعهم للحركة، وبإمكاننا أن نمكر به فنصمت عن التفاعل مع الموجه الذي نسميه مفتشًا وطبيعة عمله أقرب للتفتيش منها للتوجيه؛ فنحرج أستاذنا القاسي؛ فإما يرعوي ويعتدل ويتوازن في تعامله، أو يؤول مصيره إلى خلاص عاجل لنا، وإن من لا يعي أسلحته مثل من يسلح على نفسه!

وأشير في الختام إلى أن اختيار الأستاذ للدجاجة كان معبرًا للغاية، فهي من أكثر الحيوانات على الأرض، وأشدها خوفًا ورعبًا لدرجة قصر مدة نومها، وتكاد أن تجمع غالب الشعوب على أكلها بطرق متنوعة دون مقاومة تذكر منها، ومع أن لحمها مستطاب، وبيضها لا يُستغنى عنه، فما أكثر ما يُستخف بها، ويتلعب بها حتى الأطفال والصغار، ثمّ لا تُكرم بل يُلقى لها البقايا والفتات والنشارة، ولو أنها استخدمت منقارها ولو لم يكن من حديد، أو استعانت بصوتها الحاد، لربما وجدت دروب نجاة، أو صنعت لنفسها قدرًا وهيبة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 17 من شهرِ ذي القعدة عام 1441

08 من شهر يوليو عام 2020م  

Please follow and like us:

4 Comments

  1. حبيبي أبوعبدالمحسن
    ذكرتني بمدرس رياضيات درسنا في الرابع ابتدائي في مدرسة عبدالله بن رواحة في حي الوزارات في الرياض وكان أيضا من جنسبة عربية وكان طويلا جهوري الصوت صلفا سيئ الشرح والخلق. كرهنا معه مادة الرياضيات وكنا نشتكي للإدارة بشكل مستمر بطرق مختلفة إلا أن الإدارة كانت تفتقد للبديل وتنتظر لترى إلى أين تصل الأمور.
    فجاة سمعنا أنه تم نقله من المدرسة !!
    ازداد عجبنا عندما عرفنا السبب وأكبرنا المسبب.
    حيث انه نهر أحد الطلبة نهرا شديدا أثناء الحصة (وهو مالكي) فماكان من الطالب إلا أن خرج من المدرسة فترة الفسحة وطلب سيارة أجرة (وكانت الأجرة تلك الأيام مقصورة على السعوديبن) فكان رجلا كبيرا في السن فسألة أين تريد ياولدي فقال: مدير تعليم الرياض (هكذا بدون مقدمات … قرار طالب في الرابع ابتدائي لم يكن يعرف أي وسيلة تواصل ترشده للقرار الصواب)
    سألة صاحب الأجرة عن الأمر فشرح له فأوصله وادخله للمبنى بنفسة. دخل على مديرعام التعليم (أذكر أنه الدكتور السلوم رحمه الله حيا أو ميتا) فاستوعب الشكوى ووعد خيرا واستوضح الأمر.
    في اليوم الثاني تحولت الحصة عند صاحبنا المدرس من الرياضيات إلى توعد وتهديد للطالب وانه لايخاف حتى لو أشتكيتم للملك! والطالب لم ينبس ببنت شفه ونحن لاندري ماذا حصل بالضبط
    وبعد أيام اختفى المدرس وبقي الطالب
    العجيب في الأمر أن صاحبنا المالكي لم يكن طالبا متميزا ولا مشاكسا. إنما فقط كان مبادرا وقرر أن يصنع الحدث ويؤدي فرض الكفاية ليس عن الطلبة فحسب…. بل عن إدارة المدرسة
    رحمه الله رحمة واسعة فقد توفي في شبابه بطلق ناري خاطئ من أحد معارفة
    وأسلم لمحبك
    أبوطارق
    حامعة الملك سعود
    الرياض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)