مشايخ الفقه والقانون!
درسني في الثانوية معلم عربي مخلص، على ديانة حقيقية بلوتها من مواقفه، وقد زاد على تدريس علم الأحياء، فأيقظ مشاعرنا تجاه ما حولنا، وأفاد طلابه كثيراً في مجالات عدَّة، ولم أوافق على بعض آرائه، كموقفه من ابن خلدون، وعلم الاجتماع؛ بل كنت استغربها منه.
وبسبب الجمود، والتخلف العلمي والحضاري، احتفى الغرب قبلنا بابن خلدون، وبجَّله الترك قبل العرب، وبعد أن عرفناه عن طريق المستشرقين، تسابقت إليه جلُّ التيارات الفكرية، وكل واحد منها يريد الاتكاء عليه لصالحه، ومع ذلك فلا يزال في نفوس البعض منه شيء! وليت أن مقدمته الباهرة تدَّرس في الجامعات، والمساجد، والمحاضن.
وكنت -ولا زلت- أتعجب من سرعتنا -باختلاف توجهاتنا- نحو إقصاء من يختلف معنا ولو في موقف قديم بدأ يتزحزح عنه، أو في جزئية يسيرة، أو في موضوع يسوغ فيه الخلاف، أو لصاحبنا في رأيه عذر مقبول؛ ولذلك اتسعت دائرة التنازع، وراجت سوق النقائض، وأما التوافق والتعاذر فنادر، مشوب بما يكدره إن وجد، والظن بالله حسن أن يصلح الحال، ويجمع القلوب والمواقف على ما يرضيه.
وهناك أمثلة لأشخاص استفرغوا وسعهم قدر مستطاعهم، وحاولوا التقرب من الرؤية الإسلامية التي يرتضيها الله لعباده، فأصابوا وأخطأوا كعادة البشر، وحرصت بعض التيارات الفكرية على حيازتهم ضمن صفوفها، وإبعادهم عن الآخرين، وزيادة الفجوة بين الأمة وبينهم، وشاركهم في ذلك بعض المشايخ والإسلاميين، الذي يضيقون الدائرة إلا على من يرونه الكامل النقي، وأي الناس تصفو مشاربه؟!
ومن الأمثلة الجلية على ذلك، شخصية الفقيه القانوني د.عبد الرزاق السنهوري، والمفكر المنهجي د.عبد الوهاب المسيري، فضلاً عن آخرين، لهم إسهامات فريدة، وكان يسعنا الإفادة منهم، وشكر جهودهم، وألا يكون موقفنا معهم التنفير وتتبع المآخذ فقط. ولا يعني هذا بحال تصديرهم فيما ليسوا أهلاً له، أو ترك الرد عليهم، والتنبيه على أوجه الزلل في أعمالهم، بيد أن الفرق واسع بين توضيح الخطأ، وبين دمغ صاحبه بما لا يستحق من أوصاف، والسعي لجعله في زمرة الأعداء، وقد يكون من أخلص المحبين.
وبعيداً عن الأشخاص، فقد نتخذ موقفاً ثابتاً من أشياء، وبعضها يحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم، ولا مناص من التعامل معها، بأفق رحب، ونظرة واسعة، لا تتجاوز ثوابت الشريعة، ولا تتعدي على مقاصدها، لكنها لا تحجر واسعاً، وتفتح الباب لأي تجديد أو إصلاح قائم وفق أمر ربنا، وبما يرضيه، ويحقق المصالح المعتبرة شرعاً.
ومن الأمثلة على ذلك، مسائل جمة في الاقتصاد والتمويل والاستثمار، وموضوعات شتى عن الترفيه والتراث والمشترك الإنساني، ومجالات الإعلام، وقضايا التعليم، وشؤون المرأة، وغيرها. وعلى القادرين من العلماء والمفكرين تدارك الموقف، واهتبال الفرص المتاحة والمشاعة، أو صناعتها فالحيلة بنت الحاجة، كي يبرئوا الذمة، وينصحوا للمجتمع بمكوناته، حذراً من مستقبل مخيف جارف؛ لا يقيم وزناً لمعارضة تقليدية، ولا يبقي على شيء من المكاسب القديمة.
ومن الموضوعات التي بدأت تتعاظم أخيراً، ويزداد حضورها بشكل لافت جداً، التوسع في دراسة القانون، والابتعاث فيه، وافتتاح الكليات، والأقسام، والمسارات الدراسية، وتمكين المتخرجين فيه من العمل الحكومي المؤثر، سواء داخل الرواق العدلي، أو فيما يحتف بالمنظومة العدلية ويتقاطع معها، وفي الهيئات الجديدة والقديمة، والأمر في اتساع واطراد لا ينفع معه مجرد الفتوى أو المعارضة.
وفوق ذلك، فإن “القانون” هو تخصص أهم الأمراء في الحكومة، ومناصبهم سيادية قريبة من البلاط، وهو تخصص أقدم الوزراء، ومنابع الخبرة في مجلس الوزراء، مثل د.مطلب النفيسة، ود.مساعد العيبان، وهو صلب اهتمام هيئة الخبراء التابعة لمجلس الوزراء، التي ترأسها أول مرة الشيخ الكبير صالح الحصين، الذي درس القانون بعد أن وعى الشريعة، وفهم فقهها ومقاصد التشريع، وما أسمى من يجمعهما، وأعظم بركته، والشيخ الحصين خير مثال، علماً أن ثلاثة من رؤساء الهيئة قد أصبحوا أعضاء في مجلس الوزراء، وهو عدد قابل للزيادة؛ لأهمية الهيئة، وجسامة مهامها.
ولأن الحكومة الآن تتجه نحو تكوين مؤسسات مدنية متنوعة، وتحرص على تطوير الأنظمة، والقضاء والشأن العدلي والأمني عموماً، وكانت ولازالت تبرم معاهدات واتفاقيات ثنائية أو متعددة، ولا مناص في هذه الأعمال من خدمات المهتمين بالقانون الدولي، أو بفروع القانون الأخرى، كان لزاماً على من يريد المصلحة لبلاده، وتمتين رباطها بالشريعة مرجعية وتحكيماً، أن يولي هذا التخصص، ودارسيه من الجنسين، عناية خاصة؛ لحقهم علينا، ولأن خيوط التأثير ستكون بأيديهم، يرثونها عمن سبقهم من أهل التخصص، وهذا خير من الاكتفاء برأي قد لا يغير شيئاً على أرض الواقع.
لأجل ذلك فالمبادرة ضرورية، وتحتاج إلى جاهزية وانفتاح، فإني أتمنى على فضلائنا من الفقهاء، والقضاة، والأكاديميين، في تخصصات الفقه، والفقه المقارن، والسياسة الشرعية، والقضاء، والفرائض، أن يلتفتوا لإخوانهم وأبنائهم وبناتهم، التفاتة الناصح المشفق الأمين، وهذا هو القمين بهم، والمنتظر منهم، وأن يجتهدوا فيما يلي:
- تأليف الكتب الفقهية والأصولية التي تنفع طلاب القانون.
- التدريس في كليات القانون، والمشاركة في وضع مناهجها، والإشراف على رسائلها العلمية.
- إضافة المواد القانونية المناسبة للدارسين في المعاهد والكليات الشرعية.
- عقد لقاءات مفتوحة، وندوات عامة، ودورات علمية، ويكون المستهدف بها طلاب القانون وطالباته.
- إتاحة التحاق طلاب القانون بالكليات والمعاهد الشرعية للحصول على دبلومات شرعية.
- تمتين الصلات مع مكاتب المحامين، وديوانيات القانون، وكبار أساتيذه والمنافحين عنه.
- مراجعة جميع الأنظمة المحلية الصادرة، وكل الاتفاقيات المبرمة، والدعوة لتصحيحها وفق ناموس الشريعة.
- إنشاء الجمعيات والمؤسسات المدنية التي تعنى بعلوم الفقه والقانون، والمشاركة في عضويتها.
- كتابة الدراسات المقارنة، والتشجيع على مثل هذه الدراسات التي تبين للمنصف سيادة الشريعة، وسمو الفقه الإسلامي؛ لأنه رباني في مقاصده وأصوله، وليس من صنع البشر.
وحين أقول ذلك، فإني أبتغي مصلحة البلد وأهله، فقدر بلادنا أن تلتصق بالشريعة الإسلامية، وتحتكم إليها، وهي شريعة ربانية مبينة لكل شيء، وتناسب كل حال، وتصلِح الأمور في الحال والمآل. وما أيسر التطوير من الداخل، بذكاء وحكمة، ودون صدام أو مخاشنة، لأن الغاية رفيعة، وليست ذاتية، أو أرضية.
ثم إني أقصد خدمة دارسي القانون؛ بتجسير طريقهم لفهم دينهم، والتلذذ باستشعار عظمة مقاصد التشريع، كي لا يقع في قلب أحد منهم أو عقله، ما قد يهوي به عند خالقه يوم لا ينفع مال ولا بنون. وفي المقترح فائدة لدارسي الشريعة بفهم القانون وصياغاته، ومعرفة لغته ومصطلحاته، ومدارسه، وأقسامه، وطرائق التفكير فيه، كي لا يفقدوا القدرة على التواصل مع أهله، ومع البلاد والمنظمات التي تتعامل به فقط.
وسوف تسعد منظومتنا الفقهية والقانونية بنماذج مباركة يوظفون القانون لخدمة الشريعة، أمثال المشايخ الزرقا، وزيدان، والحصين، والبياتي، كما سعدت قديماً بإرث سادات عظام كابن تيمية، والشاطبي، والجويني، والقرافي، وغيرهم، وإن تقريب دارس القانون من هذا الميراث الضخم؛ ليحميه من العواصف المقصية عن شاطئ الأمان.
وأخيراً فإن رضا الله هو الغاية والمطلب؛ إذ أن رضا الناس غاية لا تدرك! وليس فيما اقترحته عدوان على جانب الشريعة، أو إقصاء لها من مكانها، فهي الأصل، والأساس، وكل شيء تابع لها، وما عارضها فباطل يرمى ولا كرامة له، أيَّاً كان القائل به، والمنافح عنه، والداعي له، ومهما قيل عن مسوغات ومصالح؛ مالم تكن شرعية خالصة صائبة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين غرة شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1438
24 من شهر يوليو عام 2017م
4 Comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكر الله لك جهدك وبارك قلمك
أنِست بالمقال وأفدت منه، وقد رأيت خطأً مطبعياً -غير مقصود- أود التنبيه عليه.
في المقطع الثاني، قلت: “وبسبب الجمود، والتخلف العلمي والحضاري، احتفى الغرب قبلنا بابن خلدون، وبجلَّه الترك قبل العرب”
في كلمة “بجلَّه”، يبدو أنك أردت أن تضع الشدة على الجيم ولكنها كُتبت سهواً على اللام.
هذا ما لدينا
وكان الله في عون الجميع
شكر الله لكم.
صححتها والله يرعاكم.