نورة الشارخ: المدرسة الشامخة
هذا الكتاب جميل بفكرته ونتيجته، وأُوصي بالمبالغة بنشره، هذا هو رأي الرجل البصير العميق معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله- عن كتاب قصير عنوانه: أمي مدرستي (نورة بنت عبدالله بن صالح العضيب الشارخ) 1352-1430، تأليف الدكتور محمد بن عبدالله السلومي، صدرت الطبعة الثانية منه عام (1434) عن مركز القطاع الثالث للاستشارات والدراسات الاجتماعية، ويقع في (78) صفحة تماثل عمر سيدة الكتاب أعلى الله في الجنان درجاتها، ومتاح من الكتاب نسخة إلكترونية بأكثر من صيغة على موقع المركز.
يقول المؤلف بأن حفظ أخبار نساء هذه الأمة سنّة سارت عليها مدونات السير العظيمة لعصر الصحابة رضوان الله عليهم فمن بعدهم من طبقات، فضلًا عن كون مثل هذه التآليف تدفع لمراجعة النفس وواجبها تجاه الوالدين، وتدع المطلّع عليها يترحم على المترجم لها، ويقتدي بمحاسنها، وذلك لسان صدق باق لها في الآخرين، وأجر مستمر لا ينقطع عند ربّ العالمين، وهو الثمرة الكبرى من التوثيق والتدوين.
كما أن إيراد سير نساء صالحات عشن بيننا يعدُّ مصدر ثراء وإثراء في ميادين التجارب والعبر، وفيه ترجمة العلم إلى عمل، وتحويل المعرفة إلى سلوك، خاصة مع امرأة حصيفة جعلت من قولها وفعلها وتربيتها وكافة صنيعها قواعد تربوية نافعة لمن أراد الاقتباس، ولها امتياز ظاهر في ثلاثة محاور هي النجاح مع الزوج والبيت، وتحقيق وظيفة الحياة، والإنتاجية في عصر الشقاء والتعب، وفي زمن الاستهلاك وشيوع التقليد، فكانت في بيتها عاملة وليست أجيرة، وتؤدي أخطر رسالة وليس مجرد عمل.
عاشت هذه المرأة النبيلة أكثر من ستين عامًا مع زوجها منذ اقترنا في عام (1368)، وظلت تؤازره ولم تثقل وزره، وتراعي انشغاله برزقه ودعوته ورحلاته وأعماله الخيرية، دون أن تتأفف من كثرة زواره، أو اختلاف رأيهما، ومن قسوة الحياة بحكم شظف العيش، وصعوبة الصحراء، ولربما أنها مثل أيّ امرأة اختلفت مع زوجها بيد أنها لم تبرح منزلها مغضبة إلى دار أهلها ولو مرة واحدة، حتى مع أحلك نازلة تصادفها المرأة مع شريك حياتها كما سيأتي.
ونتيجة لاجتهادها التربوي في مملكتها، تخرج في مدرستها وهي الأميّة إحدى عشرة أسرة تفرع عنها عشرات الأسر، وأفاضت بحنانها على جميع بنيها حتى شعر كلّ ابن أو ابنة أنه وحيدها لحفاوتها به، فنالوا شهادات عالية في العلم، وتطبيقات موفقة في العمل، فهم أزواج يغترفون من معين تجربة أبصروها عيانًا، وقطفوا خيراتها قبل غيرهم، وأصبح نفعهم ظاهرًا لمجتمعهم وبلدهم وأمتهم.
وكانت تعمل داخل بيتها ست عشرة ساعة يوميًا في مهمة لا يقوم بها كاملة شاملة غير الأم، ولو تخلت عنها لاستُحدثت داخل كلّ منزل عدة وظائف، ولن يداني أداء العاملات صدق الأم ونصحها وحرصها وسمو غايتها مهما اجتهدن، ولو كان بعضهن لبعض ظهيرًا، ولذلك رست سفينة هذا البيت الكريم على جبل راسخ؛ فالمرأة حجر الزاوية لسلامة البيوت، واطمئنانها، ولا يصاب أهل بيت باضطراب إلّا بنبذ المرأة وإهمالها، أو بسبب لهو المرأة عن بيتها وانصرافها لغيره، أو باعتداء امرأة متهورة انقلبت على رجل البيت فغدت الآمرة الناهية!
ثمّ شغلت نفسها ضمن حدود منزلها والمزرعة بالعمل والإنتاج، سواء بشؤون البيت والزوج والأطفال، أو مع المزرعة ومنتجاتها وحيواناتها، أو بالإفادة من الأشياء التي تبدو منتهية الصلاحية أو عديمة الفائدة، فتدخلها في عملية إعادة تدوير يستفيد منها البيت وأهله، أو تُهدى لقريب أو محتاج، فتقلل من الهدر وتحفظ المال للأهم، وصدق من قال بأن مدبرًا في الدار خير من حدّار، علمًا أنها تؤدي هذه الأعمال دون خادمة، وتقضي بعملها على فائض الوقت الذي يجلب الضجر، أحد أكثر أمراض عصرنا شيوعًا، وأثقل الكلمات تردادًا على أفواه الأجيال الجديدة.
كذلك من صفات هذه المرأة المباركة أنها تخدم نفسها بنفسها، ولا تحب أن تكلّف أحدًا لا ماديًا ولا معنويًا، وتزور حتى من لها عليه حقّ الزيارة، ولها أعمال خيرية خفية، ويلفت حسن خلقها حتى الممرضة الأوروبية التي شهدت بتميزها عن جميع مرضاها خلال تاريخها، وتنظر إلى العمل في قيمته ومعانيه وليس نحو مردوده المادي، وكونت مع زوجها في بيتهما الذي لا يزيد عن أربعين مترًا مربعًا منهجًا تربويًا متوازنًا فيه القوة واللين، والمحاسبة مع العذر، وإنما تصلح الأمور كلها بالتوازن، ووجود أطراف متفاهمة تحول دون انقطاع الشعرة، أو انفراط حبات العقد.
أيضًا تبتعد عن المجالس التي يكثر فيه اللغو فتحفظ مروءتها ولسانها، وتحمي حسناتها من الذهاب لغيرها، وتتسلى بالعمل، والقصص ذوات الحكم، وتركيب خلطات العلاج لأهل بيتها، ولا يعرف الجزع طريقًا إلى قلبها، ولا يغلبها التسخّط، فحين مات رضيعها غسلته وكفنته بنفسها، ولما بلغها نبأ وفاة أصغر بنيها بحادث سيارة وهو في شبابه المبكر توضأت ولجات إلى الله بالصلاة قائلة: هو من الله وإليه، وبالمناسبة فلها كلمات تُروى عنها، تصف تعلقها بالله، ومعرفتها الأكيدة بالحقوق، ومراعاتها للأخلاق السامية، واكتشافها حقيقة الدنيا، وسرد نجلها المؤلف نماذج من تلك الكلمات في كتابه المختصر المؤثر.
بينما أنجاها الله من مرض نسوي شائع، إذ تعايشت برقي ضمن بيت صغير الحجم كبير القدر، فيه جدٌّ وجدّة وزوجة الجدّ وأولادهم، وفيه عم مع زوجته وأبنائهما، ومع ذلك تعاونت هي والكريمات في هذا البيت لتقاسم العمل وتوزيع المهمات، مع القيام بحقّ الزوج ووالديه، والعناية بما يعود لأهل البيت من زراعة وحرث، ولن تكتمل متطلبات العيش تحت سقف واحد، مع الخلو من المنغصات، ومعالجة المشكلات، دون صبر ومصابرة وحلم وكثير من التغاضي.
ولم تفش سرًا بين خالتها والدة زوجها وبين شريكتها زوجة الجد الأخرى، فلم ينشأ عن تداخلها مع المرأتين أيّ إشكال مع أن طبيعة النساء تؤزهن أزاً للمشاركة في هذا الميدان بباطل كثير وقليل قليلٍ من الصدق والدقة، وصانت نفسها وبيت حمولتها من أيّ شقاق نتيجة الهمز أو اللمز، أو بسبب الإشارة والتوقعات الكيدية، وهو ما تبرع به جملة النساء خاصة في شؤون التعدد والأسرة الممتدة، وبعضهن تبدع بالخيال والإفساد والتندر، ولست أعمم؛ فمنهن الكافّةُ عفيفة اللسان كالمترجمة.
وحين تزوج عليها زوجها امرأة أخرى، وهي البليّة العظمى لدى أيّ امرأة ولا تلام على ذلك، تماسكت وزانها الله بالحلم والأناة والصبر، وشاركت فعليًا في حفلة ليلة الزواج، ثمّ بادلت شريكتها التقدير والمحبة، ووجهت أولادها لمساعدة أبيهم حتى لو تزوج على والدتهم، كما حثتهم على إكرام زوجة أبيهم دومًا؛ فهي على ألسنتهم وفي قلوبهم الخالة، وما أجمل الشعور بالأمان إذ يغمر قلوب الزوجات المرتبطات برجل واحد.
ولأنها أعانت زوجها في دعوته ومسالكه الخيرية، وفي حملة الحج التطوعية التي سيرها لأربعين عامًا متوالية، وهي حملة مجانية سابقة لغيرها، يصل تعداد المشاركين فيها لمئة حاج أحيانًا، ويتطلب الإعداد لها التبكير قبل الموسم بشهرين، وقبل ذلك كانت له نعم الزوجة الحافظة الأمينة المربية لعقبه، قال الأب لبنيه خلال يوم رحيلها الحزين في منتصف شهر شوال عام (1430) كأني بأمكم تقول قدموني قدموني، وكرر ثناءه عليها الذي قاله في حياتها بعد وفاتها، ليؤكد أن الرجل إذا تزوج على امرأته فليس في ذلك منقصة عليها، وحاشا أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن النقص والتقصير.
هذه جولة عاجلة صبيحة العيد السعيد مع سيرة عطرة لامرأة من أناسنا، عاشت في عصرنا، ولم تجهد نفسها فيما يضيّع العمر والصحة دون مكاسب دنيوية ذات بُعد أخروي، ودون باقيات صالحات وآثار مباركات، وحسنات إثر حسنات، وما أجدر مثل هذه السيرة بالتداول، وما أوجب الاقتداء بالدكتور السلومي من قبل الأبناء والبنات للتعريف بالآباء والأمهات، فمن كان هؤلاء أوائله لا ينبغي له أن يحيد عن الصراط المستقيم، وإن زاغ رجع على عجل!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد أول أيام عيد الفطر المبارك 1441
24 من شهر مايو عام 2020م
One Comment
جولة موفقة منك الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . بصبيحة العيد السعيد مع سيرة عطرة للام والمربية الفاضلة نورة الشارخ . وجعل مثواها جنة الفردوس . وحقا لاابنائها الفخر والاعتزاز بهذه الام التي تعتبركنزا لزوجها ولاابنائها . فهي ام مربية بالفطرة .ولا تحتاج الى طرق تربية . فهي ربت اولادها بالاحساس الفطري التي حباها الله العلي القدير اياها. فلقد وفرت لاابنائها راحة نفسية عظيمة قبل ان تكون راحة جسدية بلمسة انسانية حانية لاتفقد الحزم ولا تهجر اللطف