عرض كتاب مواسم ومجتمع

قصة الشاي

قصة الشاي

التاريخ عظيم أيًا كان مجاله، سواء في جانبه السياسي، أو الثقافي، أو الحضاري، أو العلمي، أو العسكري، وإذا كان عن دول، أو مجتمعات، أو أفراد، وإن تطرق للأماكن بأنواعها، والمهن على اختلافها، واللغات على تباينها، والعلوم على اتساعها، والصناعات والتجارات، وحتى الطعام والشراب لهما تاريخ نقرأه في التراث الضخم عن الماء، والبهارات، والمحاصيل الزراعية، ومطابخ الأمم، ومشروباتها التي تنعش الخاطر، وتصلح الكيف والمزاج.

بين يدي كتاب عنوانه: قصة الشاي، تأليف إي.جايوانت بول، ترجمة هناء العمير، صدرت طبعته الأولى عام (1439=2017م) عن مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض الذي ينشط في إصدار المفيد ضمن حقول كثيرة، وعدد صفحاته (175) صفحة مكونة من مقدمة المترجمة فعشرة أقسام جميعها عن الشاي في أصله، ومنشأه، وتجارته الدولية، وزراعته، وتسويقه، ثمّ متفرقات عنه، يتبعها الهوامش، والكاتب مؤلف من الهند مهتم بالتاريخ وله تآليف سابقة، وأما المترجمة فكاتبة من السعودية ولها عدة مقالات وترجمات.

تقول المترجمة أ.هناء العمير إنها -غفر الله لها- لم تكن تعير الشاي أيّ اهتمام، وبعد قراءة هذا الكتاب أدركت أن هذا المشروب يحتل مكانة أكبر مما نتخيلها، ثمّ انثنت فأثنت على سرد الكاتب الممتع والسلس، وذكرت بأن الكتاب يهم العاملين في الزراعة والتسويق والتجارة وليس ذواقة الشاي والمثقفين فقط، كما اقترحت على الباحثين مشروع تأليف عن قصة الشاي في المجتمع السعودي، وختمت بأبيات من قصيدة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، وهي جميلة المبنى سامية المعنى.

لأصل الشاي أساطير رواها المؤرخ الهندي منها أن أحد أباطرة الصين اكتشفه فجأة إثر هبوب الهواء بقوة حاملًا أوراق شجرة من حديقة قصره إلى كأسه المترع بالماء المغلي، فلما راق له طعمه آثر أن يشارك شعبه بهذا النقيع الرائع ولا ينفرد به دون جموع دانت له بالطاعة والولاء، بينما الحقيقة الثابتة أن أول إشارة للشاي وردت في معجم صيني قديم نشر عام (350) قبل الميلاد.

ثمّ أصبح الشاي جزءًا لا يتجزأ من حياة الطبقة الغنية في الصين واليابان، وغدا من رموز حسن الضيافة ومراسيمها، وأولع به شاعر صيني شهير حتى أعلن أنه لا يبالي بشيء عدا مذاق الشاي، وألف كتابًا يحتوى على أساليب تقديم الشاي لازالت متبعة حتى اليوم، وتفنن المغرمون به في نسبة الفوائد الصحية له دون أن يصنفوه من الأدوية التي تغني عن العلاج؛ وعادة بني الإنسان أن يسرفوا إذا أحبوا وإذا أبغضوا، ولم تترك بعض الحكومات هذا الميدان إذ فرضت عليه الضرائب لتجني الأموال من شغف شعوبها.

من لطيف قصص هذا المشروب أن إمبراطور الصين كان ذواقًا للشاي وكتب بحثًا عنه، ولذا خُصصت طريقة لقطاف الشاي الإمبراطوري، إذ ترتدي العذارى الصغيرات قفازات، ويستخدمن مقصات ذهبية لقطف براعم الأوراق، ثمّ توضع في صحن ذهبي قبل أن تنقل إلى كأس الإمبراطور، ولم تكن هذه الطريقة النقية المكلفة التي استأثر بها القصر متاحة لعامة الناس؛ فلم يغنم هذا الإمبراطور المحمدة التي نالها سابقه صاحب الحديقة، وفيما بعد أصبح قطف الشاي وظيفة نسائية لرقة أناملهن، ودقة عملهن.

انتقل الشاي من الصين إلى اليابان في القرن الميلادي الثامن، وفي سنة (729م) قدمه إمبراطور اليابان إلى مئة قسيس حضروا درسًا في قصره الملكي، فزرع هؤلاء القسس الشاي بعد أن أعجبهم في معابدهم، وارتبط شربه ببعض الطقوس، ثمّ أصبح المشروب ذا شعبية جارفة نجم عنها حضوره اللافت في المناسبات الاجتماعية، وافتتاح المقاهي التي صارت مؤسسات مجتمعية مهمة ذات معمار خاص خال من التكلّف، ولليابانيين عادات في صنعه وطرق لتقديمه، وهو مرتكز بقوة في ذاكرة الثقافة اليابانية حتى مع طغيان الطابع الأمريكي.

وكانت بريطانيا هي المستهلك الأول للشاي الهندي ثمّ أزاحها الهنود بعد ذلك بسنوات طويلة، وأكثر الشعوب العالمية استهلاكًا للشاي بعد الإنجليز والهنود هم الروس والأمريكان، وأما إسلاميًا فيرتفع استخدامه في باكستان وتركيا وإيران، ويتصدر أهل العراق والسودان ومصر إخوانهم العرب في هذا الميدان، ويمثل مستهلكوه نصف سكان العالم، ويأتي في المرتبة الثانية بعد القهوة، ومن العجيب أن يشربه الشعب الإيرلندي بالجالون، ويعدُّه أقوام في أواني الطبخ المخصصة لوجبات الطعام، وسمعت مرّة عن أناس اضطروا في السفر لصنعه في قدر الغداء!

ومن فرط الافتتان به وصفه شاعر إنجليزي بكلمات خالدة: “الشاي سلوانٌ وتصوّف وفنٌّ وطريقة حياة، وهو مثل الدم للشعب”، لذلك لم يستطع الإنجليز القتال في الحرب العالمية الأولى والثانية من دون ارتشاف الشاي، علمًا أن أول ذكر للشاي في الأدب الأوروبي جاء في عام (1559م)، وأول من جلبه لأوروبا هم الهولنديون عام (1610م)، وروى ضابط هولندي عمل في اليابان أن هذا المشروب مقدّر جدًا لديهم، ويرفهون به عن أصدقائهم، وقيمته عندهم تماثل الألماس والياقوت والأحجار الكريمة.

أما أول إشارة إنجليزية محفوظة عن الشاي فتعود لأحد موظفي شركة الهند الشرقية عام (1615م)، وأول بيع علني للشاي في إنجلترا حدث عام (1657م)، ومع أن القهوة سبقته إلى لندن، وازدهرت بها المقاهي وصارت مكانًا للتأثير السياسي والتجاري والاجتماعي والأدبي، إلّا أن الشاي أقصاها بسرعة وصار سيد المشروبات فيها سواء في البيوت أو المقاهي أو أمكنة العمل.

كما نُشر عنه أول إعلان تجاري لسلعة في صحيفة لندنية، ومن اللافت أن الأمريكيين قاطعوا الشاي نكاية بالمحتل الإنجليزي إبان حرب الاستقلال، وأطلقوا على الشاي اسم “البلاء العظيم”، وهاجموا السفن التي تحمله ورموا صناديق الشاي في البحر بعد أن حطموها، وحتى لا يحملوا وزر اقتراف هذا العمل غيّروا مظاهرهم إلى هيئة تشبه الهنود الحمر في الملبس والشكل، وهذا التزوير سياسة قديمة مستمرة لنسبة الإجرام إلى فئة مظلومة.

وقد بدأ الشاي في إنجلترا مشروبًا أرستقراطيًا بعد زواج الملك تشارلز الثاني والأميرة البرتغالية كاترين عام (1662م) المغرمة بالشاي حتى أشاعته في البلاط البريطاني، ثمّ صار المشروب الشعبي الأول عند كافة الطبقات من الأكواخ للقصور، ومن الطرائف طمع الحكومة بفرض الضرائب على الشاي السائل أولًا مما تسبب في مشاق عديدة لصعوبة قياسه، حتى جعلتها على الجاف منه، وبعد ازدياد عمليات التهريب مع الاحتجاج الشعبي خفضت الضرائب إلى نسبة متدنية، وحين تضايق الملك تشارلز الثاني من النشاط السياسي للمقاهي أغلقها عام (1675م) ثمّ اضطر لإلغاء قراره بسبب ضغط المجتمع لأجل الحرية، ونشوة شرب الشاي في المقهى.

ومع التعصب الشديد للشاي وربطه بالعراقة والحكمة والصحة، ظهرت آراء أخرى تنسب إليه تدمير جمال الأنثى، ورأى البعض أنه ينهك اقتصاد الدول مع أن الاقتصادي صاحب هذا الرأي ظلّ يستمتع بشرب الشاي وينتظر وقت تقديمه، ولم تفلح هذه المساعي في ثني الشعب الإنجليزي عن مشروبه حتى صار شرب الشاي إدمانًا قوميًا، وربما أنه قلل من استهلاك الكحول، وخلال انتشاره في العالم ترافقت معه مواقف طريفة سواء بخلطه مع الملح، أو البيض، أو بوضعه على الخبز، أو تدخينه مع التبغ.

ولأغراض الاحتكار المقرونة بكبر التفوق الحضاري قاوم الصينيون تجار أوروبا ومنعوهم من التوغل في ديارهم، وأتاحوا لهم الإقامة في منطقة واحدة فقط، ووضعوا القيود عليهم باعتبارهم مثل الشياطين بسبب همجيتهم وشراهتهم نحو النساء والمال والحرب، ومع ذلك لم تسلم منهم هذه الدولة الضخمة فأشعلوا فيها حروب الأفيون والدمار، إلى أن اكتشف الإنجليز إمكانية زراعة أفضل أنواع الشاي بوفرة وجودة مع انخفاض التكاليف، وذلك في هضاب القارة الهندية ومرتفعاتها.

لذلك احتكر الإنجليز في الهند وسيرلانكا تجارة الشاي كعادتهم مع ثروات الأمم الضعيفة، وبرز منهم أسماء مثل توماس ليبتون الذي أثرى بسبب الشاي، وهو يؤمن بالدعاية ولو على ذيل خنزير أو في صفيحة رقيقة من سفينة أثقلتها حمولتها في عرض البحر؛ وينصح أيّ  مستثمر بأن يعلن قدر المستطاع ولكن بعد أن يتأكد من أنه يعلن عن شيء جيد، وصارت سيرلانكا مستعمرة ليبتون الذي اشترى جلّ أراضيها الزراعية، وصدّر منتجاته في علب معدنية بعد خلطها من منتجات عدة مزارع، ومن ثرائه اشترى يختًا فالتصق بالملك إدوارد الثامن المغرم باليخوت، وصار صديقًا فكِهًا له.

ومع أن الصينيين لا يطلعون أحدًا على أسرار صناعتهم القيمة، استطاع الأوروبيون سرقة أسرارها، وتأسست عند تلال جبال الهملايا أكبر المزارع لأجود أنواع الشاي، وكانت خالصة لإمداد السوق البريطاني قبل أن يستحوذ الهنود على أكثر إنتاجهم بعد أكثر من قرن، فأفاد الإنجليز من محصول سيرلانكا الذي لا يستهلك محليًا، وكانوا قد استعدوا من قبل فنقلوا زراعة الشاي إلى كينيا وشرق أفريقيا لما فيها من مرتفعات وغزارة أمطار؛ لتكون بديلًا عن الهند المعرضة لاضطرابات سياسية، وهذه من عادات المحتل الأبيض أن يمتصّ خيرات البلد فلا يدعه إلّا مضطرًا بعد تخريبه.

من متفرقات الكتاب الماتع، أن الأمريكان لم يغفلوا عن دخول هذا المجال، فمنهم عرف العالم الشاي المثلج، وسريع التحضير، والمعبأ بأكياس صغيرة، وبعد أن استغرق الشاي مئتي عام كي يستحوذ على عالم المشروبات في بلاد الفودكا كتب عظماء أدباء الروس عن الحميمية الدافئة التي يصنعها السماور- وهو إبريق الشاي الخاص-، بينما أثبت الاستهلاك الهندي المحلي للشاي أنه داعم ثمين لاقتصاد بلادهم، وأداة لحماية المنتجين من تذبذب سوق الشاي العالمي بمنع العرض الزائد في الأسواق العالمية، كما زرع الشاي في مناطق أخرى لأهداف الخلط مع غيره فقط، بينما تنتجه الأرجنتين والبرازيل ويستهلك محصولهما كله في تشيلي المجاورة لهما، وهي بلدة أوروبية العرق في أمريكا الجنوبية.

ليست الحكاية واقفة عند قصة الشاي فقط، بل فيها خبر عن عراقة الشعوب، ومسالك المحتل الذي لا يرى في ثروات العالم إلّا حقًا له دون غيره، فهكذا فعلوا مع الممرات البحرية، والبهارات، والشاي، والقهوة، والذهب، والأخشاب، والمعادن، والأسماك، والنفط، وسواء أمطرناهم بوابل من اللوم أو عذرناهم، فالواجب الأعظم على الأمم وبنيها على كافة المستويات يتركز في حفظ تراثهم، وحماية أعراضهم، وصيانة ثرواتهم، والدفاع عن بلادهم ومصالحهم، والنضال لاسترجاع حقوقهم، ومزج ذلك كله في عمل منظم متواصل مثمر أوله ووسطه وآخره يصب لصالح البلاد وجميع ساكنيها في يومهم الجميل وغدهم الأجمل.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 23 من شهرِ رمضان المبارك عام 1441

16 من شهر مايو عام 2020م 

Please follow and like us:

8 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . مقال شيق عن الشاي . رجعتني الذاكرة الى خمسة و اربعون سنة مرت . اثناء وجودي في بريطانيا وانا عائدة من السوق للبيت مع ابنتي الصغيرة انذاك . مارة بمنتزه جذبت انتباهي سيدة شابة انكليزيةمع ابنتها . واضعة الشماغ السعودي حول رقبتها . سلمت عليها وسالتها عن الشماغ . علمت بانها كانت مع زوجها الذي يشتغل بشركة نفط سعودية. وقضوا وقتا ممتعا . واخبرتني بانهم كانوا سعداء . وامتدحت طيبة الشعب السعودي واحترامه للعاملين هناك . ودعتني لتناول الشاي السعودي عندها في البيت .. غلطة مني لم اسالها في حينها كيف يعد الشاي السعودي . خواتم مباركة لشهر رمضان . تقبل الله صيامنا وقيامنا واعتق رقابنا من النار

  2. ومن إسرافنا في حب الشاي فاحت رائحة النعناع في المقال فانتعشنا بقصة الشاي وكأننا لا نقرأ المقال بل نرتشفه!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)