نساء صالحات بيننا!
روي لي قبل سنة أو أزيد سيرة امرأة راحلة ذات تعبد وسمو اجتماعي، فألححت على الراوي بأن يأذن لي بالكتابة عنها فرفض؛ وعسى الله أن يلهمه الموافقة كي تنتفع أجيالنا من تطبيقاتها ومواقفها، وتكون المآثر فينا حيّة اقتداءً بالأوائل من نساء أمتنا، وبالأواخر مثل غالية، وموضي، وصدّيقة، وغيرهن من درر المجتمع النسائي ممن قضين النحب أو ينتظرن دون أن يبدلن سنن الهدى والرشد.
لذا سررت بنسخة إلكترونية من كتاب عنوانه: صالحات عرفتهن سير صالحات معاصرات، تأليف شيخة بنت محمد القاسم، صدرت الطبعة الأولى منه عن الفالحين للطباعة والنشر عام (1438=2017م)، ويتكون من (191) صفحة، فيها مقدمة ثمّ سيرة ثلاث عشرة امرأة، فالخاتمة والمراجع والفهرس.
ذكرت المؤلفة في المقدمة شيئًا من فضل الأخبار والسير، وأكدت أن الصلاح لا يرتبط بزمن، وأنها قد عاصرت شخصيات كتابها وعاشت معهن فرأت وسمعت، أو نقلت عن ثقات ممن عرفوا صاحبة السيرة عن قرب، وإن سرد القصص لأسلوب قرآني، وسنة نبوية، وخطة رشد سار عليها أكابر علماء الإسلام، وهي خير معين في التربية والتزكية.
ابتدأت الكاتبة بالحديث عن جدتها نورة الزومان زوجة جدها الشيخ عبدالرحمن بن قاسم، ويكفي هذه المرأة الصالحة فخرًا مشاركتها لزوجها في عكوفه أربعين عامًا على فتاوى شيخ الإسلام وحاشية الروض المربع ولو لم تكتب معه حرفًا واحدًا؛ فرعايتها لبيته وولده وشأنه أكبر معين لبعلها كي يسلك سبيله العلمي الصعب، وإنه لفضل من الله كبير على الزوجات لو فقهن واستعذن بالله من شيطاني الإنس والجن!
ولم تكتف المرأة الصالحة بذلك بل أكرمت عمال مزرعة زوجها حتى قال قائلهم إن الجنة دار لأمثالها، وحافظت على النعمة لدرجة التقاط التمر من حوض النخيل، فجيّده طعام آدمي، وما دون ذلك فخير غذاء للبهائم، ولها شأن يروى فيُتعجب منه في الصلاة وطول القيام والاقتداء بالنبي الأكرم عليه السلام حتى في علاج الجروح النازفة.
فاكسبها مسلكها التعبدي نور الوجه، وبرد اليقين، وسكينة الطاعة، ولذا أحبت المؤلفة تسعة أيام من طفولتها لازمت فيها جدتها ولا تزال تجد حلاوة تلك الأيام وإن بعد العهد بها، مع أن الجدة لا تخوض في أحاديث أهل الدنيا، وجلّ كلامها عن الموت والقيامة والحساب، وهي تخوف بذلك نفسها قبل أن تعظ الآخرين.
كما صبرت الجدة نورة على ألم فقد ابنتها الشابة، ثمّ عالجت غصص رحيل ابنها الذي شغفت به حبًا حتى تضرعت لله بأن ينزع من قلبها الوجد عليه، وبعد أقلّ من عامين على مصابها بابنها توفي زوجها الذي كانت تتعبد لله بخدمته، وبعد أعوام عشرة فجعت بنجلها الأكبر، وإن المصائب مكفرات رافعات للدرجات، ولا يغير الجزع من حقيقتها شيئًا.
ومن خبرها أنها تحب في الله وتبغض فيه، وسابقت إلى تعليم الصغار الفاتحة وبعض سور القرآن، وهي فرصة لاستدامة الأجر يغفل عنها الآباء، وعمرت مجلسها بالفوائد، ولم تك منزوية بل اجتماعية تألف وتؤلف؛ حتى أن الخادمة الغريبة أحبتها ورفضت العودة لبلادها لحضور زواج ابنتها رغبة بالقرب من عجوزها المسنة الصالحة، وكانت حيية لا تخرج من دارها إلّا لضرورة، وبلباس ساتر، ولا تخيط ثيابها عند رجل، ولا تبيع خواتمها حتى لا يعرف الغريب مقاس أصابعها، وظلت كذلك حتى وهي عجوز في عشر السبعين والثمانين؛ فهل تعي الصبايا قيمة الحشمة، وأن التهتك والسفور رخص وابتذال للذات في سوق نخاسة وشهوات!
ولها مع القرآن حال، ومع التربية أحوال، ومن أراد رؤية الثمرة فليبحث عن سير السلسة الذهبية من نسل زوجها الشيخ العلامة عبدالرحمن بن قاسم، وحين تمزق غلاف مصحفها رفضت تغييره، فأعيد تجليده عدّة مرات حتى أصبح رفيق خلواتها آناء الليل وأطراف النهار، ولما أشير عليها بالاكتفاء باستماع القرآن عن التلاوة أجابت بقياس يدل على فقه وذكاء قائلة: لا يشبع الجائع من مشاهدة الطعام وإنما بالأكل منه، ولذا لم تنس الصلاة والقرآن والقيام والأذكار بعد أن أصابها بعد بلوغها التسعين شيء من الخرف أنساها أسماء بنيها.
أما ثاني شخصيات الكتاب فعمة المؤلفة سارة القاسم، وهي امرأة صابرة قرآنية تقرأ خمسة عشر جزءًا في اليوم الواحد، وتقوم بنفسها ولا تكلف أحدًا، وتحفظ المعروف لأهله حتى أشركت في أضحيتها زوجة خالها، وتجتنب الحديث عن الناس، ومن فهمها ووعيها أنها لا تقبل العبارات والمفاهيم المعلبة على عواهنها؛ فالوحدة لديها عبادة، وإكرام النفس عندها في هداها وليس في هواها، إلى كلمات أخرى لها محفوظة تنبئ عن ذهن متوقد، ونفس إيجابية.
ثمّ انتقلت المؤلفة إلى نسوة من غير أسرتها، فمنهن مها الدبل التي عرفتها الكاتبة كلمة في قصيدة أبيها الرثائية، فتلميذة مجتهدة في مدرسة أثرت فيها كلمة صادقة من معلمتها، وبعد سنوات أصبحت صديقة فامرأة ذات شأن مع الله فيه أعاجيب، إذ حقق الله مطلبها الصعب يوم أن توسلت بعمل صالح خفي مثل أصحاب الغار، ومن صلاحها -نحسبها كذلك- أنها جمعت في يوم وفاتها ثلاث علامات لحسن الخاتمة.
وليست نساء الكتاب من المملكة فقط، فمنهن بلقيس الإفريقية التي تحولت من كافرة عدوانية إلى مسلمة مسالمة صالحة بعد أن دخلت في السجن، وأسلم على يديها في محبسها وبلادها خلق كثير، وفيهن أم عبدالله اليونانية التي أسلمت بفضل صدق ديانة زوجها، ومشاهدتها لمنظر الحجيج يوم عرفة، وأبدت رغبتها بأن تسلم عبر كلمات تداخلت فيها ثلاث لغات، وانتهاء بزهرة الصومالية التي ابتعثت إلى بريطانيا فجاهدت لتحصل على منحة في المملكة، كي تدرس علوم الشريعة، وتنجو من الاختلاط، وتكون في دار الإسلام وبين المسلمين.
أيضًا فليست جميع نساء الكتاب من كبيرات السن، مع أن الكبيرات منهنّ عرفن نعيم التقوى منذ يفاعتهن، ومع ذلك جعلت المؤلفة بعض السير للشابة مها السريع التي عمرت قلبها بالخير والقرآن، ثمّ ماتت بحادث سير فتعاون الرفقة على بناء مسجد لها، والصدقة والعمرة عنها، وتحدثت عن سمر التي أقبلت على حفظ القرآن ولم يحل دون بلوغ أمنيتها حملها وولادتها إلى أن نالت مرادها الأعلى في أيام نفاسها، وعند قصة أمل يقف القلم ويولد الأمل.
كما نقلت المؤلفة طرفًا من أخبار نورة الجبرين الورعة التي تعلمت القرآن على كبر وكانت مجابة الدعاء؛ فسألت الكريم بيتًا تملكه، وطريقة مريحة لها في الوفاة فكان كما أرادت، ومثلها أختها هيا الجبرين المشغولة بالقرآن، البعيدة عن إفشاء أسرار بيوت أقاربها التي تتنقل بينها بعد ترملها دون ولد، ولها كسب من عمل يديها أوقفت منه بيتًا.
ومن أعجب شأنها أنها ظلت عشر سنوات بعد أن أصيبت بجلطة لا تنطق بغير قولها: لا إله إلا الله، وحين ماتت انكشف في عزائها من حالها الخفي أمران، أولهما: أنها علّمت جاراتها ونسائها القرآن في حدادها على زوجها الأول، والثاني: تكفلها بتربية رضيع فقد أمه ولم يعلم عن صنيعها هذا أحد إلّا يوم أن جاء رجل خمسيني يسعى لعزائها مخبرًا الجموع أنها أفاضت عليه من حنانها ورعايتها وهو رضيع يتيم.
كذلك من الفاضلات المذكورة سيرهن في الكتاب نورة اللحيد ومن قصصها تعاونها مع والدة زوجها في المناسبات والأعياد، مع حسن رعايتها لبنيها وبني إخوان زوجها، وأفضالها على جيرانها إلى أن ماتت وهي تصلي في مسجد الحي خلال شهر رمضان، ومنهن أم صالح الشايع صاحبة الصلاة والذكر وطول قيام مع ابتعاد عن الكلام فيما لا ينفع، وبعد ذلك تقول لمن أظهر احتفاءً بطريقتها بأنه ليس لديها شيء زائد!
هذه روايات باهرة مستعذبة، وتركت غيرها للقارئ، ولعلّ مثل هذا الكتاب أن يكون مع الرجال والنساء، فيحسن الأوائل التربية والتزكية والعشرة، وتبرع الأواخر في الاقتداء والاهتداء، فالمكر عظيم، والصبر والمصابرة في الرباط على ثغور الإيمان والفضيلة له من الأجر الكبير ما تهون معه شدائد، إلى أن يتحطم الكيد المحيط بنساء المسلمين ما ظهر منه وما بطن، والله متم نوره ولو كره إبليس وجنوده من الثقلين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 11 من شهرِ شعبان عام 1441
04 من شهر إبريل عام 2020م
2 Comments
جزاك الله خيرا الكاتب احمد حفظه الله ورعاه . على هذا المقال القيم المفيد النافع الشارح للصدر . وكما تفضلت سرد القصص لااسلوب قراني وسنة نبوية خير معين في التربية والتزكية . ونحن النساء نقرا عن النساء الصالحات . بعد قراتي لسيرة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وولده الشيخ محمد بن القاسم وجدة نوره الزومان جعل مثواهم جنة الفردوس الاعلى . ومما ادخل السرور على قلبي اننا كنا في مدارسنا معلمة الصف الاول تدرس الدين والقراءة والحساب والرياضة . فالحمد. لله على تحفيظ طلبتي الفاتحة وبعض سور القران . وكذلك اولادي جميعهم . اسال الله ان لايحرمني الاجر .اقتدينا بالاوائل من نساء امتنا . والاواخر في الاقتداء والاهتداء